كازابلانكا: دروب من زمن العشق والحنين

 

قراءة في رواية «دروب كازا بلانكا» للكاتبة عائشة العلوي لمراني

 

تجوب بنا رواية «دروب كازابلانكا» للكاتبة المغربية عائشة العلوي لمراني حارات وأحياء الدار البيضاء، كما خبرتها الساردة/ البطلة. مدينة تحمل في أحشائها مدنا عديدة على شاكلة ماتريوشكا (الدمى الروسية).
يُستهل السرد من حي الحبوس، باعتباره بؤرة الحكي ومحوره، وبحمولته التاريخية، وملامحه المعمارية كمدينة تقليدية على الطراز الأندلسي خرجت من رحم مدينة عصرية، ليصل إلى باقي أرجاء المدينة عبر شرايينها الشهيرة: الزرقطوني، محمد الخامس، عبد المومن…
تتعقب الرواية معالم تطور المدينة /الشخصية، في احتفاء كبير بالمكان في نوستالجيا ما كان عليه مسقط الرأس، في الطفولة قبل الاستقلال، وما أصبح عليه في فترة الشباب وتَشكُّل الوعي بين أحضانه، بينما تحضر بالتوازي مدينة أخرى، هي باريس، لتجعل القارئ يطّلع على أهم معالمها دون تفويت فرصة المقارنة بينها وبين الدار البيضاء. لتشي لنا بأن الساردة تحمل معها مدينتها الأثيرة أينما حلت وارتحلت، وبأن مدينتها تسكنها كما تسكن هي مدينة/مدنا أخرى.
منذ البداية، تترصد الرواية عوالم الوعي التقدمي الذي تبلور بعد الاستقلال. وعي انبجس من بوتقة تقليدية، وراهن كثيرا على التحرر، في زمن آمنت فيه العائلات المتنورة بتعليم الفتيات، فخلقت بذلك جيلا آخر من جيل ما بعد الاستقلال. جيل ولج أبواب التعليم وتربى لديه الوعي السياسي داخل الحرم الجامعي.
تغطي الرواية فترة زمنية تشمل النصف الثاني من القرن العشرين، بما حبل به من إشراقات وتناقضات في كل الميادين: في المعمار، وفي العادات وفي الإيمان بالحداثة. نوستالجيا طافحة لزمن تمثَّل الأغاني الكلاسيكية وعشق السينما وتشبع بمختلف بالفنون. هذا التشبع، الذي ميز جيلا بأكمله، جعلت منه الساردة خلفية لتطور مسارات الشخصيات، فأثارت بذلك شهية تناول الرواية من زاوية فنية، وتحديدا عبر شعريات ثلاث:

شعرية الماء:

هوس عناصر الطبيعة حاضر في الرواية بشكل لافت، خصوصا عنصر الماء. لقد خصت الكاتبة لمشاهد الاستحمام حيزا كبيرا جاوز سبع محطات. وكأن طقس الاستحمام هو اللقاء الوحيد الصريح مع الذات، مع الجسد في تشكله الأول، وهو يحاول التخلص من دنس ما ( كطارسيس). هكذا أطلعتنا، في البداية، على تاريخ الحمامات في المغرب عموما، وحمامات الدار البيضاء على وجه الخصوص (حمام الشيكي). بعدها أتت لقطات دوش المساء كمبرر للوقوف مع الذات والاحتفاء بالجسد، في إحالة على حميمية النساء مع أجسادهن، وطرق العناية المختلفة التي يمكن أن يأخذها الطقس: انطلاقا من اختيار المواد (حناء، غاسول منسم بأعشاب برية، خزامى، ماء الورد، قطع صابون..) إلى عمليات التدليك والفرك.
ولقد حضر هوس الماء أيضا من خلال عشق الساردة/ البطلة للمدن التي تعبرها الأنهار: القاهرة، باريس، بغداد، لندن…

شعرية الموسيقى:

