كارثة بيئية تهدد مصب أم الربيع: بين الإهمال والجفاف وتدهور الموارد المائية

فاعلون جمعويون: انعدام المراقبة واستقبال النهر لمياه الصرف الصحي حول النهر إلى بركة آسنة

بعد تماطل الحكومة نناشد جلالة الملك للتدخل وإنقاذ هذا المورد البيئي الحيوي

 

لا يمكن لزائر أم الربيع بمدينة أزمور أن يمر عليه دون أن تلفت نظره حالة النهر الكارثية، المثيرة لألف سؤال وسؤال، لم يعد الماء ماء، ولم تعد الضفة كما عهدنا الضفاف، هي لا تشجع الزائر على الاقتراب ولا تغريه ليركب، كما السابق، تلك المراكب الخشبية الراسية على جنباته مثل أشباح بلا حياة، وحدها النتانة سيدة الموقف، والروائح الكريهة المنبعثة منه تعقد الألسن وتخرس الأفواه، أما الجو العام المخيم عليه فلا يبعث سوى على الاكتئاب والحزن لمآل ثاني أطول الأنهار في المغرب، ومآل مصبه ذي الأفق المسدود ليس فقط بأطنان الرمال المتراكمة التي تدفعها الأمواج البحرية دفعا وسط النهر بل بانعدام الحلول وتوالي سنوات الجفاف التي فاقمت من وضعيته البيئية وتلوثه الذي حول زرقة مياهه إلى اخضرار كريه واصفرار شاحب شحوب مريض يحتضر.

 

نهر أم الربيع :
معطيات تاريخية وجغرافية وأرقام صادمة

نهر أم الربيع، الذي يعد ثاني أطول نهر بالمغرب حيث يبلغ طوله حوالي 555 كيلومترا، من منبعه بجبال الأطلس المتوسط وبالضبط نواحي خنيفرة إلى أن يصل إلى مصبه بأزمور، يمتد حوضه عبر 16 إقليما، وهي الجديدة سيدي بنور الرحامنة سطات خريبكة قلعة سراغنة الفقيه بن صالح بني ملال أزيلال خنيفرة ثم ميدلت والحوز، تغذيه روافد أساسية هي: 1 واد العبيد 200 كلم، ينبع من جبال الأطلس الكبير2- واد لخضر 150 كلم، ينبع من الأطلس الكبير3- واد تساوت 130 كلم، ينبع من جبال الأطلس الكبير4- واد سرو 80 كلم، ينبع من جبال الأطلس المتوسط5- واد درنة 70 كلم، ينبع من جبال الأطلس المتوسط.6- واد زم 60 كلم، ينبع من الهضاب الوسطى. وبذلك يمتد حوض أم الربيع على مساحة إجمالية تناهز 48 ألف كيلومتر مربع، ومع توالي سنوات الجفاف أصبح حوض أم الربيع أجف الأحواض على مستوى المملكة حيث لم يستقبل إلى حدود 25 يونيو2024، سوى 277.62 مليون متر مكعب مقارنة ب 10 في المائة خلال السنة2023 أي حوالي 506.04 مليون متر مكعب. أما الواردات المائية المسجلة فقد بلغت بمختلف السدود الكبرى المتواجدة بالحوض المائي لأم الربيع التي تبلغ 11 سدا، خلال الفترة من فاتح شتنبر2023 إلى غاية 22 أبريل 2024، حوالي 516 مليون متر مكعب، مسجلة بذلك عجزا يقدر ب 76-% مقارنة مع نفس الفترة لسنة عادية، وبعجز يقدر ب22-% مقارنة مع نفس الفترة من سنة 2023. وخلال السنة الهيدرولوجية 2023-2024، سُجل عجز غير مسبوق في الواردات المائية بحوض أم الربيع، بلغ حوالي 77% مقارنة بالمعدل السنوي. فقد بلغت الواردات المائية المسجلة بحقينة السدود من فاتح شتنبر إلى غاية 15 يوليوز 2024 حوالي 641 مليون متر مكعب، بينما يُقدر المعدل السنوي بـ2.846 مليار متر مكعب.
ويواجه الحوض المائي لأم الربيع ضغطا كبيرا في تلبية احتياجات الماء الصالح للشرب، الصناعة، والسياحة، مما يؤثر على إمدادات المياه للمدن الكبرى ويقلص الإمدادات للمناطق الفلاحية مثل دكالة حسب وكالة الحوض المائي لأم الربيع، لكن التحدي الأكبر يكمن في الاستغلال المفرط للفرشات المائية ونقص الإطار التنظيمي الفعّال لمراقبة هذه الموارد الحيوية، مما يهدد استدامتها في المستقبل،
كما تتصاعد احتياجات الفلاحة المسقية في ظل ندرة المياه، في الوقت الذي تواجه فيه صيانة التجهيزات المائية صعوبة نتيجة التوحل في السدود وتقادم المنشآت.
وتعتبر حماية المناطق المعرضة للفيضانات والحفاظ على جودة المياه من أبرز القضايا المطروحة، حسب ذات الوكالة، إذ يعاني الحوض من تلوث المياه في بعض المواقع مما يتطلب جهودا لمكافحة التلوث والحفاظ على البيئة، وهناك برنامج مُعد حتى عام 2050 وضعته الوكالة يهدف إلى إنشاء سدود ومحطات لتحلية المياه، فضلا عن بناء بنية تحتية جديدة لحماية الساكنة من الفيضانات وتحسين جودة المياه.

