ليس هذا الكتاب (الصحوة: النفوذ اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية) مجرد سيرة ذاتية ساحرة لشخص مثير للجدل جداً، بل هو كتاب يتجرأ على مواجهة أكثر القضايا تحدياً في العصر الحديث بأمانة فائقة.
ليس كتاب ديفيد ديوك (الصحوة) لضعاف القلوب، أو لأولئك المعتدّين بنظم معتقداتهم، بل لأولئك الذين لا يخشون من أن تحفزهم الحقائق والأفكار التي ربما تضع المعتقدات الراسخة موضع تساؤل. إنه كتاب ثوري تطوري ربما (يهز الحضارة من الأعماق) كما يقول غليد ويتني (Glade Whitney) العالم البارز في علم الوراثة السلوكي. يكرس ديفيد ديوك معظم كتابه لوجهة نظره في الأعراق وتضميناتها المجتمعية والتطورية، ولكنه حكاية مثيرة لرجل عرف بوصفه صورة كاريكاتورية رسمتها له وسائل الإعلام المعادية.
ثم يردف ألان بيزانسون قائلا: لقد رفض المسلمون رفضا قاطعا أن يكون القرآن تقليدا للكتب السابقة له او حتى متأثرا بها. فالمسلمون اخترعوا فكرة أن النبي محمد كان أميا لا يعرف القراءة والكتابة لكي يقولوا بأنه لم يطلع على كتب اليهود والمسيحيين قبل أن ينطق بالقران. وبالتالي فكيف يمكن أن يكون متأثرا بها وهو يجهلها تماما، ولا يعرف أن يقرأ!؟
أما بيزانسون فيؤكد بأن النبي محمد كان مطلعا على كتابات اليهود والمسيحيين قبل أن يعلن دعوته. ويرى انه اطلع عليها من خلال كتابات هراطقة المسيحية. والواقع أن المطلع على التوراة والإنجيل يجد أصداء لهما في القرآن. ولكن استعارات القرآن من الكتب السابقة له تبدو واضحة ومشوّهة في آن معا. فإبراهيم المذكور في القرآن ليس أبراهام التوراتي، وموسى القرآني ليس بالضبط موسى المذكور في التوراة، ويسوع ليس عيسى ابن مريم الوارد في كتاب المسلمين. لنأخذ حالة عيسى مثلا. إنه يبدو في القرآن وكأنّه خارج الزمان والمكان وبدون أي علاقة مع بني إسرائيل. وأمه، أخت هارون، ولدته تحت نخلة! وهذا مخالف لما ورد في الإنجيل. ثم إن معجزات عيسى المذكورة في القرآن تبدو مستمدّة من الإنجيل المحرّف لا الحقيقي الذي يتداوله المسيحيون ويعترفون به رسميا.
ثم يردف ألان بيزانسون قائلا: المسيحيون يفرحون أحيانا للمكانة التي أولاها القرآن للمسيح ويعجبون بذلك أشدّ الإعجاب، ولكن عن جهل. فالواقع أن المسيح المذكور في القرآن ليس مسيحنا، وإنما يختلف عنه اختلافا جذريا. وبالتالي فلا داعي للفرح الزائد عن الحد.. فالإسلام لا يعترف بنا كما نحن عليه في الواقع وإنما كما يحب هو أن نكون..
وبالتالي فبالنسبة لليهودي والمسيحي لا توجد استمرارية تواصلية بين التوراة والإنجيل من جهة، والقرآن من جهة أخرى. وذلك لأن القرآن يشوّه القصص والأفكار الواردة في كتب اليهود والمسيحيين. وحتى تصوّر المسلمين لله يختلف جذريا عن تصورنا. فإله المسلمين متعال جدا بل وحتى متعجرف! إنه يطلب من الإنسان الطاعة والخضوع فقط بدون اي مساءلة او نقاش. ولا يقيم أي علاقة محبّة مع الإنسان كما نفعل نحن المسيحيين عندما ندعو الله بالأب. فالله بالنسبة لنا نحن المسيحيين قريب منا، بل إنه تجسد في سيدنا يسوع المسيح وتواضع وقبل أن يتقمّص شخصية إنسان بشري، لقد قبل بأن ينزل من السماء إلى الأرض. وأما عند المسلمين فالله يتعالى على البشر بطريقة مخيفة وينفصل عنهم انفصالا كليا في أعالي السماء. وهنا أيضا نسي صاحبنا أن كل سورة من سور القرآن تبتدئ بالآية التالية: بسم الله الرحمن الرحيم..