عبَرت الساردة/ البطلة الحيز الزمني للحكي بزخمه السياسي، دون الخوض في السياسة، واكتفت بالتوقف عند هزات المجتمع الكبرى من خلال الإشارة للفحات الوهابية الآتية من الشرق.
تعيش الشخصيات في الرواية، في مجملها، اغترابا زمانيا، وانتكاسا عاطفيا تعددت أسبابه. إذ نجد أن أقدار الشخصيات تتأرجح بين التطور الإيجابي، وتجسده شخصية «رابحة» التي لها من اسمها نصيب، وابنتها «هبة»، وبين القدر التراجيدي لـ»أحلام» وللبطلة.
تعبُر الأغاني المخطوط وكأنها منوال نسجت عليه حيوات هذه الشخصيات، فلا يكاد موقف يخلو من إحالة على أغنية لفيروز أو أم كلثوم أو عبد الحليم وفريد في تصور مغرق في الرومانسية لوعي الشخصيات. هذه العلاقة الحميمية بالموسيقى التي خلفت العديد من ضحايا الرومانسية. تحضر الأغاني، داخل المتن، في لحظات الصفو (حالات الإعجاب والحب)، وفي لحظات الحزن على حد سواء (موت أحلام)، فهي تؤطر اليومي، وكأن الحياة غير ممكنة دون الأغاني.

شعرية الجسور:

أخذت الجسور حيزا مهما في السرد منذ الصفحة الأولى. في كل مرة تقطع البطلة الجسر الفاصل بين حي الأحباس وحي البلدية للوصول إلى بيتها. كما تمد الرواية الجسور بين الأزمنة والأمكنة. هذا العبور اليومي والذي يوازيه عبور من مدينة إلى أخرى، ومن حقبة زمنية إلى أخرى، هو طقس يتخذ أشكالا متعددة في النص تتعدى حيز المكان، إذ تطرح الرواية وعيا نسائيا مغايرا تجسده البطلة وصديقاتها في علاقاتهن الملتبسة مع الأشياء والعالم. هذا «البين بين» الذي يطبع ملامح الشخصيات، يجعل البطلة تتأرجح بين نموذج المرأة التقليدية والمرأة التقدمية. بين الرغبة في العزلة والانغماس في الحياة. في هذا الزخم، تبرز الصداقة كخلاص من انكسارات الحياة. الصداقة كقارب آمن يحمل الشخصيات… الصداقة كاختيار حر وكأفق لاكتشاف عالم آخر (رحلة باريس).
النص مليء بالاختزالات والتضمينات التي لم تخض في تفاصيلها الساردة/ البطلة عنوة، إذ لم تتطرق لحيثيات زواجها ولا طلاقها، كأن الأشياء المنتهية لا تستدعي الخوض في جزئياتها.
صورت الرواية إجمالا جيلا رومنسيا حالما، تكسرت أحلامه على صخور الواقع الصلدة.
كتبت الرواية بلغة شفيفة، منسابة كسمفونية أعاد توزيعها «بول موريا» أو «كليدرمان»، بحمولة الفرح التي يعرفان، وحدهما، كيف يشحنان بها القطع الأكثر تراجيدية في ريبرتوار الموسيقى الكلاسيكية. جمل قصيرة مصوغة بعناية وحذق العارفين بدهاليز الطبخ والتطريز وبنفس صوفي. أثرت الكاتبة روايتها بالاقتباسات الغنائية والشعرية، إذ نجد مقاطع من شعر «درويش»، وكذا مقتطفات من شعر «هيغو» أو أغاني «إديث بياف»، تحديدا في الجزء المخصص لزيارة البطلة لباريس، مما يحدث ألفة في القراءة. هذه الألفة، يذكيها، في محطات أخرى، اللجوء للأمثال الشعبية والزجل الذي يغذي البعد المحلي في الرواية.
في الأخير، يمكن القول إن الرواية احتفاء بالمكان بالدرجة الأولى. «كازابلانكا» التي تغنى بعوالمها الأدب والسينما على حد سواء، فلم تفوّت الساردة فرصة الإحالة على الفيلم العالمي الشهير الذي أخذ اسم المدينة دون أن يصور مشهد واحد منه فيها. الدار البيضاء كمدينة كوسموبوليتية تتعايش فيها الثقافات والديانات والتناقضات. الرواية ترسم بورتريهات شخصيات تشبعت بالفن في مدينة خارجة لتوها من جلبابها القديم بعد الاستقلال. مدينة احتفظت بالإرث الثقافي للمعمر في شقه الفني. مدينة تعبر جسر القرن العشرين بتناقضاتها الكبرى، وبتوافق ما على شكل تناوب سياسي.


الكاتب : أمينة الصيباري

  

بتاريخ : 10/03/2023