كتابة المجانين: حين يسير المعنى نحو «لا أحد»

هناك نوع من الكتابة يوجهه «لا أحد» إلى «لا أحد»، ولعل هذا هو الجمال الذي انتبه إليه ميلان كونديرا في «فن الرواية» حين قال: «أحلم بعالم يصبح فيه الكتاب مجبرين على الاحتفاظ سرا بهويتهم وأن يخفوا أسماءهم بأسماء مستعارة»‮. وهذا ما تمنحه لنا كتابة المجانين التي لا تتوجه، في العمق، إلى أحد، لأنها محذوفة من هذا التاريخ الذي يكتبه العقل. إنها كتابة تضيء خارج بيت الأدب الذي أسسه هوميروس وفيرجيل. كتابة غير حانقة ولا متمردة ولا عنيدة ولا متملقة، عارية تماما من الإيديولوجيا، ولا تبحث عن أي مكاسب سياسية. كتابة تشبه رمية النرد، لا تصنعها سوى الصدفة التي يراهن عليها لاعب «ردئ» ليست له أي قدرة على التحكم في عدد الرميات، ولا يرى أي علاقة سببية بين التراكيب. إنه يرمي كيفما اتفق، فيجعل العلاقات الثابتة ترتجف وتنتج معان جديدة.
وبهذا المعنى، يصبح الجنون، حينما نربطه بالكتابة، نوعا من اللعب «الردئ»، الذي بوسعه إنتاج «جماليات» مغايرة يمكن استثمارها لقياس ما يسميه نيتشه «إستيطيقا الوهم» أو «قوة الزائف».
وهكذا، يصبح من الطبيعي، تأسيسا على هذا الفهم، التعامل مع الجنون كآلية لتوليد جماليات حديثة. وهو ما يجرنا إلى الحديث عن تجارب فكرية وفنية وأدبية تجمعت كلها في ذلك القارب الفريد الذي توغل عميقا في مياه لا يتطلع المبحرون فيها إلى أي يابسة: تجربة هؤلاء العظماء الخارجين عن الأنساق «العقلية» الذين كانت رمياتهم سريعة وحازمة، ومكنتهم من إنتاج خيارات إبداعية كبرى. ويكفي أن نذكر فريديريك نيتشه وريمون روسيل وفردريش هولدرلين وفانسان فان كوخ وأنطونان أرطو ولوي ألتوسير وفرانز كافكا وفيودور دوستويفسكي وسورين كيركيغارد وبيسوا وغي دوموباسان ولودفيغ فتغنشتاين وراينر ماريا ريلكه وجيرار دو نيرفال وجيل دولوز.. والقائمة طويلة، هؤلاء الذين نزعوا الأثواب التي كان يقترحها عليهم العقل ليلجوا بكل قوتهم تلك الغابة المتشعبة السبل التي يسمونها جنونا. كان الألم حاضرا في هذه التجربة، وكان القتل الافتراسي للإطارات التي تؤسس عصرهم حاضرا.. وكان الإبداع الناقض لما قبله هو «المستقبل الذي يدوم طويلا». وهو ما يستدعي تأملا عميقا لكشف تأثير تجربة الجنون، على نحو يختلف بين هذا وذاك، في إبداعات هؤلاء، ومن ثمة إدراك التحولات الجمالية التي لحقت بأعمالهم، ووسمتها بـ «الإبداعية الخلاقة». وهذا يقتضي، أيضا، معرفة ما إذا كان جنون الإبداع مجرد أزمة عصبية طارئة تتكرر بين الفينة والأخرى، أم لحظة رحبة من الهواجس يتم عبرها استرجاع الأشياء كما تتصورها الذات المتعكرة بالتخيل والهلوسة؟
بالرجوع إلى كتابات المجانين، يتبين أن هناك تغيرات في سلوك المعنى، ذلك أن اللغة هنا تنتج المفارقات، وتحطم الأصل بالمفهوم الذي وضعه له جاك ديريدا. التراكيب ليس لها هنا أي أصل، أو على الأقل توحي بذلك ما دامت تجهز على النظام البلاغي وتخرقه من الداخل. فهي لغة تشتغل على «تحطيم الأصل الثابت للمعنى بوصفه مصدراً، وتقويضه وتحويل كل شيء إلى خطاب، وتذويب الدلالة المركزية».
ولذلك، فالكاتب المجنون هو بمعنى من المعاني «صانع معجزة». إنه لا يكتب ليتجاوز الأصل، بل يكتب انطلاقا من كونه هو الأصل نفسه.
