صدر حديثا للأكاديمية الشاعرة والناقدة حورية الخمليشي، عن دار أكورا للنشر والتوزيع ، ديوان»كتابة النوشو» .
جاء في تقديم حاتم الصكر :
في تصدير حورية الخمليشي لنصوصها، نعثر على ما يمكن وصفه بعيّنة دم تلك النصوص أو صنفها وتجنيسها النوعي. فهي كما جاء في المقتبس من التوحيدي (نثر كأنه نظم، ونظم كـأنه نثر)، وذلك أفضل ما يمكن لكتابة أن تدّعيه متجسداً في وقوفها بين حدّي النثر بطلاقته ولا محدوديته، والنظم بأطره وصوره وإيقاعاته. وهكذا تفلت نصوص الخمليشي من الانحصار النوعي. فلا يُخضعها القارئ لاشتراطات نوع بعينه. فهي ليست قصائد نثر ولا هي نثر شعري. إنها تتردد بحرية وتوسيع بين النوعين. كما اتخذت مكانها بين نوعي النثر والنظم.
النظم هو التأليف. وفي نوع الكتابة التي تبتغى اللانهائي هدفاً – كما في وصف الخمليشي لنصوصها في عنوانها الجانبي- فإن المطلق سيستثمر تلك الحرية النوعية .فتخلق الخمليشي لغة نصوصها من ذلك السفَر الحيوي بين الكتابة والمحو. كل كتابة تحمل فناءها في ثناياها. في القراءة تتحول إلى متون معروضة للتأويل والمعاودة والتفكر، وتأخذ كينونة جديدة. فكأنها تنتقل بالنصوص من لذة القراءة إلى قراءة اللذة. تتوسع وتمنح القارئ امتداداً في الدلالات وإغراء بأن يشارك في بناء المعاني وملاحقة التحولات والسياق المائي الذي اتخذته النصوص.
يتحول التصوف والإيغال في المطلق والبحث عن العبارة والعرفان الغائب إلى مناجيات عذبة، يمدها النثر بصوره، والنظم بإيقاعات الجمل والتراكيب.
في النصوص القصيرة في الكتاب نعثر على تلك الكتابة البيضاء التي تقود إلى الكشف:(أحمل مصباحاً لأعثر على أناي). تقول الخمليشي. وفي رحلة التعرف هذه سيتحول الوجد الصوفي إلى تعيّنات نصية تأخذ القارئ إلى الصورة التي تتجسد كما لو في عمل تشكيلي.
جوهر تلك الكتابة هو الماء نفسه. ذلك الذي تحدث عنه باشلار مرافقاً للأحلام. ووجد أن ثمة اتصالاً بين كلام الإنسان وكلام الماء. وفي لغة الإنسان سيولة ما وسرعة تدفق في مجموعها، تسبب إثارة خاصة تذكّر بصور الماء.
«رسمت حُلُمي على الماء.. رسمت بحِبْرِ البحر». تقول الخمليشي لتركّز تلك القرابة بين كلماتها ومصدرها المائي.. وهي تدلنا على منمنماتها التي بثتها في صفحات الكتاب. رسوم تتّصف بسيولة حرة كتلك التي في كلام باشلار عن اللغة. وصور خليقيّة تمنح بسوادها وبياضها فسحة تأمل الثنائية السرمدية بين الحضور والغياب وجدلية الموت والحياة.. في (كتابة على الماء) نقرأ نصوصاً تتماهى بوجود الماء. حتى اسم الكاتبة سيكون ضمن تلك التداعيات: (حورية تنسج ثيابها بخيوط المطر). الرؤية بالقلب كما المعري في جنّته، ستمنح المخيّلة تلك الصّور التي ضجت بها النصوص. تساؤلات عن مكان المكان، وعن وجود الشيء وتلاشيه. عن الذكرى والنسيان والحلم والمادة. لكن اللغة هنا طيّعة بسيطة كطبيعة الماء تماماً، رغم أن لها عمقاً تحصده القراءة، وهي تجني الدلالات التي ترفع البساطة إلى التعمق، والمعرفة إلى حُرقة السؤال الدائم والأبدي، كما يتجلى في رسومها التي لا تقف عند مهمة التوضيح، بل تستكمل، بالتكرار وثنائيات الأبيض والأسود وحوارهما الجمالي ثيمةَ البحث والتعرف، والانغماس في تلك الكتابة التي تتمَوْضع على صفحة الماء. لكنها ترسم حدودها خارجه، وتصنع ماءها ودلالاتها وإيقاعاتها على شواطئه، وفوق صخب موجه المتغير دون توقف.
حاتم الصكر
«كتابة النوشو»: حورية الخمليشي تسافر بين الكتابة والمحو
بتاريخ : 12/11/2024