كتاب «أماكن الفكر – حياة إدوارد سعيد» : تيموثي برينان يكشف أوراق إدوارد سعيد ومصادره المجهولة

في أثناء حياته كما بعد رحيله، صدر عن الناقد والمفكر الفلسطيني – الأمريكي إدوارد سعيد (1935- 2003) كثير من الكتب، خصوصاً في اللغة الإنجليزية التي تناقش أفكاره وتنافح عنه أو ضده. وقد تركز معظم هذه الكتب حول ما أثاره في كتابه «الاستشراق» (1978) من عواصف هزت أسس الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الغربية، وجعلت كثيرين من العاملين في هذه الحقول الأكاديمية والمعرفية يفضلون عدم إطلاق وصف المستشرق عليهم. وبغض النظر عن الاستحسان والتقريظ أو الهجوم الحاد العنيف الذي تلقاه عمله، فإن منجز سعيد (أستاذ الأدب الإنجليزي والأدب المقارن في جامعة كولومبيا الأميركية العريقة على مدى أربعين عاماً) لم ينل من الدراسة الموضوعية التي لا تنحاز معه أو ضده، ما يستحقه ويضيء جوانبه عمله التي تغطي حقولاً معرفية متصلة ومتشابكة.
وقد بقي كثير من الأفكار المحورية اللامعة والعميقة التي شغلته طويلاً وعاد إليها كثيراً في كتبه ومقالاته محجوبة في غمار العواصف الكلامية التي دارت حول كتاب «الاستشراق» أو حول مواقفه السياسية، كفلسطيني ينافح عن القضية الفلسطينية في الإعلام الغربي عموماً والأميركي خصوصاً. صحيح أن عدداً من المؤلفات التي خصصت لدراسة تأثيره في الحقل النقدي الذي يدعى ما بعد الكولونيالية، أو دراسات ما بعد الاستعمار Post-colonialism أو Postcolonial Studies، بوصفه الباحث الذي وضع أسس هذا الحقل النقدي والمعرفي الواسع المتعاظم، قد بحثت علاقة كتاب «الاستشراق»، وكذلك كتابه التالي «الثقافة والإمبريالية» (1993)، باشتداد عود هذا التيار من تيارات المعرفة التي تعيد قراءة أثر الاستعمار في آداب المستعمر والمستعمر في الآن نفسه، كما أن عدداً من المصطلحات التي صكها أو استعارها من غيره ولكنه شق لها مسارات جديدة وأعطاها معاني قد تكون معاكسة لما قصده مؤلفون ونقاد قبله، مثل الدنيوية والنقد الدنيوي والنسب والانتساب والقراءة الطباقية والجغرافيا الخيالية ، والأسلوب الأخير أو المتأخر ، وغيرها كثير من المصطلحات التي أصبحت دالة على إدوارد سعيد وتفكيره النقدي، هذه المصطلحات تمت مناقشتها وبحث أهميتها في النظرية الأدبية المعاصرة، وفي عدد من الحقول الموازية في العلوم الإنسانية.