فالكتابة لدى هؤلاء ليست عملية تلاعب بالمفردات أو الصوائت، وليست قط بحثا عن التدمير والاختلاف وإخلاف التوقع. إنها تعبير جريح تكتبه يد وجدت نفسها تمسك بالفأس عوض القلم، لكسر البنى التي تحتكر إنتاج المعنى بين النص والقارئ. ولهذا، فنحن نلاحظ أنها كتابة مليئة بالتقعيرات والشقوق والتثغيرات الغامضة والمفاجئة (مناطق اللاتحديد)؛ هي كتابة غير هادئة ولا تطمئن إلى أي نسق جاهز. إنها ثمرة الاكتئاب والألم العميقين، وإلا بماذا يمكن تفسير الأزمات الهلوسية التي كان يمرّ بها رامبو عندما كتب رائعتيه: «فصل في الجحيم» و»الإشراقات»؟ وما سرّ الحالات العُصابية-الاكتئابية التي كان يمرّ بها غوته صاحب رائعة «فاوست» من وقت لآخر؟ وما معنى القلق الهائل الذي كان يعاني منه كيركيغارد أو كافكا أو ريلكه؟ وماذا عن ولع كوليردج أو بودلير أو كوكتو بالمخدّرات؟ وما تفسير ذلك الطيش أو الانفعالات المزاجية الغريبة لمايكل أنجلو؟ وكيف نفسّر الميول الانتحارية لدى غوغان وفان غوخ وفيرجينيا وولف وآخرين عديدين؟ وماذا عن انهيار عقل نيتشه وهو في أوج إبداعه وعبقريته، وهل له من تعليل؟ وماذا عن جنون غي دو موباسان وهو في ذروة شبابه وعطائه أيضا؟ وبماذا يمكننا أن نفسر الشيزوفرينيا الهائلة لأنطونان آرطو، أو الاكتئاب النفسي العميق لبيتهوفين وبيساوا وفتغنشتاين؟ وماذا عن الهذيانات الرائعة لجان جاك روسو؟ أو نوبات الصرع المرعبة لدوستويفسكي؟ إلخ إلخ..
إن الكاتب الذي يلوذ بالجنون يهرول مدفوعا بقوة قاهرة على جسور معلقة معتمة يلفها السواد، وأقصى ما يفعله هو أن أنه يصطاد بعض النيازك الهاربة التي لا يدركها سواه. وتأسيسا على ذلك، فاللغة التي يستعملها هذا الكاتب ليس ممرا يفضي إلى شيء مغلق، بل تيها يحطم المعنى الثابت لصالح المعنى المتعدد اللانهائي ، فضلاً عن اتساع النسيج اللغوي الحامل لدلالاتٍ أخرى يبنيها التأويل وتعززها القراءة البيوغرافية أو النفسية. إنه نوع من «اللّعب الحرّ» اللامتناهي لكتابة ليست منقطعة تماماً عن المعطى الثقافي للجنون بالمفهوم الذي وضعه فوكو في كتابه «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي». وبمعنى من المعاني، فهذا «اللعب الحر» مرادف للركاكة، أي ما يستعصي على الفهم، وما ينزلق من البيان والتبين.