بين العوامل الطبيعية والبشرية:
تراجع بيئي خطير يهدد مصب أم الربيع بأزمور

وفي مصبه بمدينة أزمور تبدو معالم تدهور النهر الذي يعد الشريان النابض لحوض أم الربيع، جلية للعيان، النهر الذي بفضله كانت المدينة في حقب سابقة تعرف ازدهارا منقطع النظير بفضل ما كانت تستقبله مياهه العذبة من كميات الأسماك الكبيرة المهاجرة من المحيط خصوصا سمك «الشابل»، وبفضل النشاط الزراعي والسياحي، وصل اليوم إلى مرحلة مزرية من التدهور، فقد عاد إلى ما عرفه في السنوات السابقة من اختناق ناتج عن تراكم الرمل بمصبه مما حال دون معانقته للمحيط، كما أن استعماله كمستقبل لمياه الصرف الصحي لثلاث جماعات محيطة به حول المصب إلى بركة آسنة لا حياة فيها .
عبد العالي الكيحل ، عضو التنسيقية المحلية للدفاع عن أم الربيع، وهي إطار مستقل تنضوي تحته مجموعة من الجمعيات المحلية والأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات، وقد تأسس هذا الإطار للدفاع عن مصب أم الربيع في 2020 بعد ما انتبه رواد مواقع التواصل الاجتماعي للكارثة التي ستلحق به خصوصا بعد نفوق السمك وتلوث المياه، يقول في تصريح للجريدة «اتخذنا على عاتقنا أن نتحد بدون دوافع سياسية من أجل المطلب الوحيد هو الدفاع عن مصب أم الربيع»، مشيرا إلى أن عوامل كثيرة تسببت في وصول النهر بمصبه إلى الحالة التي هو عليها الآن، منها ماهو طبيعي كسنوات الجفاف المتتالية ومنها هو بشري، الذي يعتبر الجانب الأساسي في وضعيته الحالية، وأول ما أشار إليه بأصابع الاتهام شركة جرف الرمال التي لم تكن تخضع للرقابة من طرف الجهات المسؤولة، وبالتالي فقد كان هدفها نفعيا بقدر ما كان تنقية أم الربيع من الرمال، وتركت تعيث فسادا في رمال النهر والشاطئ دون تدخل ورقابة، وهو ما أدى إلى تراكم الرمال بشكل كبير، وهي الممارسات التي تسببت في انزياح المسار الطبيعي للنهر إلى مكان آخر، مرجعا المسؤولية لوزارة التجهيز التي لا تقوم بالعمل الرقابي المناسب، أما لجنة التتبع التي كان وعد بها الوزير فلم تقم بالعمل المنوط بها وهذا ما أعطانا هذا الوضع الكارثي. يؤكد الفاعل الجمعوي.
أما المشكل الثاني فيعود لكثرة الحواجز المائية أو السدود المنجزة على النهر، ويتعلق المشكل الثالث بالفلاحة الجائرة التي استنزفت كميات كبيرة من مياه أم الربيع في عمليات السقي مبرزا أن هناك عاملا آخر مهم ساهم وفاقم من الوضعية البيئية لنهر أم الربيع وهو ما يتعلق بالصرف الصحي لثلاث جماعات متاخمة للنهر، وهي جماعة سيدي علي وجماعة أزمور وجماعة الحوزية، والذي يصب في أم الربيع مباشرة ودون معالجة.
بدوره، قال الفاعل الجمعوي يوسف مقتصد إن إشكالية نهر أم الربيع تكمن في أن السدود الكثيرة المنجزة فوق النهر حالت دون وصول المياه إلى المصب. أما المسألة الثانية فتتعلق بإحدى الشركات التي تم استقدامها سنة 1999 لتنقية وفتح مصب النهر، لكنها بدلا من ذلك استنزفت كميات كبيرة من الرمال، مما تسبب في قطع الصلة بين النهر والمحيط. مذكرا أن النهر كان موطنا لسمك «الشابل»، الذي اشتهرت به مدينة أزمور، وهو السمك الوحيد الذي يعيش بين المياه العذبة والمالحة، ويحتاج إلى أعماق كبيرة في النهر لوضع بيضه، قبل أن يعود إلى أعماق البحار.
وأضاف الفاعل الجمعوي أن هناك مشكلة أخرى تتعلق بقنوات الصرف الصحي، حيث فكرت وكالة «لاراديج» مؤخرا في إنشاء مركز لتصفية المياه العادمة. لكن المشروع ما زال قيد التنفيذ، ولن يُستكمل إلا في غضون سنتين لأن وتيرة الإنجاز بطيئة للغاية مقارنة بسرعة تدهور النهر، الذي تحول إلى بركة آسنة.

