باطمئنان شامل، يُفْرِغ بورخيس نوعا محددا من الكتب من كل قيمة. يقول: «ليست هناك إلا حالة واحدة يكون فيها الكتاب بلا قيمة: هي الحالة التي يتطابق فيها الكتاب مع نوايا كاتبه ومقاصده». فهل هذا الكتاب موجود أصلا؟ أليس للكتب وجود مستقل عن الكُتَّاب؟ ألا تتمرد الكتب دائما على أصحابها، فتنزاح كل الانزياح عن نواياهم اللغوية والتخييلية والدلالية؟ هل هناك، على الأقل، كتاب واحد يحاكي نوايا الكاتب ويُجَمِّدها في «معنى قصدي» واحد؟ هل يمكن تفسير النوايا كتابة؟ ألا تخفي الكتابة مضمرات تقع خارج القصد؟
إن الكتاب الذي يتحدث عنه بورخيس اختراع بورخيسي لا وجود له في الواقع. ليس هناك أي كتاب على الإطلاق لا يتجاوز نفسه، أو لا يقوم بمعارك مستمرة ضد نفسه. أليس هذا المعنى العميق لعبارة … «لا نقرأ الكتاب نفسه مرتين»؟
فالقراءة لا تتركز في الفهم، بل في التأويل وتحريك الهواء داخل النص والتقاط المضمرات وكشف الحجب وإزالة الألغام وإبطال الفخاخ. إنه نوع من الحوار الداخلي الخاص مع النص، فهمه دون روابط تفسيرية، ودون أن نتوهم أن الكلمات مجرد إلهام غير مفهوم أو غير قابل للفهم. الصراع معه. إلباسه دلالات جديدة. مطاردة العناصر الهاربة. إن النص لا يقول لك: «اسمعني بانتباه. لدي شيء مهم أريد أن أرويه لك!»، بل يصرخ في وجهك «هل أنت جاهز للتحليق، تعال لنستمع للموسيقى معا في مكان عام!». فهل من الضروري أن»نقرأ» الموسيقى/ النص بالفهم نفسه؟
إن «تطابق النوايا» بين الكاتب والكتاب أمر مثالي لا يمكن أن يتحقق في الواقع إلا بدرجات متفاوتة وغير ثابتة. ذلك أن القارئ يساهم في إنتاج معان جديدة لم تلتمع في ذهن الكاتب، ولم تكن تخطر له على بال. إنه لا يكتفي مثلا بتتبع الجمل، بل «يبدعها» ويضيئها بفهمه الخاص الذي قد يختلف جذريا عن المعنى القصدي. وبهذا المعنى، فإن القارئ دائما يذهب باتجاه النص على نحو سيء، حتى وهو يحاول أن يتزود بخيط أريان ليسلم من الضياع.
يقول بيتر هندكه: «مع فرجيل وهولدرلن وشار تعلمت القراءة حقا، تعلمت أن أرى. كان الأمر بمثابة دخول إلى قلب جبل واكتشاف بأن هناك نورا آخر؛ نور اللغة». القراءة هنا هي الرؤية/ الرؤيا التي تجعل القارئ، كل قارئ، يؤمن بأنه يخوض معركة حامية الوطيس ضد اللغة التي تخفي عنه كل شيء، لأن ما «تظهره» مجرد أوراق وأعشاب تحجب الحفرة أو الفخ. اللغة تضل ولا ترشد، وتتصرف دائما بغطرسة الصياد. ليس في «جبل هندكه» حيوان واحد ينبغي إسقاطه. لا تموت الحيوانات كلها بالسهام، بل إنها تتصرف في حياتها بشكل مختلف مع كل قارئ.
ليس هناك أي كتاب على صواب، لأن المعنى في النص لا يتحدد بالفكر فقط، بل يتحدد بالشكل بالدرجة الأولى. والسؤال هو: هل هناك معنى واحد للنص حتى نتحدث عن شكل واحد؟ ما هي العناصر المحددة للشكل؟ هل الكاتب قريب دائما من كلماته؟ أليست هناك دائما، في كل نص عظيم، حوادث درامية مع اللغة؟ ألا يتحدد المعنى بقارئه؟
الكتاب الذي «يتطابق» مع المعنى الحرفي لنوايا صاحبه لا يوجد إلا في حيز الاحتمال بالسلب. ذلك أن كل الكتب لا تعرف، في العمق «كل شيء»، أو إنها على الأقل «مصابة بنسيان ما»، أو سقطت منها أشياء لا تدرك بالفعل أنها سقطت، بل إنها تتعثر على الدوام بأشياء لم تكن تعي وجودها بالفعل. الكتاب هو الذي يستمر في الحديث بمعزل عن نوايا كاتبه. لا يكترث للنوايا لأن لديه نواياه الخاصة التي تتغير باستمرار. الكاتب ليس هو السيد، وليس هو الآمر والناهي؛ والكتاب هو الذي يعمل بقصد أقل. قد يمتلئ بالإشارات و»الشروحات» و»الإضاءات» و»التعليمات»، لكن قد يكون «الإرشاد» هو الفخ، ما دامت الكتابة تقوم على الطمس. ليس هناك إرشاد مجاني إلى النوايا. هذا وهم الكاتب الذي يظن أن الفكرة تتفوق على تجسدها «الجمالي» المتغير، وإلا لكنا نقرأ جميعا لزوميات المعري بالطريقة نفسها، دون أن نخشى من الضياع، ولاكتفينا دائما بالجواب على السؤال التقليدي: «ماذا أراد الكاتب أن يقول؟»، علما أن النوايا نوع من ألاعيب المعنى.
قول الكاتب دائما أشبه بالسفر نحو «الضوء الهارب» الذي لا يمكن الإمساك به. نراه دون أن نقوى على التحديق فيه بعينين مفتوحتين، نظن أننا نخترقه، بينما هو الذي يخترقنا في واقع الأمر. ننبهر به فيستدرجنا دائما إلى مكان آخر. نريد أن نحط الأقدام عليه فيما هو سائل ومائع ومتسرب ومنفلت باستمرار.
على هذا النحو، يظهر أن «ما يقصده الكاتب» فعل ناقص، ما دام يأتي دائما من أصقاع مجهولة أو مخفية، وما دام يتبدد الكثير منه، أو ينكشف، عند كل قراءة جديدة. فالقصد، أي قصد، يجفل دائما أمام تغير العصور والأمكنة والمعارف، على الرغم من أنه ليس بوسع القارئ إهمال ملاحقته ومحاولة القبض عليه لإضاءة السري والمبهم. ولهذا من عادات الكِتاب أن ينتظر «الزائر المقبل» ليمنحه قصدا جديدا لم يكن يتوقعه صاحبه، بصرف النظر عن الانسجام والترابط والأسلوب والتخييل والسياق: العناصر التي ينشأ منها المعنى ويتجدد.
وعليه، فإن القراءة تتعامل مع «نوايا الكاتب» بوصفها «مركزا مشبوها» لا يمكنه أن يثبت أمام استقلالية الكتاب، بصرف النظر عن الجدل المتجدد حول «موت المؤلف» أو إحيائه. ذلك أن كل كتاب يقع خارج النوايا المقيدة للقراءة.
قيمة الكتاب
الكاتب : سعيد منتسب
بتاريخ : 25/10/2024