كأنها نائمة

كدت أقبض عليك يا محمد قي المنامات. كنت تتسلل من مكان إلى آخر كلص أخافته الكاميرا. الليل موحش، وسماء رصاصية والدار البيضاء لم تكتب سيرتها بعد، تتهرب كطيف غادرته السماء، وأمسى عاريا، وحين وجدتك في زاوية موصدة قلت لك هل كتبت حكايتها؟ ابتلعت السؤال، ولم تنبس ببنت شفة. قلت كما لم تقل شيئا، ولكني حدست أنك قلت بصوت خافت، ودافئ: كأنها نائمة.
الحكاية لا تنام في الليل. الحكاية تتوالد كما ألف ليلة وليلة، كما الدمى الروسية كما أنا وأنت والحكاية.
قل حكايتك واخرج من هذا الركح اللعين. صمدت كعادتك، وكعادتك طبعا لم تبتلع الحكاية. اتكأت في الحنجرة ونامت هناك مسندة رأسها على تفاحة آدم. أنا وأنت متخاصمان، أو بالأحرى خصمان لا أحد منا يريد تلك البوصلة إلى آخر. سأتحرر منك، ومن المواضعات التي تفرضها الكتابة وسأتركك وحيدا في شوارع الدار البيضاء تسرد حكايتك، وثق بي أني لن أتابعك كبصاص لأني ببساطة أكره مهنة البوليس. ليكن هذا الاتفاق سرا بيننا فادخل إلى حكايتك كما روتها الدروب الملاصقة لمدام غيران Madame Guirane.
انطلق محمد كرصاصة لا تعرف اتجاهها. قال بصوت مبحوح هل الحب هو قصة الحب؟ لا أدري أين قرأت هذا السؤال ومن هو صاحبه، ولا أدري هل أستطيع الإجابة عنه أم أستره بحجاب الحياء والفحولة المبقعة بدماء الأرامل.
قصة الحب لا تنتهي. تعرف البداية ولكنها لا تنتهي. سأموت وسأدفن قصة الحب معي، ولكنها لن تقوى على الرطوبة والتراب. ستتحلل الى قصص أخرى وتهرب بعيدا إلى ملكوت الله حيث أطنان من هذه القصص مطوية ومحزومة بسولفان أحمر. الاحمر هو لون قصة الحب، والحب بدون هذا اللون لا يعول عليه. لم أكن أنا هو قصة الحب هي التي كانت تسقيها بماء كي تعطي للقمر معنى في آخر الليل.
في آخر الليل كنت طفلا أسرد القصص وأغني للقمر ولا أحزن، أقشر الليمون وأبتسم لهذا اللون الذي غطاني مدة طويلة ولم أسرده للشمس والقمر معا كأني أخاف من قطاع الليل وزواره الملثمين بالعنف والقساوة. انفتحت القصة في الطريق إلى الله ولم أستح حين غطيتهما بالصوف من قرس الليال الباردة، هي كانت ترفض حجبها بالاستعارة وأنا سكران بها، ولكني لم أكتب قصة الحب كأني لا أريد دفنها في الأرشيف. يحلو لي بعد الفجر بقليل فتح النوافذ كي أحرر رقصة الحب من رطوبة ورائحة النعاس، ولا أستطيع الانفلات من زمن الحكاية.
كنت طفلاً أقشر الليمون وأقص حكاية غيري على الأصدقاء بينما قصتي مسندة جنب تفاحة آدم. مازالت تنام بجانبي. أغطيها بالبسملة ولا أريد التدخين ولا حتى شرب كأس نبيذ. أذكر أني رميت كل هذا حين بدأت حبيبتي تهيئ حكاياتها للمستقبل في الجهة الأخرى من البيت. صورة لينين بابتسامته، وصورتي أنا بالقبعة الروسية التي لا تشبهني.
كنت الوحيد الذي يزعج النظام والتنظيم. كنت أنيقا كبرجوازي صغير يرقص على الحبال ويعود إلى قصة الحب التي لم يكتبها أحد.
