في رواية «مشكلة سبينوزا» لإرفين د. يالوم، نقرأ على ما يلي: «التفت هتلر إلى ألفريد، وقال: «آه باعتبارك صحفيا، أرجو أن توافقني الرأي بأن الحقيقة هي كل ما يصدقه عامة الناس….»..». لا تهم الحقيقة «الواقعية» ما دامت الحقيقة تعتمد على نحو كلي على الأداء الإعلامي، لأن هذا هو ما يؤثر بالفعل في تكوين الصورة العامة للقوة المهيمنة. ولهذا يستثمر الغرب ثروة هائلة لبناء قوته الإعلامية وإنشاء وسائل إعلامية تحقق أهداف سياساتها الخارجية وتؤثر في اتجاهات الجماهير في دول العالم.
يرى نايف بن نهار، الباحث في «مؤسسة وعي للدراسات والأباحث»، أن «الفخ الذي وقع فيه الغرب هو أنه لم يأخذ الحرية ويضعها ضمن مرجعية أخلاقية، بل جعلها هي نفسها مرجعية، ولذلك يقف الغرب اليوم عاجزًا عن إيقاف الانحدار الأخلاقي المتسارع، فكلما ظهر ظاهرون بسلوك أخلاقي مشين تصدّت لهم الأغلبية بأن ذلك غير لائق أو غير أخلاقي، فيرد عليهم أولئك: هذه حريتنا ويحق لنا أن نفعل ما نشاء».
وأكد الباحث في مقال بعنوان: «لماذا تنهار الأخلاق الغربية بهذه السرعة؟» أن الغرب اكتشف أن «الحرية التي جاءت لحماية الأقليات من الأغلبية قد قلبت الطاولة على الأغلبية نفسها، فأمست الأقليات تستغل الحرية لتدمير أخلاقيات الأغلبية. ويزداد الأمر سوءًا حين تكون الأقلية ذات مكنة في الإعلام والأموال، كما هو واقع في عصرنا الحالي، حينها يسهل على الأقليات إرهاب الأغلبية بأدوات مختلفة، ولذلك نجد مؤيدي الانحرافات الجنسية أقلية، لكنهم مع ذلك فرضوا موقفهم على الأغلبية، فترى كثيرًا من الغربيين يرفض الشذوذ وتحويل جنس الأطفال لكن يخشى من الاعتراض، حتى الأكاديميين الغربين يخشون نقد ما يجري من انحرافات غربية خوفًا من ردود الأفعال».
وتابع: «المشكلة بدأت حين ضخّم الغرب الحرية ونقلها من قيمة إلى مرجعية؛ لأن الحرية حين تكون مرجعية فإنها تفتح الباب لكل الرغبات المجنونة، فمن البداهة أن الناس تتوسع في رغباتها كلما حققت شيئًا منها، ولما كانت الرغبات بلا مرجعية أخلاقية تضبطها فإن النتيجة أن الرغبات نفسها تكون هي المرجعية، وهكذا لا تكون الحرية الليبرالية سوى وسيلة لتضخيم الرغبات وهيمنتها على الإنسان، وهو ما يفسّر الانحدار الأخلاقي المتسارع في الحالة الغربية المعاصرة.
قبل مئتي سنة حاول جون ستيورات ميل _ المنظّر الأشهر للليبرالية_ أن يعالج جموح الحرية حتى لا تصل إلى ما وصلت إليه اليوم، وذلك من خلال ربط الحرية بمرجعيتي «العقل» و «الفطرة السليمة». هكذا كان ستيورات ميل يظن أنه أوجد صمام أمان للحرية. لكنه لم يكن يدري أن العقل كائن ضعيف حين يتخلى عن دعم المرجعية الأخلاقية، ولذلك حين يُترك العقل وحده كمرجعية فإن الرغبة تنتصر عليه بسهولة، وهذا منطقي؛ لأن العقل والفطرة السليمة مفاهيم ذهنية لا تنطق بذاتها، ولذلك تتجاذبها عقول الناس المختلفة.
بمعنى آخر: نقطة ضعف العقل الأساسية أنه لا يوجد متحدث رسمي باسمه، ولذلك كل شخص يستطيع أن يدعي أن ما يفعله هو عين العقل، ولو كان ما يفعله مجرد رغبات مجنونة، ولذلك حين نحيل إلى العقل وحده فنحن نحيل إلى مرجعية زئبقية لا يمكن أن يُبنى عليها، ولذلك كان غوستاف لوبون دقيقًا حين قال: «لا أعلم منذ بدء العالم أن أي تمدن أو أي نظام أو أي معتقد وُفّق للبقاء مستندًا إلى مبادئ ليس لها غير قيمة نسبية».
إذن الفخ الأكبر الذي وقع فيه الغرب أنه جعل الحرية مرجعية للقيم، وليست قيمةً ضمن مرجعيةٍ ما؛ ولأن الحرية لا تملك موقفًا أخلاقيًا يحكمها، فقد أصبح كل إنسان حرًا في أن يوقف الحرية عند الحدود التي يرغبها، ولأن رغبات الناس لا تنتهي فإن مفاجآت الغربي في الانحدار الأخلاقي لن تنتهي كذلك».