ـ 1 ـ
يستدعي تأمل تجربة الكاتب الرافعي، سعيا إلى الكشف عن بعض سمات نصوصه الإبداعية التي يريد لها أن تندرج في خانة نوع أدبي خاص لا يثبت على حال إلا في حدود توصيفه التاريخي تكوينيا من حيث هو نوع أدبي قائم الذات عندما نفكر نظريا في جينالوجيا الأدب والكتابة من خلال كُتاب هذا النوع الأدبي على مدى أكثر من قرن ونصف من الزمن، بالمعنى الدقيق لهذا الزمن في آسيا وأوربا وأمريكا، وفي العالم العربي منذ النهضة، وأعني بهذا النوع الأدبي القصة القصيرة باستدعاء التمثيل الانجليزي أو الفرنسي الذي يدور في فلك «الخبر» (لوروبير ) (المعجم) ص 1164 ط 1976 إلى جانب أنها القصة القصيرة: محكي وجيز على وجه التعميم ذو تركيب درامي، يقدم شخوصا قليلة العدد (نفسه ص 1165).
يستدعي هذا التأمل التمييز بين مستويات أو مداخل منها:
أولا: مقاربة اشتغال السرد القصصي في حد ذاته وفي علائق هذا السرد بالشخوص والفضاء مع احتساب اللغة السردية من منظور التركيب، ومن منظور بلاغتها في الصياغة مما يعين على اقتحام إشكال (أشكلة) الكتابة بثوابتها ومتغيراتها، خاصة عندما تنحو هذه الكتابة إلى رهان التجريب أو المغايرة أو التجاوز.
ثانيا: رصد البعد التيمي (الموضوعاتي) ومدى ارتباط نصوص الرافعي بموضوعات بعينها تجعل الكتابة رهينة اختيارات أو مواقف تضمن لها نوعا من الانخراط في ديمومة قلق الإنسان الفرد والكائن على السواء في مواجهة الوجود، والتساؤل حول المعنى والجدوى في عالم محكوم بالعزلة والتشيؤ والانمساخ كما تتكشف في النصوص.
ثالثا: محاولة الخروج من دائرة النصوص المغلقة للبحث عن منظومة الافكار التي من شأنها أن تساعد على الاهتداء إلى ما يمكن أن يفترض أنه رؤية عالم يصدر عنها الرافعي للتعبير عن زمنه الخاص والعام، باعتباره كاتبا ينتمي إلى ثقافة ويمتلك وعيا في تصوره للمجتمع والذات وغير ذلك من مؤشرات الهوية الثابتة والمتحولة باستمرار.
رابعا: التساؤل بصدد تجربة الرافعي عن ارتباطه أو عدم ارتباطه بما حققته التجربة القصصية في المغرب وفي العالم العربي من تراكم، خاصة عندما يتعلق الأمر بقضايا التجريب من خلال تجارب بعينها مثل تجربة محمد برادة في سلخ الجلد (دار الأداب 1979) وتجربة مصطفى المسناوي في “طارق الذي لم يفتح الاندلس” (المؤسسة 1979) وتجربة أحمد بوزفور في “النظر في الوجه العزيز” (الجامعة 1983) وغير ذلك دون أن ننسى مجموعة “اشتباكات” الأمين الخمليشي (م اتحاد كتاب المغرب 1990) ومجموعة يوم صعب لمحمد الأشعري (م.الفنك 1990 وكذلك تجربة إدريس الخوري ومحمد الهرادي ومحمد زفزاف أو محمد عزالدين التازي. أما بالنسبة إلى العالم العربي فالأمثلة كثيرة: زكريا تامر وياسين رفاعية وهاني الراهب في سوريا، يحيى الطاهر عبد الله وجمال الغيطاني وإبراهيم أصلان في مصر، كل ذلك باعتبار المنحى الجديد للغة السردية و غرابة الموضوعات وطبيعة الشخوص والفضاءات وتعدد الأشكال السردية بالتحديد.