الحب ليس هو قصته. هي الآن نائمة مغطاة بذكريات وبخور المرحلة وأنا أرغب النسيان، ولا أنسى. النسيان ذاكرة والعكس صحيح تماما.
كنت طفلا أقشر الليمون وأرى الدار البيضاء تكبر وتكبر، واللصوص يكبرون ويكبرون وأنا أتهجى حروفها كي أطوي الحب في قصة الحب، وأخيطهما بخيوط من صوف وضوء.
ما زلت طفلا أحلم بكتابة قصة حب. أحاول عبثا الانطلاق من مدينة تدهشني. أقوم بما يقوم به الزملاء. أدخل ضريح مولاي بوشعيب تختلط حكايتي بحكايا الموردين، وأتبعهم حسب طقس الزيارة. نمتطي مركبا متجهين إلى عائشة البحرية. نرى البحر ولا نجد عائشة. هي الأخرى أغرقت حكايانا في الماء وهربتها إلى البحر، وبعض الحكايا أضحت شجرا ونباتا يحرس الماء بدون إذن من الله.
حكايتي هي الأخرى هربتها عائشة البحر. غدا سأتبعه الى مخفر الشرطة، وأخبرهم بهروب الحكاية سأحتج عليهم، وعلى الجميع، سأصرخ قبالة الضريح وسأطلب بلكنة الشحاذ من الماء إعادة حكايتي.
الحكاية لا تعود حسب منظريها. هي تتلبس بلبوسات أخرى. في كل مرة تأتينا بقناع كما العروس الفاسية أو كما مغنيات آخر هذا الزمن. سأنشر بلاغا في الصحافة عن الحيف الذي أوقعتني فيه هذه المدينة التي أحب. ربما نسيت الحب وقصته، ولم أستطع كتابتها. الكتابة تحفظ الذاكرة من التلف والخرف. كل شيء يتزاحم في حلقي، كدت أختنق. السماء رصاصية والدروب القريبة من مدام غيران فارغة، واللصوص الجدد يكبرون ونحن نخاف من قصصنا حتى لا يسرقها السراق الجدد… سراق يتفننون في صنع الفيروسات والاشاعات واختراق الحواسيب وخلق الفوضى وفوضى الخلق وقصة الحب، وحب القصة، وأنا وهي كأنها نائمة لازالت تغزل حكايتها بالصوف، وأنا أنظر ابتسامتها ولا أستطيع الوقوف. أحاول عبثا طي حكايتها، وضعها في البلكون لكنها تنفلت كالدموع هي لم تقل الحكاية، وأنا لم أكتب قصة الحب.
أرى القمر بعيدا يتفرسنا بمكر ولا يقوى على الشهادة حيث أغرقت عائشة البحرية حكايا زوارها. لوكان هؤلاء يعشقونها لما أغرقت حكاياهم في النهر. أعياني النسيان. أحتاج إلى فنجان قهوة. ارتديت ملابسي بسرعة وخرجت إلى أقرب مقهى .جلست وتأملت شقتي من الجهة الأخرى من الشارع. العصافير تهرب من فساد الهواء وتبني أعشاشها قريبا من نافذتها. لأول مرة أرى العصافير تقاوم تلوث المدينة بلصوصها ومشرديها وفقهائها ويسارها الكئيب.
احتسيت قهوتي بسرعة، وعدت إلى البيت. كان البيت نائما على سريرها والحكاية مستلقية قرب المكتب كقطة تموء بمكر بائن، وبقليل من المكر خرجت من قناع السارد.
أشعلت المسجل، موسيقى روسية تتغنى بالكلاشنكوف كانت تعجبني. حين كنت طفلا أقشر الليمون بأصابعي الرقيقة رغبت الرقص مع الحكاية لكنها تمنعت بغنج وحياء وأغلقت النوافذ كي لا يفضحني أحد. ورميت القلم بهذا الطفل الذي يتبعني في المنام.


الكاتب : حسن إغلان

  

بتاريخ : 17/03/2023