قبل الشروع بالكتابة عن هذه الدراسة الهامة لابدّ من الإشارة إلى مؤلفها (تيري ايغلتن) المنظر الأدبي والناقد الفيلسوف والمثقف البريطاني ذائع الصيت، والذي يعمل أستاذاً للأدب الانكليزي في جامعة لانكساستر البريطانية ، وهو أحد المساهمين الكبار في حقل الأدب ونظرياته الأدبية. درسَ المفكر مقاربات كثيرة ومنها الشكلانية، والتحليل النفسي، والبنيوية وما بعد البنيوية وهذه المقاربات تتجذر عميقاً في الفكر الماركسي كما حاول أن يضيف ويطعم تقنياته الفكرية من تيارات فكرية أخرى أكثر حداثة من الماركسية . صدرت له العديد من الدراسات في الفلسفة والنقد والأدب وقراءات في اللاهوت ، ولأننا سنقوم بالكتابة عن اصداراته بشكل متتالي قد عرفنا بالمؤلف بهذا الموجز التقديمي.
يقدم بروفسور التاريخ في جامعة ويليامز الأمريكية ألكسندر بيفيلاكوا، نظرة شاملة ومثيرة للعلماء والكتاب الأوروبيين في القرنين السابع عشر والثامن عشر الذين ركزوا على الدراسات الإسلامية، عبر عمل يعنى بتاريخ الإسلام. فثمة مجموعات من النصوص العربية والفارسية والتركية، أول ترجمات للقرآن إلى اللغات الأوروبية وغيرها من أمهات المدونات والنصوص الإسلامية، للعديد من علماء نشأوا من جميع أنحاء أوروبا وهم خارجو البحث المتداول نسبياً اليوم.
يلقي بحث بيفيلاكوا الصادر في شباط (فبراير) الماضي ضمن كتاب بعنوان مثير «جمهورية الحروف العربية: الإسلام والتنوير الأوروبي»، الضوء على خلفيات أولئك العلماء ووجهات نظرهم حول الإسلام والناتج العلمي للثقافة الإسلامية. ومما يثير الدهشة أيضًا أنّ الكتاب يوجز الروابط بين هؤلاء العلماء والكنيسة الكاثوليكية، عبر أمر أصدره البابا كليمنت الحادي عشر (1649ـ1721) بتكليف إحدى مجموعات الباحثين للعمل على النصوص القرآنية، والذي قد تكون أصوله الألبانية (أغلبية إسلامية) مبعث ذلك الاهتمام.
الجانب الأكثر إثارة للاهتمام في الكتاب هو حجة المؤلف بيفيلاكوا بأنّ هؤلاء العلماء تنافسوا وتبادلوا الأفكار مع بعضهم بعضاً، وأثروا على مفكرين بارزين في التنوير مثل؛ مونتسكيو وفولتير. لسوء الحظ، فإنّ هذا الجانب غير واضح كثيراً؛ حيث يسعى الكتاب لنثر سعة أكبر من المعلومات بدلاً من التعمق في التحليل والاستقراء، ومع هذا بدا العمل سعياً جدياً لزراعة أفضل الأفكار، وإزالة أخرى هي المتداولة عما خصّ الإرث الإسلامي غربياً.
بعد اكتشاف هذه الأعمال، التي أوردها الكتاب، في نهاية القرن السابع عشر، تعجب القرّاء الأوروبيون «بعد أن ابتلعوا الأكاذيب حول المسلمين وإيمانهم لقرون». ولكن من خلال البحث الدؤوب، ساعدت دائرة من المثقفين الأوروبيين على تقديم كنوز حقيقية في لغات جديدة، حتى وإن بدا عملهم «سيشكل وجهات نظر أجنبية للشرق الأوسط في العصر الحديث».
وفي دراسته الجديدة كلياً، يبدأ ألكسندر بيفيلاكوا بمهمة تقصي الكتب التي بدأ سعي الأوروبيين إليها منذ حوالي عام 1600، حين جمعوا آلاف المخطوطات العربية والتركية والفارسية من أسواق الشرق الأوسط، وانتهى الكثير منها في المكتبات «الشرقية» الكبرى في ليدن بهولندا وأكسفورد وباريس. كانت الكتب التاريخية والجغرافية تحظى بشعبية كبيرة والتي برع الكتاب المسلمون في تأليفها، لذا حظيت بأولوية، وكذلك كانت هناك الدراسات الاستقصائية للفقه الإسلامي والتاريخ، والترجمات العربية للنصوص اليونانية القديمة مرغوبة أيضاً. وتم «إرسال أنطوان غالاند، الدبلوماسي الفرنسي، إلى اسطنبول في عام 1679 مع قائمة تسوق مكتوبة في حوالي عشرين صفحة».