ـ 2 ـ
ذكرت هذه التجارب لا لأقول إن أنيس الرافعي يجاريها أو يحاكيها أو يسترفد منها ، بل لأشير إلى أن دورات التجريب داخل الكتابة لا تتوقف عندما يتعلق الأمر بالبحث عن أفق جديد لتجاوز ماهو جهز في أي مضمار فني حيث تترسخ الأشكال وتتكرس الموضوعات وتتجمد اللغة، وأعتقد، في هذا السياق، أن تجربة أنيس الرافعي توفر لنا نموذجا من نماذج تحولات القصة في المغرب راهنا، بحكم ما تقترحه من ممكنات سردية ومن أسلوبية نوعية أساسها جعل النص ، النصوص، لحظة جمالية أثناء الكتابة للتحوير و«التثقيف» (بالمعنى النقدي العربي القديم) بلا نهاية ولا حدود، لكن من داخل الكتابة بكل ما توفره اللغة على مستوى اللفظ (ة) والجمل (ة) والتركيب والمقطع النصي (السردي) والتوزيع المجالي للنص على الورق بنوع من التشكل المفكر فيه. أما الفضاء فإنه يصبح في نصوص أنيس الرافعي بمثابة بلاسينتا تتحرك فيه الشخوص كأنها أنداد أو مضاعِفات أو توائم لحي بن يقظان لا حصر له وإن كان هو هو أو هو لا هو، لكنها – الشخوص – هي أنا وأنتِ وأنت ونحن وهم، مما يعني أن الكتابة جزيرة داخل أرخبيل، وبين هذه الجزيرة وجزيرة أخرى برزخ تعبره النصوص، تبحر فيه مراكب المعنى واللامعنى.
من هنا: داخل هذه الجزيرة – هذه الجزر، هذا الأرخبيل، داخل هذه الجغرافية النصية التي تنتمي إلى عالم لا ضفاف له سوى الاستعارات والمجازات وشباك الكناية والتمثل على إيقاع دفة المتخيل، من هناك بالذات، ومن زوايا متخفية، يهندس أنيس الرافعي مسارات ومسافات نصوصه أوقليديا، لكنه، في نفس الآن، عن أرخميديته إذ يصر على ضرورة تجلي الشكل حيث ينبغي أن يوجد وحيث يستوفي شروط ممكناته الفيزيائية نصيا: النص القصصي لدى الرافعي سرديا شرنقة، لكنه أيضا بذرة في رحم الكتابة وهو نطفة أيضا تتكون قريبا – بعيدا في الأقاصي، في أقاصي تغريبة (أوديسا) يلاحق فيها أنيس – تليماك شبح أبيه أوليس، ولنتخيل في هذه الحالة وهي «حالة» أنيس الرافعي، حالة من حالاته، في مراودة ومداورة أحوال الكتابة، لنتخيل أن أوليس – الأب المطارد لا بطل طروادة – لن يعود بالمرة أو يعود وهو غير مقتنع بالعودة أصلا إلى إيتاكيا و إلى أي مكان: ماذا سيحدث لأوديسا هوميروس؟ لأوديسا أوليس؟ ماذا سيحدث لبنيلوب؟ هل تستمر في النسيج أم ستتزوج أحد غرماء زوجها؟ ماذا لو لم تتنبه أوريكلي لندبة أوليس في فخذه؟
ـ 3 ـ
إن الميتافزيقا، الميتافزيقا وحدها التي تشيد أركان المتخيل، في الشعر، في الملحمة، في التراجيديا، في الرواية، في السينما وفي القصة القصيرة كما يعمد إليها ويعمّدها أنيس الرافعي من خلال
تجربته، يعمد إليها عن قصد لأنها ترافق الانسان (الفرد، الكائن) حتى عندما يتوهم أنه محصن ضدها، ويعمّدها لأن فيها يكمن بعض الخلاص من لامعنى الوجود في كل لحظة، عابرة كانت أو مستقرة.
الميتافزيقا، ترافقنا، تحاصرنا، تقيم فينا، ولا خلاص إلا بالكتابة – في الكتابة وجعلها مرتعا تنقاد فيه الميتافزيقا الشرسة إلى حتفها. دائما كانت الميتافزيقا وستظل تترصد الكتابة، بل تتحول هذه الاخيرة الى ميتافزيقا مضادة عندما تكشف عن سخف العالم وتوحشه واختلال الوجود فيه مثلما تؤكد ذلك نصوص أنيس الرافعي: كل نصوصه تشكك في معادلة الحياة تساوي الحقيقة لأن الحياة حيوات من جهة، ولأن الحقيقة ليست حقيقة واحدة. من ثم، يتسرب الى نصوص أنيس الرافعي منذ علبة الباندورا (2007) هاجس العبث الذي يطارد الشخوص ويجعلها متوترة تنشد التوازن ولا تجده أصلا خارج وعي الكائن في عالمه المادي، كما تقبل العزلة، ليس اختيارا وإنما حتمية يفرضها واقع انتماء الى صيرورة، كل شيء فيها يغري بالانهيار والسقوط والتآكل.
