ليس هذا الكتاب (الصحوة: النفوذ اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية) مجرد سيرة ذاتية ساحرة لشخص مثير للجدل جداً، بل هو كتاب يتجرأ على مواجهة أكثر القضايا تحدياً في العصر الحديث بأمانة فائقة.
ليس كتاب ديفيد ديوك (الصحوة) لضعاف القلوب، أو لأولئك المعتدّين بنظم معتقداتهم، بل لأولئك الذين لا يخشون من أن تحفزهم الحقائق والأفكار التي ربما تضع المعتقدات الراسخة موضع تساؤل. إنه كتاب ثوري تطوري ربما (يهز الحضارة من الأعماق) كما يقول غليد ويتني (Glade Whitney) العالم البارز في علم الوراثة السلوكي. يكرس ديفيد ديوك معظم كتابه لوجهة نظره في الأعراق وتضميناتها المجتمعية والتطورية، ولكنه حكاية مثيرة لرجل عرف بوصفه صورة كاريكاتورية رسمتها له وسائل الإعلام المعادية.

وأن إشراك المرأة في الميراث كان استجابة لرغبة بعض النساء منهن أم سلمة زوجة النبي (ص 166)!. وأن قول الله عز وجل في شأن الصلاة إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة إلي المسجد الحرام « وما كان الله ليضيع إيمانكم « يعنى صلاتكم، جاء ترضية على زعمه لبعض الصحابة الذين قال لهم اليهود : إن صلاتكم إلى بيت المقدس ضاعت عليكم ! ص 175).
وفى نهاية التقرير يشير إلى عبارة جاء بها المؤلف وهى قوله «إن النصوص المقدسة انبثقت من أحشاء مجتمع بالغ الركود» … حيث لا يخرج من الأحشاء إلا الفضلات القذرة .. فإلى هذا الحد يتجرأ المؤلف على كتاب الله ويهزأ برسوله ويسخر من أصحابه مشاعل الهدى والنور!
وآخر كلمات التقرير تقول: إن لسان حال المؤلف يقول: «وكنت امرءا من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جنده. «
وخلافاـ، لما يراه الأزهر، انبرى مجموعة من المثقفين للدفاع عن الشيخ خليل عبد الكريم، حيث كتب طلعت رضوان: «وقف الراحل الجليل خليل عبد الكريم موقفًا شامخًا في مواجهة الأصوليين الإسلاميين الذين يستهدفون اعتقال عقل ووجدان شعبنا المصري، وذلك بتقييدنا بسلاسل عصورالظلم والظلمات. وهي (أي الجماعات الإسلامية) في سبيل تحقيق هذا الهدف ، ارتكبتْ أبشع الجرائم: فهي لم تكتف بتكفير المسيحيين المصريين وإهدار دمائهم وسلب ممتلكاتهم، وإنما شملتْ جرائمهم تكفير المصريين المسلمين أيضًا: (اغتيال فضيلة د. محمد حسين الذهبى وزيرالأوقاف الأسبق، اغتيال د. رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب الأسبق، اغتيال السادات ، ود. فرج فودة ومحاولة اغتيال الأديب نجيب محفوظ .. إلخ).
في مواجهة هذا المد الأصولى، كان أ. خليل عبدالكريم شديد الوضوح وهو يتناول كتابات ومواقف الأصوليين ، ولم يرتكب يومًا إثم مهادنتهم أو مغازلتهم كما يفعل كثيرون ، لذلك كان أ. خليل هدفًا دائمًا لهجوم الأصوليين عليه . أحيانًا بمصادرة كتبه وأحيانًا بتكفيره توطئة لإهدار دمه.
ورغم كل المعاناة النفسية التي عاناها وهو يتلقى الهجوم عليه (كثيرًا ما كان يبوح لي برغبته في التوقف عن القراءة والكتابة والتفرغ لمكتبه في المحاماة أو مشاهدة التليفزيون) ولكنها كانت (فضفضة) النفس الجريحة، ثم يعود إلى أصالته تجاه وطنه (مصر) لذلك ظلّ ثابتًا على آرائه ومبادئه. وكأنما الهجوم على شخصه وعلى كتاباته يمده بمزيد من الجَلَدْ والصبر والشجاعة. فإذا به يزداد صلابة وتماسكًا، فيواصل مسيرة البحث والعطاء من أجل مصرالتى يحلم بها: مصر الدولة الليبرالية وليست الدولة الدينية التي يحلم بها الأصوليون.
