كتابات في تاريخ منطقة الشمال: «موقف الشريف الريسوني من الاستعمار الإسباني» لابن عزوز حكيم

 

صدر خلال بحر سنة 2020 كتاب جديد للمؤرخ محمد ابن عزوز حكيم، في شكل عمل مستثمر لسلسلة من الوثائق الإسبانية الخاصة برصد بعض أوجه العلاقات التي ربطت أحمد الريسوني بسلطات الاستعمار الإسباني خلال العقدين الأول والثاني من القرن 20. وقد حرص بعض أفراد أسرة الريسوني على نشر هذا العمل وتعميم تداوله بين الباحثين والمهتمين، وتم تعزيز هذا المنحى العائلي بكلمتين تقديميتين لكل من الأستاذ أحمد هاشم الريسوني والأستاذ علي بن أحمد بن الأمين الريسوني. وبهذه الصفة، فالكتاب الصادر تحت عنوان «من ذاكرة شمال المغرب الحديث: موقف الشريف الريسوني من الاستعمار الإسباني»، في ما مجموعه 217 من الصفحات ذات الحجم الكبير، يندرج في إطار توجه عام هيمن على عائلة الريسوني في تصديها وفي مواجهتها لكل الأصوات المشتغلة على الظاهرة الريسونية بشمال المغرب خلال مطلع القرن الماضي، من خارج دوائر المسلمات العائلية وهواجسها المسكونة بتدعيم الصورة الجهادية لأحمد الريسوني خلال مرحلة انتقال تاريخي حاسم عرفه مغرب السلطان عبد العزيز، مع تفكك سلطة المخزن المركزي وانبعاث تطلعات هيمنية للزعامات المحلية المتناثرة عبر عموم جغرافية البلاد.
وإذا كان المرحوم ابن عزوز حكيم قد عرف بدفاعه المستميت عن الصورة الجهادية المفترضة للزعيم الريسوني، فإن النقاش حول مضامين الكتاب تطرح صعوبات منهجية وأخلاقية متداخلة، أبرزها تلك المرتبطة بمشروعية مناقشة باحث ومؤرخ عن عمل تصنيفي لم ير النور إلا بعد وفاة صاحبه. فكيف سنناقش محمد ابن عزوز حكيم وهو في قبره؟ ألا يعتبر ذلك تجنيا على الرجل واستغلالا لغيابه الأبدي من أجل الطعن في مصداقية عمله؟ ومع ذلك، فالمؤكد أن الكتاب أضحى ملكا مشاعا للقارئ، أي قارئ، ومجالا رحبا للتأمل وللمساءلة.
لن أستغل غياب الرجل للنيل من مصداقيته العلمية، ولكني سأكتفي – في المقابل- بتسجيل ملاحظات مدققة في بعض التفاصيل التي انبنت عليها الأطروحة المركزية للكتاب، والقائمة على منطق الدفاع المستميت لإسقاط صفة عمالة الريسوني لفائدة قوى الاحتلال الاستعماري الإسباني لشمال المغرب. تتوزع هذه الملاحظات التفكيكية بين النقاط التالية:
أولا- ينطلق المؤلف من حكم جزافي وتبخيسي غير مفهوم تجاه كل القراءات «الأخرى» لسيرة الريسوني، قراءات قد تكون منطلقة من ضوابط علمية، أو من سير ذاتية، أو من شهادات حية، أو من وثائق تدين الريسوني في مستويات مختلفة. وأمام هروب المؤلف نحو الأمام، وعدم الانكباب الجدي على التعاطي العلمي مع كل وجهات النظر التي تناقض قناعاته وثوابته حول الموضوع، اختار الطريق السهل القائم على مبدأي التخوين والتآمر. لذلك، وجدنا المؤلف يصف كل المختلفين معه حول هذا الموضوع ب»أذناب الاستعمار وعملائه» (ص. 22)، أو ب»عملاء «الاستعمار وخدامه» (ص. 26)، أو ب»تشويه سمعة الريسوني» (ص. 26)،…
ثانيا- أكد المرحوم ابن عزوز حكيم، في تقديمه، على ضرورة العودة إلى الوثائق (ص. 27)، باعتبارها الأرضية الصلبة التي يجب أن تنهض عليها كل الخلاصات. ويبدو أن المؤلف كان له فهم خاص للمادة الوثائقية، عندما حصرها في الوثائق التي تدعم وجهات نظره حول الموضوع، في مقابل إقصاء كل الوثائق التي تذهب في الاتجاه المعاكس. معنى ذلك، أن ابن عزوز حكيم ظل يقدم قراءة أحادية للوثائق وموجهة وفق ما يؤكد وجهات نظره وتخريجاته، ولو تطلب الأمر إقصاء كل الأرصدة الوثائقية الوطنية والأجنبية، أو مجاراة اندفاعه للي عنق الوقائع عبر تقديم قراءات نزوعية وغير علمية لمضامين هذه الوثائق. في هذا الإطار، يمكن أن نستدل بواقعة احتجاج الريسوني على احتلال الإسبان لمركز العش الواقع بالقرب من مدينة أصيلا، وذلك يوم 28 مارس من سنة 1912 (ص. 106). لقد تغافل المؤلف أن الاحتجاج المذكور، كان في الحقيقة ضد عدم إخبار الريسوني وليس ضد واقعة الاحتلال في حد ذاتها، الأمر الذي يتأكد –جليا- مع إعادة قراءة الوثائق بشكل متأن وفاحص. فالاستشهادات الواردة في الكتاب تظل مبتورة، وموجهة بشكل واضح، وفق ما يزكي قناعات المؤلف وقراءاته الجاهزة للظاهرة الريسونية.