بين نضالات المجتمع المدني وموقف وزارة التجهيز: وعود مجهضة وحلول ترقيعية

عن الخطوات النضالية التي قامت بها التنسيقية، أكد المتحدث أنها تمثلت في مجموعة من الوقفات والبلاغات الاستنكارية، إضافة إلى تنظيم وقفة في عام 2021، تمثلت في مسيرة تاريخية شارك فيها ما يزيد عن 500 مواطن باستخدام السيارات من مدينة أزمور إلى مصب أم الربيع. وأوضح أنه من ذلك الحين أخذت التنسيقية على عاتقها متابعة هذا الملف النضالي حتى الوصول إلى حل، مشددا على أنه تم عقد لقاءات مع مختلف برلمانيي المدينة ورؤساء الجماعات، خصوصا جماعة أزمور.
وأشار المتحدث إلى أن «الوزير الوصي على قطاع التجهيز كان قد استدعى في سنة 2023 رئيس المجلس البلدي لأزمور وجمعيات المجتمع المدني، وعلى رأسها التنسيقية المحلية للدفاع عن مصب أم الربيع، باعتبارها الجهة التي تبنت الملف بشكل قوي ودافعت عنه. وقد عُقد اللقاء آنذاك بوزارة التجهيز، حيث جرى تشخيص الوضع، ووعد الوزير بإجراء دراسة شاملة لإيجاد حل جذري للمشكل، مع التعهد بتنظيم لقاء بإقليم الجديدة واستدعاء خبراء وممثلي المجتمع المدني لدراسة المشكل. لكن، بعد مرور ما يقارب السنتين على هذا اللقاء، لم تُسجل أي نتيجة تُذكر، وما تزال مطالبنا حبيسة الرفوف داخل وزارة التجهيز. لذلك، نكرر مطلبنا بضرورة تحرك الجهات المسؤولة بشكل عاجل». وأضاف المتحدث أن لجنة برلمانية مؤقتة تم تعيينها لمتابعة وضعية مصب أم الربيع، حيث عُقد اجتماع على ضفاف النهر قُدم خلاله تقرير للوزارة. ورغم ذلك، وعند التواصل مع اللجنة، أكدوا أنهم ما زالوا ينتظرون الحل، موضحا أن الوزارة تتمسك بإمكاناتها المحدودة التي لا تخول لها إيجاد حل نهائي لمشكلة مصب النهر، وهو ما يتطلب تدخل عدة مؤسسات أخرى. كما شدد على أن حل مشكل مصب أم الربيع يقع على عاتق الحكومة، خصوصا ونحن على مشارف تنظيم تظاهرات عالمية صرفت عليها الملايير لإنشاء المنشآت الرياضية والطرق، فكيف لا تُوفر إمكانات لإنقاذ النهر، الذي له ارتباط وجداني وتاريخي عميق مع ساكنة أزمور؟
ولفت المتحدث إلى أنه في بعض الأحيان تُرسل الوزارة آليات بسيطة، وهو ما يُعتبر «درا للرماد في العيون»، مشددا على أن هذه الحلول ليست سوى ترقيعية، بينما المطلوب هو حلول جذرية عملية. كما طالب بتأهيل الفضاء السياحي بأزمور ليصبح مماثلا لنهر أبي رقراق، متسائلا عما إذا كان الموقع الجغرافي لأزمور هو السبب وراء عدم انتباه المسؤولين لوضعيتها، مؤكدا أنه لو كان مصب أم الربيع في مدينة أخرى، لما وصل إلى هذا المستوى من التدهور. أما يوسف مقتصد فقد شدد على أن النهر بحاجة إلى استراتيجية شاملة ومتكاملة، على غرار تلك المعتمدة في الموانئ بدل الحلول الترقيعية.