ورغم أنّ تخصصه في التاريخ العربي/ الإسلامي إلاّ أنّ هذا الخط (ترسيخ قواعد الليبرالية) يبدو جليًا فى كل كتاباته ، سواء المقالات أو الدراسات المنشورة في الصحف والمجلات ، أو في كل كتبه التى أثارت الأصوليين ضده وعجزوا عن الرد عليه بذات الأسلوب العلمي الذى كان أ. خليل يُلزم نفسه به ويحترمه أشد الاحترام . وهو أمر يلمسه القارىء الموضوعي بكل سهولة بالاطلاع على قائمة المراجع التراثية والكتب الحديثة في نهاية كل بحث، وهو الأمرالذى أدى إلى التفات الحركة الثقافية في مصر وخارجها إليه وانتشاركتبه وإعادة طبع بعضها عدة مرات. السمة الثانية فى كل كتاباته هي أنه لم يُخالف ضميره العلمي ، فكان يؤكد على أنّ ما حدث في 641م هو(غزوعربى) استهدف استنزاف أموال الفلاحين المصريين ، وأنّ الغزاة العرب لم يختلفوا عن سابقيهم من الغزاة .
وأعتقد أنّ أول كتاب للراحل الجليل شدّ انتباه المثقفين وأثارالإصوليين هو (الجذورالتاريخية للشريعة الإسلامية) الصادر طبعته الأولى عام 1990 لأنه أثبت فيه أنّ ما جاء به الإسلام كان موجودًا (فى معظمه) في الفترة السابقة التي أخذت وصفًا غير علمي (العصرالجاهلي) واستمرت ردود الأفعال ولم تتغيرعقب صدور كل كتاب (اهتمام وجدل بين المثقفين وعداء من الأصوليين) وإنْ كان عداء الأصوليين بلغ درجة التحريض على اغتياله كما حدث مع آخر كتاب مطبوع له قبل رحيله (النص المؤسس ومجتمعه) وقبل أنْ يكون في حوزة القراء .
في دراسة بعنوان (خيار القوة المسلحة لدى الجماعات الإسلامية الأصولية المتطرفة: تاريخيته وسنده) (1) كتب أ. خليل «فى مصر والجزائر وتونس والأردن واليمن والسعودية (الجهيمان) تسعى الحركات الأصولية الإسلامية المتطرفة إلى إقامة دولتها بقوة السلاح» وإذا كانت الثقافة السائدة البائسة ترى ضرورة الحوار مع الجماعات الإسلامية ، فإنّ أ. خليل يرى أنّ دعوة الحوار لابد أنْ تنتهي إلى طريق مسدود، ذلك أنه إذا كان الأصوليون يرونَ أنّ الدولة الإسلامية «يجب أنْ تتأسس على دوى المدافع وجماجم الشهداء». وإذا كان دعاة الحوار يرونَ أنّ الدعوة إلى سبيل الله تكون بالحسنى والكلمة الطيبة، فإنّ المشكلة تكمن في أنّ الفريقيْن يستندان إلى مرجعية واحدة: أي إلى «نصوص مقدسة، قاطعة صريحة، لا لبس فيها، تكاد تكون مُحكمة، إنْ لم تكن كذلك بالفعل، بالاضافة إلى وقائع تاريخية موثقة من سيرة محمد (ص) وأصحابه (ر) دوّنتها صحاح السنة وكتب السيرة التي تلقتها الأمة بالقبول والتجلة التي تقرب من حد التقديس ، ولاسبيل إلى الطعن في حجج كل فريق إلاّ بإنكار النصوص المقدسة والوقائع الثابتـة، وهذا مستحيل . . إلخ «.
فإذا كان المنادون بضرورة الحوار يُخاطبون الأصوليين بالآية الكريمة «لكم دينكم ولي دين)) وهي الآية رقم 16من سورة (الكافرون) وهي مكية. أوبالآية الكريمة «أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن» وهي الآية رقم 125 من سورة النحل وهي مكية . أوبالآية الكريمة «ولاتجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن» وهي الآية رقم 46من سورة العنكبوت وهي مكية أيضًا ، فإنّ الأصوليين يردون بالآية الكريمة «إنّ الدين عند الله الإسلام» وهي الآية رقم 19من سورة آل عمران وهي مدنية . وكذلك يتمسكون بالآية الكريمة «ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين)) وهي الآية رقم 85 من سورة آل عمران ، والآية الكريمة «واقتلوهم حيث ثقفتموهم)) (أي وجدتموهم) وهي الآية رقم 191من سورة البقرة وهي مدنية . والآية الكريمة «فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد)) وهي الآية رقم 5 من سورة التوبة وهي مدنية أيضًا وهي الآية المعروفة ب (آية السيف) وعن هذه الآية كتب أ. خليل «يرى كثير من ثقاة مُفسري القرآن الكريم أنها جبّتْ آيات المسالمة والصفح والعفو، وأنّ القتل يتعيّن أنْ يلحق حتى بمن وقع أسيرًا في أيدي المسلمين . والشق الأخير طبّقه محمد بن عبدالوهاب إمام الحركة الوهابية في الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر الميلادي ، فكان يأمربقتل الأسرى حتى ولو كانوا مسلمين ماداوا لم يُتابعوه على رأيه. وعمومًا فإنّ هذا التفسير لآية السيف بأكمله هو الذي تتبناه الجماعات الأصولية الإسلامية المتطرفة في مصر والجزائر على وجه الخصوص».