ثالثا- يتحدث المؤلف بإطلاقية غريبة وغير علمية في تعاطيه مع المادة المصدرية، عندما يقول: «إن جميع الوثائق تشهد أن…» (ص. 31 وص. 33)، قبل أن يسترسل في استثمار مادته الخام. من المؤكد أن ابن عزوز حكيم لم يطلع على كل وثائق الريسوني، ومن المؤكد – كذلك- أنه قد نحا نحو غض الطرف عن الوثائق «الأخرى» التي لا تجاري مسلماته… من الأمثلة على ذلك –على سبيل الاستدلال- حديثه عن: «إسبانيا تعارض في تعيين الشريف الريسوني باشا بأصيلا» (ص. 40)، مما أدى إلى انفجار أحداث عنيفة بمدينة أصيلا يوم 21 أكتوبر من سنة 1906، بعد هجوم أفراد من قبيلة بني عروس يتزعمهم أحمد ولد بريان على المدينة المذكورة وقيامهم بعدة اضطرابات «أثمرت» يوم 26 أكتوبر قرارا بتعيين الريسوني في منصب باشا المدينة، مما يدل على أن الأمر كانت فيه خطط ومؤامرات متداخلة، شاركت فيها أطراف متعددة، وعلى رأسها الريسوني. ومع ذلك، فالملاحظ أن ثمة إعراضا كليا في الكتاب عن الوثائق التي تدين الريسوني في هذه الواقعة، مع تجاهل غير علمي لكل الدراسات الجامعية التي تناولت الموضوع، مقابل الاكتفاء بالاعتماد على الوثائق المنتقاة التي تبرئ ذمة الريسوني مما وقع بأصيلا في التاريخ المذكور.
رابعا- ارتباطا بالملاحظة السابقة، ظل المؤلف يأخذ مضامين الوثائق على أساس أنها حقائق مطلقة، ولم يكلف نفسه عناء التأكد من صحتها بالنقدين الداخلي والخارجي وبالتشريح الفاحص. فمثلا، تناول المؤلف بيعة القائد الرميقي، باشا مدينة القصر الكبير، للسلطان عبد الحفيظ، عبر ربطها بالمصالح الشخصية للباشا المذكور، حسب ما جاء في وثيقة إسبانية لا نعرف مدى صحة وقائعها ولا مستوى انسجامها مع الوقائع التاريخية.
خامسا- ظل محمد ابن عزوز حكيم مصرا على ربط كل الحركات المعارضة للريسوني بالخيانة وبالتعامل مع الغزاة والإسبان. وقد بلغ هذا المنحى ذروته مع وقائع محددة ارتبطت بتجارب قبائل عدة بمنطقة جبالة، مثلما هو الحال مع تحامله على قبيلة أنجرة بسبب معارضتها للريسوني (ص. 72)، وانزلق الأمر إلى مستوى خطير من التشكيك في انتمائها الوطني، والتلميح إلى تعاونها مع الاستعمار. ونفس الموقف، اتخذه المؤلف من قبيلتي طليق والخلوط ومدينة القصر الكبير (ص. 78) عقب التعبير عن معارضتها لتعيين الريسوني باشا على المنطقة. وتجاوز المؤلف كل الحدود العلمية والأخلاقية لهذا النزوع، عندما تجرأ على وصف معارضي الريسوني بالخيانة وبالعمالة للإسبان (ص. 98). وعندما كان يصطدم بحقائق دامغة تنسف أطروحته من أساسها، كان يلجأ للحلول السهلة، بوصف آراء غيره بـ»الكلام الفارغ» (ص. 83) مثلما فعل وهو يتحدث عن موقف الريسوني من احتلال الإسبان لمدينة العرائش يوم 8 يونيو من سنة 1911، ثم احتلال مدينة القصر الكبير يوم 10 يونيو من نفس السنة. فعوض أن يناقش المؤلف الوثائق «الأخرى» والدراسات الجامعية التي تؤكد على تورط الريسوني في الاحتلالين المذكورين، نجده ينحو نحو انتقاء الوثائق ونحو لي عنق الحقائق وإيجاد المبررات الكفيلة بتبرئة الريسوني.