بحثاً عن الشخصية العميقة

لكن الصورة الكلية لعمل سعيد ومنعرجات تطور فكره النقدي وانشغالاته الفكرية والفلسفية والسياسية لم تتوضح قسماتها في معظم الكتب التي صدرت عنه حتى الآن، في الأقل في عشرات من الكتب التي قرأتها عنه في الإنجليزية والعربية. فالطابع السجالي التبجيلي أو الهجومي هو ما يشكل أساس هذه الدراسات عامة، حيث تضيع الشخصية العميقة لمنجز سعيد النقدي والفكري وإسهامه المتعدد في حقل النظرية وتيارات نقد الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، وإعادة النظر في الأسس الفكرية والثقافية للاستعمار ومفهوم الهجرة والمنفى والأثر الهائل للإعلام والتغطيات الإعلامية المضللة في تشكيل العالم الحديث، وطمس قضايا المظلومين والمحرومين من الأفراد والشعوب والدول، وتكريس مصالح الشركات الكبرى العابرة للقارات والاستعمار الغربي، خصوصاً الأمريكي منه الذي لم ينسحب من المشهد بل أضاف إلى آلياته وترسانته المادية والمعرفية مما يجعله أكثر خطراً وانتشاراً وقدرة على الغلبة.
في كتاب تيموثي برينان (وهو تلميذ سابق من تلامذة سعيد في جامعة كولومبيا، وأستاذ في جامعة مينيسوتا الأمريكية) «أماكن الفكر (أو العقل) – حياة إدوارد سعيد») (بلومزبري، لندن، 2021)، نقع على دراسة واسعة المصادر، عميقة التحليل والربط بين التيارات والأشخاص الذين أثروا في فكر سعيد، والعوامل السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية التي شكلت شخصيته ووجهت أفكاره وصنعت مناقبه الأخلاقية ، وجعلت منه مثقفاً كونياً إنسانياً يصدر عن انتمائه الثقافي والأخلاقي إلى فلسطين، بوصف قضيتها فحصاً لضمير الإنسانية الخامل في عصر تغول المصالح وتصاعد الظلم وغياب العدالة على ظهر هذا الكوكب. وينهل برينان في هذه السيرة الغيرية التي كتبها عن سعيد من مصادر عديدة، من أرشيف ضخم أتاحته له مريم زوجة سعيد ومن كتب سعيد ومقالاته الكثيرة التي لم تضمها كتبه وأوراقه المدرسية والجامعية ومراسلاته مع أصدقائه وأساتذته ومحرريه وزملائه في الجامعة والنقاد والفلاسفة والمفكرين الذين تواصل معهم (مثل رولان بارت، وجاك دريدا، وميشيل فوكو) ومن حوارات أجراها المؤلف مع عائلة سعيد وأصدقائه ومن عرفوه خلال مراحل حياته المختلفة.وهو ما ارتقى بهذه السيرة إلى مستوى يجمع بين سرد وقائع حياة سعيد من الطفولة وصولاً إلى لحظة رحيله في أحد مستشفيات نيويورك متأثراً بإصابته بالسرطان (25 شتنبر 2003)، وتحليل مشروعه النقدي والفكري والسياسي والربط بين رسالته الأخلاقية وتفكيره النقدي وكذلك الإضاءة على بؤرة هذا المشروع والانشغالات الأساسية لهذا المفكر والمنظر والناقد الأدبي المختلف والمتميز في تاريخ النقد والنظرية في القرن العشرين.

مصادر القلق

وعلى رغم أن برينان التلميذ النجيب لإدوارد سعيد والباحث المتميز في دراسات الاستعمار وآليات الهيمنة الكولونيالية وحقل ما بعد الاستعمار يبني نتف هذه السيرة ويلم أجزاءها بحب وتعاطف وفهم لدوافع سعيد وسجل حياته ومصادر قلقه واضطراب عالمه، فإنه لا يوفر أستاذه من النقد والتقريع إلى درجة المبالغة أحياناً وعدم فهم السياق الاجتماعي والسياسي الذي نشأ فيه إدوارد في القدس والقاهرة، وعدم الأخذ في الحسبان أن إدوارد كان الابن الوحيد بين عديد من البنات لعائلة شرقية. ومن ذلك أخذه بوجهات نظر أخوات إدوارد في طبيعة علاقته بوالده وعلاقته بهن وبأزواجهن وعلاقته بوالدته ومحاولة دحض الصورة التي يرسمها لأبيه في كتاب مذكراته «خارج المكان» 1999، وعلاقته الإشكالية المتوترة به. ومن ذلك اتهام برينان سعيد انطلاقاً من حواره مع أخواته ومع بعض من عرفوه مثل الروائي والباحث اليساري الباكستاني طارق علي بأنه كان متعطشاً للمديح والإطراء، على رغم أنه يصفه في مواضع أخرى من الكتاب بأنه شخص متعاطف محبب وظريف وزوج محب وأب عطوف وصديق صدوق. ولهذا يبدو لي أن تضخيم بعض عيوب سعيد الشخصية والسلوكية يمكن فهمه على خلفية تعظيم الكاتب أثره الفكري ومناقبيته الأخلاقية وعمق نظراته النقدية والثقافية والفكرية والسياسية في شكل من أشكال أنسنة سعيد، وجعله قريباً من القارئ الذي لا يعرفه واقتصرت علاقته به على ما قرأه في كتبه ومقالاته.
وبغض النظر عن الملاحظة السابقة ، فإن برينان يأخذ على عاتقه أن يرسم مصادر سعيد الثقافية ونشأته السياسية والاجتماعية ونضوجه الفكري والنقدي عبر سنوات الدراسة المختلفة وتبيان البذور الأولى لتفكيره النقدي وكذلك الإبداعي، كاشفاً عن قصائده التي كتبها في مراحل المدرسة والجامعة وكذلك القصة التي أرسلها إلى مجلة «نيويوركر» ولم تنشر والروايات التي بدأ في كتابتها ولم يكملها. وبسبب من وفرة المصادر والأوراق والمسودات والمراسلات التي اطلع عليها ، فإنه يتمكن من رسم صورة متدرجة غنية بالإلماعات والتفصيلات والإشارات الدقيقة والمدهشة إلى منابع إدوارد الثقافية والنقدية وإلى أسس تكوينه الفكري وتشكل شخصيته في نوع من إعادة بناء المصادر الثقافية في مسيرة إدوارد على نحو أظن أنه سيؤثر كثيراً في الدراسات المقبلة التي قد تكتب عن الناقد والمفكر والمنظر الفلسطيني – الأمريكي الكبير.