وفي الختام نلاحظ أن ألان بيزانسون يحمل على المستشرق الكبير لويس ماسينيون لأنه حاول التقريب بين الأديان التوحيدية الثلاثة وقدم صورة إيجابية عن الإسلام في فرنسا. فقد زرع هذا العالم الكبير في الأوساط المسيحية الفرنسية فكرتين أساسيتين: الأولى هي أن القرآن، على طريقته الخاصة، وحي إلهي أيضا. صحيح أنه مختصر وبدائي ولكنه وحي على الرغم من كل ذلك. وهو استمرارية للوحي التوراتي والإنجيلي. والثانية هي أن الإسلام دين إبراهيمي مثله في ذلك مثل اليهودية والمسيحية. وعندما ننظر إلى رفوف مكتباتنا نلاحظ وجود كتب عديدة تدافع عن الإسلام أو محبّذة له. وهي في معظمها من تأليف الكهنة المسيحيين التابعين لمدرسة لويس ماسينيون.
وإعجابهم بالإسلام له عدة أسباب. أولها كرههم للحضارة الغربية الحديثة الليبرالية والمادية حتى درجة الإباحية. فالتيار المسيحي في الغرب ينتقد هذه الحضارة بشدة لأنها بالغت في الشهوات. ومن هنا إعجابه بالحضارة الإسلامية التقليدية التي تذكّره بالحضارة المسيحية في القرون الوسطى من حيث الالتزام بالدين وطقوسه وشعائره، ومن حيث عدم الغرق في حياة الاستهلاك الحديثة واللهاث المحموم وراء الملذات.
وأخيرا فماذا يمكن أن نقول عن هذا الكتاب؟ يمكن القول بأن ألان بيزانسون على الرغم من شهرته كمؤرخ كبير لم يستطع تجاوز النظرة المسيحية التقليدية الموروثة عن القرون الوسطى والتي تكره الإسلام بشكل أعمى وجذري. كما أنه لم يتحرر من المسلّمات اللاهوتية العتيقة السائدة في الجهة المسيحية. ولم يتبنّ النظرة الحديثة والمقارنة للدين. وهي التي تنظر إلى الأديان التوحيدية كلها من زاوية واحدة ولا تفضل أحدها على الآخر بشكل مسبق. وهي نظرة تاريخ الأديان المقارنة التي ظهرت مؤخرا في أوروبا. ولكن يبدو أن بيزانسون لم يسمع بها حتى الآن!! وبالتالي فما الفرق بينه وبين الأصوليين الاسلامويين الذين يرفضون المسيحية أيضا ويستهزئون بعقائدها؟
كما ونستخلص النتيجة الأساسية التالية: وهي أن الحوار الإسلامي المسيحي أو الإسلامي اليهودي لن يصل إلى أي نتيجة حاسمة إذا لم نخرج كليا من لاهوت القرون الوسطى بكل مسلماته ومقولاته وطروحاته الطائفية. ينبغي أن نخرج مما يدعوه محمد أركون بعقلية النبذ اللاهوتي المتبادل. وهي عقلية تشكلت في القرون الوسطى وأدت إلى كره الأديان التوحيدية الثلاثة لبعضها البعض وتكفيرها لبعضها البعض. فراح كل دين يعتبر نفسه بمثابة الدين الوحيد الصحيح المرضي عند الله وبقية الأديان ضلال في ضلال. وهو لاهوت لا يزال الآن بيزانسون مسجونا داخل جدرانه كبقية الأصوليين على الرغم من انه مؤرخ مشهور ويعيش في ظل الحداثة الفرنسية الأكثر تقدما. وسوف يظل هذا الحوار حوار طرشان لأن كل طرف سوف يعود إلى قواعده سالما بعد انتهاء الحوار ويهاجم أبناء الأديان الأخرى التي يكفّرها أو يستسخف إيمانها على الأقل.
ولكن يبقى وجود هذا الحوار أفضل من عدم وجوده. ولقاء رجال الدين ببعضهم البعض أفضل من عدم اللقاء. نقول ذلك ونحن نقصد رجال الدين المنفتحين الذين يبذلون بعض الجهد لتفهّم الدين الآخر واحترامه وليس المتعصبين الذين ينغلقون داخل أسوار التزمت والتعصب لدينهم الخاص أو لعقيدتهم ومذهبهم. ولهذا السبب فاني أفضل ألف مرة عالما لاهوتيّا (أي رجل دين) كهانز كونغ على مؤرخ شهير يدعى: الان بيزانسون..لقد مللنا من التعصب والمتعصبين: من الانغلاق والانغلاقيين..