فالركاكة، لغةً، هي عدم الاتساق، وهي حين يركب الكلام بعضه على بعض، فيختل المعنى ويصبح مفعما بالالتباس؛ وهي أيضا الكلام الذي يرتجف وينقلب من فرط الحماس والانفعال. ولهذا أزعم- عن عمد- أن الكتابة، في العمق، لا يمكنها أن تمتلئ سوى بالركاكة: بهذا الخروج الصريح عن الأشكال المبنية سلفا. أكيد أن هناك الكثيرين يعتبرون أن اقتفاء النماذج والاقتداء بمنجزها هو صهيل الحصان الذي يعلن عن قدومهم المرحب به إلى قلعة الأدب. غير أنني أرى أن الكتابة تتم، أساسا، في المكان الضاج بضربات المطرقة، والحافل بالأصوات المهتاجة التي تنزع إلى إدراك شيء هارب. إنني لا أتصور، مثلا، كيف يمكن للكاتب أن يكون «بليغا»، إذا لم يعثر على أسلوبه الخاص، وعلى الصوت غير المشوه الصاعد من أعماقه. الصوت الذي يشبهه. الذي يسبب الرعشة والوخز والطنين. الذي لا يهتم إن كان وجهه حليقا ووسيما، وإن كانت جواربه مثقوبة وشعره طويل وبشرته كالحة. فإذا كانت البلاغة هي حسن البيان وإدراك غاية الوصول، فإن الركاكة انحياز للتسكع دون غايات أو وعود. ولهذا، فالكاتب «الركيك» هو من يعبس في وجه الاتساق، ويدوس بقدمه المفلطحة والحافية عقرب البوصلة؛ هو من يستطيع أن يصيب «الأوزان» و»الأجناس» و»القوالب» بنوبة قلبية؛ هو من لا يهتم أساسا بالجسور، بل يميل كل الميل إلى الهوة، فيعمقها بإلحاح، ويحولها إلى مغامرة تسطع بجلال أمام ما هو متاح وموجود ومسبق. إن الدرس البلاغي الذي تعلمناه في المدارس غير منفصل عن رائحة الشيخوخة وهي تجتر التهاب المفاصل في غرفة باردة. هذا الدرس ظل معزولا عن ما يجعله خاضعا للتشويش والالتفات، ومعزولا عن ما يجعله مملوءا بالارتياب؛ ربما يرجع ذلك إلى التصاق الدرس البلاغي العربي بالتراث وعدم انفتاحه على الممكن، والتقدير السلبي الذي يحمله بعض الكتاب الدارسين لبلاغة «الحياة اليومية»، ليس في العالم الحقيقي فحسب، بل حتى في الفضاء الرقمي الذي أفرز، في بعض تجلياته، مظهرا هزليا (باروديا) للبلاغة القديمة/الصنم، دون أن يتكبد الدارسون عناء فحصه وقياس نسبة الكحول في دمه. إنها ليست دعوة لكسر البلاغة المهذبة فقط، بل دعوة إلى تحويلها إلى «أرشيف» يمكن العودة إليه أحيانا للاستمتاع والمقارنة والدحض. والحل هو الدخول في صداقة شفافة مع الركاكة، ومع الجمل الشعثاء والمبللة بالعرق، ومع التي تحاكي الفوضى والخيبة والحرب والحذاء العسكري، ومع التي تحمي رأسها بجريدة من الشمس، ومع تلك التي تمشي في أسواق الهواء الطلق، ومع تلك المكتظة بتعابير الناس البسطاء، ومع تلك التي لا تسعى إلى التقاط صورة مع هذا الزعيم أو ذاك.. بل تسعى- وهذا منتهى طموحها- إلى توسيع الخيال الفردي للكاتب.
إن العالم الآن، مع الضجيج الذي يرافقه، أصبح خاليا من المعنى (الاتساق). ومن ثم، فهو يحتاج إلى بلاغة تستطيع أن تقوله وتنقله وتترجمه؛ يحتاج إلى بلاغة تحقق معنى مجنونا ومضطربا ومتحولا وفصاميا، بدل الارتكان إلى بلاغة ابن جني وحازم القرطاجني والجاحظ وابن المعتز والسكاكي.. وآخرين. وهكذا، سيكون بوسع الركاكة، كمعطى جمالي، أن توسع دائرة نفوذها لتضم كل صور التعبير ووجوهه اللسانية؛ فهي التي بإمكانها أن تقدم لنا صورا تعبأ بمقامات القول ومقاصده، في مستواه الصفر؛ وهي التي بإمكانها حماية «اللامعنى» كشيء ثمين نعيش به ونستمر. وبمعنى أدق، فإن البلاغة التي لا تنهض على البعد التداولي الركيك للخطاب (هنا والآن)، ولا تمنحه موقع السيادة والهيمنة، تساهم في نقل اللامعنى إلى الهامش، وتحدث ثغرة في المنطقة التي يتقاطع فيها الأسلوب والحجاج، كما يقول البلاغيون. إن البلاغة التي ندعو إليها تتعارض مع النظام التقليدي الاستبدادي الذي يجبرنا على إخضاع «الركاكة» للعلاج، ويتعامل معها كنوع من القصور الذهني والكسل الفكري، وبأنها هي الوجه الهزلي للغة. والحال أن بلاغات أخرى تقف خلف الباب، وتعكس وجهة نظر أخرى، ونظاما آخر يكبر بيننا باستمرار.. ويجعلنا نحبس أنفاسنا لأنه يُشْعِرُنا بأن الركاكة هي صورتنا كما هي، وبأن «البيان والتبيين» مجرد ضربة خفيفة بطرف عكاز على كتف عالم قديم.. وموغل في الزوال.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 11/08/2023