كتب لها وقع .. «عندما كنا عرباً» لـ إميليو غونثاليث فيرين 2/2

ليس هذا الكتاب (الصحوة: النفوذ اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية) مجرد سيرة ذاتية ساحرة لشخص مثير للجدل جداً، بل هو كتاب يتجرأ على مواجهة أكثر القضايا تحدياً في العصر الحديث بأمانة فائقة.
ليس كتاب ديفيد ديوك (الصحوة) لضعاف القلوب، أو لأولئك المعتدّين بنظم معتقداتهم، بل لأولئك الذين لا يخشون من أن تحفزهم الحقائق والأفكار التي ربما تضع المعتقدات الراسخة موضع تساؤل. إنه كتاب ثوري تطوري ربما (يهز الحضارة من الأعماق) كما يقول غليد ويتني (Glade Whitney) العالم البارز في علم الوراثة السلوكي. يكرس ديفيد ديوك معظم كتابه لوجهة نظره في الأعراق وتضميناتها المجتمعية والتطورية، ولكنه حكاية مثيرة لرجل عرف بوصفه صورة كاريكاتورية رسمتها له وسائل الإعلام المعادية.

وقال مونتابث: بالنسبة إليّ فان أهم ما أكده الباحث في مقالاته، وفي كتابه هذا، هو نفيه القطعي لفكرة الاسترداد كمشروع، أي نفيه لفكرة الاستعمار أو الغزو الأولية للعرب في الأندلس، ونفيه للفكرة التي أقام كل من إيزابيلا وفرناندو حربهما ضد العرب بناء عليها، والتي تعتمد على مفهوم التحرير والاسترداد بشكل مطلق، وذلك لأن الباحث يعتبر أن كلا من خسارة أرض إسبانيا منذ البداية في إثر تعرضها للغزو العربي، ومن ثم استرجاعها لاحقا، مجرد أسطورة مقصودة لا تستند إلى أسس تاريخية علمية، بل الحقيقة هي أن العرب دخلوا الأندلس بشكل طبيعي بعد وصولهم للمغرب، وذلك لأن جزءًا من أهل المغرب ومن المرتزقة الأفارقة كانوا فيها، ولأنه كانت فيها حرب أهلية، وبالتالي فقد وجدوا وأقاموا فيها ولكن بعد حوالي مئة عام من التاريخ المذكور وهم جزء حقيقي من المكون. ويعتبر أن عصر النهضة الأوروبي الأول كان قد بدأ فعليا في الأندلس، وأنه منتوج أوروبي خالص، أي أنه يعتبر المنجز الحضاري الأندلسي منتج أوروبي، في أرض أوروبية، جاء من خليط من السكان الأصليين الذين كانوا يقيمون في إسبانيا مع العرب القادمين بكل معارفهم الذاتية، وبالمعارف التي حصلوا عليها من ترجمتهم للمعارف الإغريقية والرومانية، وذلك لأن عددا كبيرا كان يتقن اللغة اللاتينية واللغة الإغريقية، وخاصة في بلاد الشام التي كانت متاخمة للرومان وكانت إحدى مستعمراتهم، وأخذوا أيضا الحضارة التي وصلتهم من بلاد فارس ومن علمائها وذلك أيضا لقرب بلاد ما بين النهرين إليها، ولكونهم كانوا جزءًا من الإمبراطورية الفارسية، وكل ذلك من قبل أن يأتي الإسلام إلى بلاد الشام وبلاد الرافدين، وحين جاء الإسلام واستطاع إنشاء دولة قوية، ووفر للعلماء شروط البحث، عندها وصل معهم إلى إسبانيا بشكل طبيعي مثلما وصل إلى أفريقيا، وبتمازج رائع مع الإسبان الذين دخلوا في الدين الإسلامي، والذين أصبحوا من نسيج الثقافة العربية المتقدمة جدا في ذلك الوقت، والذين مع بعضهم وبشكل سلمي طبيعي ومتتال بنوا النهضة الأوروبية الأندلسية. ويبرر إميليو غونثاليث ذلك بمنع وحظر وحرق كتب ابن رشد في جامعة السوربون في باريس في القرن الثالث عشر، وليس في القاهرة أو في أي بلد عربي آخر من بلاد الشام، وذلك لأنه لم يكن يُقرأ، حسب قوله، في البلاد العربية، وبالتالي فإن ابن رشد هو منتج أوروبي أندلسي، أثر في التفكير الأوروبي قبل أن يؤثر في التفكير العربي، وهو يرى أن اللغة العربية تحولت في تلك الفترة إلى لغة عالمية مثلها مثل اللغة الإنكليزية اليوم، وبالإضافة إلى ذلك يرى أن كل يهود الأندلس كانوا يكتبون باللغة العربية. ويصنف هذا المؤرخ الباحث بأن من ينكرون الأندلس كحضارة من حضارات إسبانيا الحقيقية، هم من الحاملين في دواخلهم إشكالية حول مفهوم الهوية الوطنية الإسبانية وهي حالة تسمى بـ»حالة العقدة الإسبانية».