وضعية النهر وتأثيرها
على السكان وعلى الاقتصاد المحلي

وضعية النهر المتدهورة تلقي بظلالها على كل مناحي الحياة بمدينة ازمور فالكل يتكلم عما وصل إليه، والكل يتساءل عن مآله، خصوصا وأن الرائحة الكريهة انتشرت بشكل كبير في ما يشبه عقابا تسلط على ساكنة المدينة التي تتخوف من جحافل الحشرات خصوصا البعوض والتي لا مناص منها مع مرور الأشهر ووصول الصيف الذي سيكون النهر، الذي تحول إلى بركة أسنة، بيئة مناسبة لتكاثرها وتوالدها وحملها الأمراض ونقلها للسكان صغارا وكبارا، بل حتى الناحية الاقتصادية بدأت تظهر عليها آثار هذا التلوث البيئي ، «لم يعد الزبناء يرتادون المكان مثل السابق» يقول عامل بإحدى المقاهي المنتشرة على كورنيش أزمور، كما أن الصيادين أصبحوا في حالة عطالة بعد نفوق الأسماك بل حتى الزوار الذين كانوا يقومون بجولات سياحية على متن المراكب قلوا وانعدموا لأن النهر لم يعد مكانا مناسبا للقيام بمثل هذه الجولات النهرية الجميلة .

صرخة استغاثة:
نناشد جلالة الملك لإنقاذ هذا المورد الحيوي

حالة الاختناق التي عرفها النهر خلال فترات متقطعة في السنوات الأخيرة. سبق أن كشف عنها تقرير برلماني صاغته لجنة مكلفة بمهمة استطلاعية مؤقتة إلى عين المكان سنة 2022، توج ببلورة مجموعة من التوصيات الهادفة إلى إحياء هذا المقطع النهري وفتحه على الواجهة الأطلسية، لكن لا شيء تم في هذا الاتجاه ومنذ سنة 2022 ازداد الوضع سوءا .
«الوضع الحالي، وبعد طرق جميع الأبواب، يدفعنا، كما يقول عبد العالي الكيحل، إلى التوجه نحو طرق أبواب القصر الملكي ومناشدة جلالة الملك محمد السادس، خصوصا بعد تماطل وزارة التجهيز، ومن خلالها الحكومة، عن إيجاد حل لهذا الملف بدعوى قلة الإمكانيات. ومن هذا المنبر، نتوجه بندائنا إلى جلالة الملك للتدخل العاجل لحل هذا المشكل الذي بات يؤرق ساكنة المنطقة ويهدد الموروث الطبيعي والتاريخي لنهر أم الربيع».
مصير نهر أم الربيع لا يرتبط فقط بأزمور وساكنتها، بل يعكس تعامل الدولة والمجتمع مع إرث طبيعي هام. ومع اقتراب المملكة من تنظيم تظاهرات رياضية كبرى مثل كأس العالم 2030، يعد الالتفات إلى البيئة جزءا لا يتجزأ من تطلعات التنمية. فهل تتحقق تلك الأماني، أم يستمر النهر أسيرا للأزمات؟

 

 


الكاتب : خديجة مشتري

  

بتاريخ : 18/01/2025