ألا يمكن اعتبار أنيس الرافعي كاتبا ميتافزيقيا؟
الميتافزيقا في كتابة نصوص أنيس الرافعي لحظية عندما ينعدم شعور الشخوص بالسكينة، وميتافزيقا دائمة عندما يتحول الإحساس باللاجدوى الى جدوى، فيتحول الكائن الى مجرد شخص فقد إنسانيته، يتحول الى مجرد «قنفذ صغير في صحراء واسعة (نص السيد ريباخا جزيرة عائمة، علبة الباندورا، ص 85) ماذا عساه يفعل القنفذ غير أن يتجمع ويتكركب (يتدحرج) أن ينزوي في ركن قبل أن يقدم على الحركة ويغامر بالانفلات أو السير في اتجاه ما؟ ثم: أي اتجاه يمكنه أن يختار؟ إنه على الأقل حيوان وليس حشرة مثل غريغوار سامسا الذي يقذفه أبوه بالتفاح وتلقي به الخادمة الثخينة خارج الغرفة والبيت مع الأزبال والقاذورات والنفايات، هل الكائن حيوان؟ وحتى إن كان كذلك، فمن عسانا ندين ونحاكم: الواقع، المؤسسة، المجتمع؟ العلائق الانسانية! الحب؟ الحياة؟ الحقيقة؟
لنترك الأجوبة للتأويل ولإمكانات القراءة وممكنات البحث في ما وراء النص، في ما وراء الخطاب، في المنظومة الإيتيكية المتوارية خلف ملفوظات النصوص التي تراكمت لدى أنيس الرافعي على مدى عقدين من زمن الكتابة، آلى فيها على نفسه أن يطرق جميع أبواب ما تمثله المنظومة البشرية من تمزق وتشتت وتلاش. وفي كل مرة، عندما يكتب أنيس الرافعي أو يفكر في الكتابة، يتحول الى مستكشف أركيولوجي مفعم بصدى اللغة الذي تحول- يتحول بدوره الى ناموس لا يكفي لمقاومة ما يكتسيه الوجود من معادلات مغرقة في العماء والهباء، كأنه أرخيمدرس يتجول في مقبرة اللغة، في مقبرة تطفو فيها جثث سيزيف وأورفي وبرميثيوس أو جلجامش، لا فرق لأنها/ لأنهم ضحايا ما أرادوا وليس ما كتب لهم أو عليهم، مشدودين الى الرغبة وحدها، الرغبة التي أودت، في التراث العربي، بعنترة وطرفة وامرئ القيس والمتنبي حتى، بل أيضا بالمعري الذي رحل الى أبعد مما هو عليه في عالم الناس والملكوت في جبة تيرزياس عربي هذه المرة.
الكتابة لدى أنيس الرافعي مقاومة للنسيان ودعوة الى السخرية التي لا لون لها إلا لون ضحك خفي من وعلى الميتافيزيقا المريضة بتخمة ابتلاع الجثث الحية قبل الميتة؟ أو المحنطة. كتابة أنيس الرافعي هي الباندورا البديلة التي لا تغلق علبتها وتترك الأمل يتسرب، لأنها عاقلة (شربت مخها) وليست متهورة: إنها من منظور وبلاغة نصوص الرافعي تجيد الحياكة بفضل أثينا وأفروديت (لطيفة)، لكنها أيضا ماكرة في حضره هيرمس. من «الحياكة» يقبل الى كتابة أنيس الرافعي هاجس إجادة السبك واصطياد بلاغة نافرة نفور النفري، ومن «لطاف»ة أفروديت تقبل جمالية التجريب والصنعة الواعية برونق الأسلوب، من «المكر» يقبل التحوير والتدوير وكأن الأمر يتعلق بهندسة أهرامات صغيرة لكنها بليغة الكثافة واستعادة ذاكرة نصوص غائبة حاضرة، قبل النص، بعده، نصوص موازية، نصوص مجاورة، نصوص نقدية، نصوص إبداعية، نصوص سينمائية نصوص تشكيلية: بورخيس، كافكا، كل ذلك يقبل ويمضي، وتبقى الكتابة، تبقى هندسة الكتابة.
في ظاهر الأمر يخيل لقارئ نصوص أنيس الرافعي أن شخوصها محاصرة داخل الغرفة، داخل الشقة، داخل الشارع، في المدينة، في مقهى أو قاعة أو مستشفى، حافلة أو حديقة، داخل الذات، غير أنه في مستوى آخر، عندما يحتدم التأويل، تستنفر الهيرمينوتيكا، تتصاعد، على إيقاع المفارقة والمتخيل ألسنة نيران تلتهم الكينونة وتجبرها على الخضوع لمنطق رؤية عالم تعيد الى الواجهة السؤال الميتافزيقي الدائم، سؤال المصير ومتبوعاته الثاوية في مجموع الأدب وغير الأدب.