سادسا- برز تناقض صارخ في استثمار ابن عزوز حكيم لـ»وثائقه» قصد إضفاء البعد الوطني التحرري على حركة الريسوني، حيث ظل الحماس المفرط للمؤلف يضعه في تناقضات جمة، مثلما هو الحال مع الوثيقة الواردة في الصفحة رقم 118 حيث يبدو مجال التأويل واسعا داخل هذه الوثيقة، لدرجة أنه لا يمكن استخلاص صفة الريسوني بين الخيانة والعمالة لإسبانيا، أو بين الجهاد والبعد الوطني. فالتمعن في الوثيقة لا يقدم إجابة ضافية بهذا الخصوص، بالنظر للالتباسات المرتبطة بسقف التأويل داخلها.
سابعا- لم يتردد ابن عزوز حكيم في تبخيس عطاء رجال المقاومة والتعبئة الوطنية، ممن كانوا يشتغلون من خارج جبة الريسوني، مثلما هو الحال مع المقاوم مولاي أحمد تازية الذي وقع وصفه بالجبروت وبالبطش (ص. 146)، لا لسبب إلا لأنه كان معارضا للريسوني، أو مع التبخيس الموجه للدور الجهادي للشريف تاكزارت، مقابل إعلاء دور الريسوني (ص. 151).
ثامنا- لعل من شطحات الإفراط الحماسي في الدفاع عن الأدوار الجهادية للريسوني بالشمال، ورود جملة نسبت للريسوني، كان قد أدلى بها في أحد حواراته الصحفية المؤرخة في 2 يوليوز من سنة 1914 (ص. 170). فعندما سأله الصحافي محمد بناني: «هل هناك من يمكن أن يقوم مقامكم إذا وقع لك أي شيء؟». أجاب الريسوني: «بدوني لا يمكن أن يعمل أي شيء بناحية جبالة». ما معنى هذا الكلام؟ وكيف تجرأ الريسوني على استعمال مثل هذه اللغة؟ وكيف تمادى في اختزال كل عطاء رجال جبالة في شخصه؟ وماذا عن القبائل والأفراد والمراكز التي عارضت السياسة التسلطية للريسوني، بنفس القدر الذي واجهت به الغطرسة الاستعمارية الإسبانية؟ ألم يكن هذا الغرور انعكاسا لعقلية التسلط والهيمنة والبطش التي ارتبطت بسيرة الريسوني؟ لا شك أن تجارب رجال جبالة المغمورين في مسار الجهاد والتضحية تظل من القوة بحيث بإمكانها نسف كل آفاق مثل هذه التصريحات. ولا شك أن أنين الضحايا المغاربة الذين اكتووا من نار بطش الريسوني، سيظل صادحا ومنتصبا في وجه كل جهود التآمر على التاريخ. ولن يجدي نفعا الحديث عن التآمر الأجنبي ضد الريسوني، ولا اتهام الأوربيين بتزييف مساره بمنطقة جبالة، ولا اتهام المعارضين بالعمالة للأجنبي،… في طمس الوقائع وفي إعادة كتابة تاريخ «تحت الطلب»، دفاعا عن البعد الجهادي المفترض للظاهرة الريسونية بمنطقة جبالة خلال مرحلة نهاية القرن 19 ومطلع القرن 20.
تاسعا وأخيرا- إلى جانب كل ما سبق، تظل الثغرات المنهجية الأساسية في هذا العمل، مرتبطة بنوعية المراجع المعتمدة في الكتاب والتي تزكي الإطار العام الموجه لكتابات المرحوم ابن عزوز حكيم بهذا الخصوص، على ضوء القراءة الموجهة للوثائق. ولعل ذلك من العناصر التي تمس بالقيمة العلمية لمثل هذه الأعمال، خاصة وأنها لم تكلف نفسها عناء مناقشة الأطاريح العلمية المنجزة داخل المغرب وخارجه، واكتفت بترديد الخطاب البئيس لتهم «المؤامرة» و»التآمر» و»الكلام الفارغ»… وتلك نزوعات معبرة عن تهافت الكتابات العاطفية اللاهثة خلف «بطولات» زعيمها وحول «فتوحاته المجيدة».


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 22/05/2021