الإسبان كانوا عرباً بشكل حقيقي

وتكلم الدكتور إميليو مطولا مدافعا عن كتابه، فقال: لم تكن هناك في إسبانيا ثلاث ثقافات متعايشة كما يشاع أو يقال، بل كانت عبارة عن ثقافة واحدة وثلاث ديانات. إن الحضارة الأندلسية حضارة عظيمة صنعها أجدادي المولودون في الأندلس، وهم أجدادي الإسبان الذين اعتنقوا الإسلام في العصر الأندلسي الذهبي. وعلموا الكثيرين وتفوقوا في العلم وركوب البحر والزراعة والمعرفة. وعلموا الكثيرين في الشرق الإسلامي. وأكد أنه في كتابه هذا يفسر أن الإسبان أنفسهم كانوا عربا بشكل حقيقي في فترة تزيد عن خمسمئة عام، وقد كانوا عربا بطريقة تفكيرهم، وطريقة كتابتهم، ومعارفهم، وحتى نظرتهم الأخلاقية للحياة والمجتمع. ويعتبر أن أسوأ ما حصل في إسبانيا هو محاولة اقتلاع هذه الحقيقة ومحاولة طمسها من كتب التاريخ ومن وجدان الناس، وعدم الإقرار والاعتراف بأنها من أفضل المراحل التي مرت على إسبانيا على الإطلاق، وأنه بالحضارة العلمية والجغرافية والفلكية والفلسفية التي جاء بها العرب والتي امتلكها الإسبان حين كانوا عرباً، استطاعوا أن يبنوا إمبراطوريتهم العظمى وقتها أي الإمبراطورية الإسبانية التي لا تغيب عنها الشمس، مشيرًا إلى أن كريستوفر كولومبوس هو ابن المعرفة الجغرافية العربية الإسبانية، فلقد دخل الكثير من أهل أيبيريا (إسبانيا والبرتغال) في الإسلام، وسموا بالمولدين. ومن أشهر العشائر الإسبانية التي دخلت في الإسلام بنو شبراق، وبنو أنجلن، وكانت اللغة الإسبانية تكتب بحروف عربية، وتسمى الخاميدو aljamido وكانت منتشرة بين المسلمين والمسيحيين واليهود السفاراديم في الأندلس، «لغة الشارع»، بينما اللغة العربية الفصحى كانت لغة الأدب والدين والعلم. وقد هاجر الكثير من مسلمي إسبانيا إلى شمال أفريقيا ومصر وسورية ولبنان والأناضول وفرنسا وإنكلترا أثناء محاكم التفتيش.
وعاد وأكد بكل ثقة أن حروب الاسترداد ما هي إلا حرب أهلية بين إسبان من ديانتين مختلفتين وأن مسلمي إسبانيا والبرتغال لم يكونوا غزاة، وإنما كانوا من أهل البلاد الأصليين، وأحفاد أهل إسبانيا والبرتغال الذين دخلوا في الإسلام. حتى شخصية السيد أي LE CID بالإسبانية والذي صورته الأفلام الإسبانية بأنه بطل مسيحي، كان من أصل مسلم واسمه بالعربية السيد..
وقال فيرين إن LE CID كان ملك فالنسيا حين كانت مملكة مسلمة، وقد أمضى حياته جندياً مأجوراً، وحروب الاسترداد المسيحية لم تكن لتنصير المسلمين في بداياتها، بل كانت لأطماع شخصية لأناس يريدون كسب الأراضي والثروة.
وأكد أنه تطرق لكل الأسماء الأندلسية المؤثرة فعلا في النهضة الأوروبية بدءًا من ابن طفيل الفيلسوف والكاتب، معتبرا أن قصته «حي بن يقظان» التي أخذت منها قصة «روبنسن كروزو»، وقصة «ماوكلي»، هي على حسب تعبيره «أعظم وأجمل قصة فلسفية صوفية رمزية في كل العصور الوسطى»، حيث قال إنها أثارت شغف «الأدباء والفلاسفة والمتصوفة والمفكرين لعصور عديدة»، فترجمت إلى لغات أجنبية لم تعهدها العربية من قبل؛ حتى وصلت إلى أكثر من أربعين لغة حية حتى يومنا هذا، لا ينافسها أي عمل عربي آخر في ذلك إلا حكايات «ألف ليلة وليلة»، واستطاع فيها ابن طفيل أن يأخذ «الأخ المفترض إسعافه»- وهو كل قارئ لنصه باحثا عن أجوبة لأسئلة الحضارة والوجود- إلى خوض تجربته المعرفية والروحية الذاتية، ليصل القارئ بنفسه إلى ما وصل إليه حيّ، فحيّ هو كل باحث مخلص، والحياة عند ابن طفيل هي التفكر والتأمل، هي يقظة الضمير أو الفطرة، كما أن هذه التجربة تقود للموقف الوسط من كل الأسئلة المحيرة، والتي تثير نقاشات وتقاطعات حادة، وتبرز مدارس متقابلة، وهي أهم وأقدم محاولة إبداعية لإنشاء مذهب فلسفي كلامي خاص به.
كما تكلم كثيرا عن الشخصية المعرفية الأهم، وهي شخصية الطبيب والفيلسوف الذي كان يتقن أربع لغات ابن سينا، الذي يدرس في كل جامعات أوروبا، والذي استطاع شفاء ثلاثة آلاف مرض لم يكن العالم يعرف طرقا للشفاء منها. وتحدث بإسهاب عن فلسفة ابن رشد، وعن تميزها، ودقتها، وعمق طريقة بحثها، وعن جرأة وبعد نظر فلسفة ابن خلدون والتي يعتبر أنها من أهم مقومات النقلة الفكرية السياسية الأوروبية.
وأنهى الكاتب حديثه باقتباس عن الباحث جوليو سامسو Julio Samsó الذي قال «لولا ما فعله العرب، أو الإسبان عندما كانوا عربا، في مختلف العلوم، لما كان هناك احتمال بحدوث النهضة الفكرية والعلمية التي نراها اليوم».


بتاريخ : 06/07/2020