مقالات لم تنشر

نبش برينان أوراق سعيد واطلاعه على مقالاته التي لم ينشر بعضها أو أنه نشرها في مجلات ودوريات، لكنه لم يضمها إلى كتبه وكذلك اطلاعه على قصاصات أوراقه والمراسلات التي تحدث فيها عن مشاريعه، يضع سيرة سعيد النقدية والفكرية والنظرية في ضوء جديد كاشف ومنير. فإضافة إلى رسم شخصية ممتعة لإدوارد الإنسان العادي في حياته اليومية ومتاعبه وآلامه وعلاقاته ،وطاقته الخلاقة وقلقه الدائم ودفاعه المستمر الذي لا يفتر عما يؤمن به من قضايا العدالة، وضرورة أن يتحرر الفلسطينيون وينالوا حقوقهم الوطنية، فإن ما يلفت الانتباه في كتاب برينان هو كشفه عن مصادر تأثر إدوارد سعيد النقدية والفكرية والنظرية.
يضيء الكاتب على انشغالات عدد من أساتذة إدوارد والمثقفين والمفكرين الذين مروا في حياته أثناء المرحلة المدرسية في القاهرة ، وكذلك في مدرسة ماونت هيرمون في ولاية ماساتشوستس الأمريكية وفي جامعتي برينستون وهارفرد، حيث حظي بعدد من الأساتذة اللامعين الذين درس على أيديهم واهتموا به كتلميذ لامع يبشر بمستقبل زاهر في عالم النقد والنظرية. يلخص برينان على سبيل المثال مقالة نشرها المفكر والسياسي اللبناني شارل مالك (1906- 1987) عام 1952 في مجلة «الفورين أفيرز» عن العالم العربي وعلاقته بالغرب والشكل الذي ينبغي أن تتخذه هذه العلاقة ، حيث نعثر على البذور الأولى لتأثير مالك على مشروع إدوارد حول الاستشراق. ومن المعروف أن مالك كان صديقاً لوالد سعيد وظل إدوارد يتواصل معه أثناء دراسته الجامعية في أميركا وحتى بعد تخرجه وحصوله على شهادة الدكتوراه. ولأن مالك تحول منذ خمسينيات القرن الماضي وأصبح منظراً لليمين السياسي اللبناني. وبعيداً من التعاطف السياسي مع الفلسطينيين، فإن إدوارد وجد نفسه على طرف نقيض معه، على رغم العلاقة العائلية الوطيدة والتأثيرات الثقافية والحضور الكبير لشخصية مالك في حياة إدوارد في مرحلة مهمة من سنوات تكوينه الثقافي والفكري.