وبعد أن قسّمت حركة الإصلاح المسيحية الأوروبية التجمعات الدينية إلى معسكرين معاديين، تنافس الكاثوليك والبروتستانت ليس فقط مع بعضهما بعضاً من أجل الروحية الفكرية الأوروبية؛ بل سعياً لإثبات نفسيها للعالم، بما في ذلك المسلمون، ولذا بذلوا اهتماماً مشتركاً بالفكر الإسلامي، فقد كان على المسيحيين أن يفهموه، حسب رأي الطائفتين الكبيرتين.
هذا برز في عام 1698، فقد شاهد الكاهن الإيطالي لودوفيكو ماراتشي الترجمة اللاتينية للقرآن منشورة، مع اللغة العربية الأصلية فعمل على ما وصفه «دحض الإسلام»، بترجمة ودحض كل سورة في المقابل «لكن من خلال دراسة «إيمان غريب»، قام ماراشي ومعاصروه بخدمة كبيرة»، يقول بيفيلاكوا، فلم تعد الآراء الخادعة للقرون الوسطى عن الإسلام بوصفه «محاكاة ساخرة شيطانية» ذات مصداقية.
في عام 1650، نشر مستشرق إنجليزي وعالم في الكتاب المقدس، هو إدوارد بوكوك «عينة من تاريخ العرب»، وهي «لقطة فخمة للحياة والثقافة العربية». كذلك أنتج مستشرق إنجليزي آخر هو سيمون أوكلي «غزو سوريا، بلاد فارس ومصر، من قبل المسلمين»، ونشره كتاباً في عام 1708، كاشفاً عن عناية مزدوجة فاعلة للمسلمين «أسلحتهم وتعلمهم». ونقل بوكوك العشرات من الأعمال المتاحة حديثاً باللغة العربية في «عينة»، لا تضم فقط الأعمال الدينية الإسلامية ولكن تلك الطبية والعلمية التي وضعها ابن سينا، وهو طبيب فارسي، و موسى بن ميمون (المعروف باسم ميمونديس)، الفيلسوف اليهودي. لقد «ساعد هذا الشرق الأوسط على أن يبدو أقل غرابة»، كما يكتب بيفيلاكوا.
وعبر سلسلة من الاتصالات المعرفية هذه «أدرك الأوروبيون أخيراً أنّ الثقافة الإسلامية متجذرة في القيم الغربية». وتعلم العلماء الأوروبيون من بعضهم بعضاً ما خصّ الثقافة الإسلامية، فقد استخدم جورج سيل، في ترجمته الإنجليزية الرشيقة للقرآن (التي نشرت عام 1733، وكانت شعبية حتى خمسينيات القرن العشرين)، ترجمة المستشرق الإيطالي لويس ماراتشي (1612-1700).
وكان المؤرخ والكاتب التنويري الفرنسي فولتير (1694-1778) والمؤرخ الإنجليزي إدوارد جيبون (1737-1794) مدينين للفكرة ذاتها، فقد «اعتمد جيبون على عمل سيل وبوكوك حول المصادر الإسلامية في تاريخ مثير مثل «انحدار وسقوط الإمبراطورية الرومانية، دون أن يقدم كل منهما حججاً جديدةً».
وبالعودة إلى المؤلف، ألكسندر بيفيلاكوا، فهو أستاذ مساعد للتاريخ، متخصص في التاريخ الثقافي والفكري المبكر لأوروبا الحديثة (1450 إلى 1800).
يتناول بحثه الفهم الغربي للتنوع البشري والتقاليد الدينية والفكرية غير الغربية. وعادة ما يقدم دورات حول تاريخ أوروبا من عصر النهضة إلى عصر التنوير، وعلى وجه الخصوص حول التحولات الثقافية والفكرية لما كان يسمى في كثير من الأحيان بالعصر العالمي الأول.
وصدر كتابه «جمهورية الحروف العربية: الإسلام والتنوير الأوروبي»، من مطبعة جامعة هارفارد الأمريكية شباط 2018، اعتماداً على أساس المصادر العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية واللاتينية التي تم جمعها من سبعة بلدان للفترة من العام 2011 إلى العام 2016، وفيه إجابة عن كيف تحولت المفاهيم الأوروبية للإسلام وثقافته من منتصف القرن السابع عشر إلى منتصف القرن الثامن عشر، ولماذا.
وعموماً يظهر الكتاب أنّ الجهد الغربي لمعرفة الإسلام وتقاليده الدينية والفكرية، جاء عبر الالتزامات العلمية لمجموعة مختارة من العلماء الكاثوليك والبروتستانت، حين وضع هؤلاء المؤلفون وجهات النظر الموروثة عن الإسلام جانباً، ليقدموا فهماً جديداً عنه للغرب الحديث.