الكلمة والأداء

إلى جانب مالك،يشدد برينان على تأثير عدد من أساتذة سعيد في جامعتي برينستون وهارفرد. ففي برينستون يحضر الناقد الأمريكي آر. بي. بلاكمور( (1904 – 1965) الذي يعده إدوارد نفسه واحداً من أعظم نقاد أمريكا في القرن العشرين، وهو بحسب استنتاجات برينان ألهم سعيد كيف يواجه الجمهور من الطلبة أو المستمعين إلى محاضراته أو المشاهدين الذين يراقبون الشاشة بحضوره الجسدي والعلاقة المدهشة التي تقوم بين الكلمة والأداء الانفعالي المسرحي، وكذلك في اهتمام بلاكمور كما حصل مع سعيد في ما بعد بالدور الخطير لوسائل الإعلام وتوجيهها القراء إلى عالم الاستهلاك الرأسمالي وصناعة الآراء العامة وقولبتها ليفيد منها أصحاب المصالح.
أما الأستاذ الآخر الذي يحضر بوضوح في سيرة إدوارد فهو الناقد الأمريكي هاري لافن Harry Levin (1912- 1994) الذي كتب عن عدد من الموضوعات التي كتب عنها سعيد واهتم بها اهتماماً واضحاً خلال مسيرته الفكرية والنقدية، كما أنه كتب عن بعض النقاد والمنظرين الذين كرس لهم التلميذ صفحات كثيرة من كتبه ومقالاته في ما بعد. فحسب برينان فإن لافن أرشد تلميذه إلى المفكر الإيطالي غيامباتيستا فيكو (1668- 1744) والناقد الألماني إريك أورباخ( (1892- 1957الذي تراسل معه لافن وأبدى اهتماماً كبيراً به في أثناء تدريس أورباخ في جامعة ييل حتى وفاته. وإلى جانب هاتين الشخصيتين البارزتين في المشهد النقدي الأميركي خلال القرن الماضي ثمة قوس واسع من الزملاء والأصدقاء والمجايلين له من النقاد والباحثين وحتى زوجته الأولى مايرة التي تعاونت معه في ترجمة مقالة مهمة لإيريك أورباخ في عنوان «الفيلولوجيا والأدب العالمي» وقد ظهرت الترجمة عام 1969.
ويبدو أن ثمرة هذا التعاون قد تجلت في اهتمامه الذي تواصل في ما بعد بعمل أورباخ وتركيزه على عمله واقتباسه المستمر منه في كتبه ومقالاته. وقد كان الناقد الألماني الذي قام سعيد بتقديم طبعة مطبعة جامعة برينستون لكتابه الشهير «المحاكاة» Mimesis من بين الكتاب والنقاد والفلاسفة المركزيين الذين يعود إليهم سعيد مراراً وتكراراً في كتبه ودراساته، جوزيف كونراد وجوناثان سويفت وفيكو وجورج لوكاش وأنطونيو غرامشي وثيودور أدورنو وفرانز فانون.
وهكذا تتضح للقارئ المتخصص والقارئ العام المهتم دائرة التأثيرات التي أحاطت بنص إدوارد سعيد النقدي والفكري والنظري وحتى الصحافي وكذلك المرئي (ولنتذكر أن سعيد أنجز عدداً من الأفلام الوثائقية المهمة عن فلسطين وموضوعات أخرى) العامر والمحتشد بالإشارات الفكرية والنظرية العميقة، لكن كوكبة هذه التأثيرات والاهتمامات التي تجمعه بمعلميه وملهميه لا تقلل بأي شكل من الأشكال من أصالته النقدية والفكرية والنظرية. فالناقد والمفكر والمنظر الكبير لا يتشكل وعيه أو منجزه إلا ضمن حقل غني من التأثيرات والتقاطعات وإعادة التفكير والنظر في الموضوعات التي بحثها آخرون من قبله. هكذا ينضج الباحثون والمنظرون الكبار وتعلو قاماتهم ويصبحون جزءاً من السيرة الحيوية للفكر والثقافة البشرية. وقد كان إدوارد سعيد واحداً من هؤلاء من دون أي شك.

(عن الأندبندنت عربية)


الكاتب : صالح فخري

  

بتاريخ : 26/09/2022