كتب لها وقع 4/4 : «آيات شيطانية» لسلمان رشدي

عن «دار الفارابي»، صدرت النسخة العربية (ترجمة نهلة بيضون) من كتاب «غرق الحضارات» للكاتب والروائي اللبناني أمين معلوف بعدما نشرت النسخة الفرنسية مطلع ربيع 2019 عن «دار غراسي» (باريس). يحاول أمين معلوف في مؤلّفه «غرق الحضارات» أن يفكّك الأوضاع الراهنة في العالم الغربي تحديداً، كما يعرّج على دراسة الأوضاع في الوطن العربي، كعرّاف أو ناظر إلى بلّورة سحرية ليستقرئ التاريخ العربي بوصفه درباً من الظلامية. يشير معلوف إلى الظلمات التي اكتسحت العالم العربي بدءاً من بلاده لبنان ومصر والعراق وسوريا، لاجئاً إلى الطريق السهل في التفسير ألا وهو أن العالم العربي اختار «الطريق الخطأ»، بسبب إخلالات حركة النهضة العربية التي بدأت منتصف القرن التاسع عشر. وهو يعتبر أنّ المجتمعات العربية لم تتمكن من الاستجابة الفعلية لدعوات الإصلاح والتحديث، بل ظلّت مشدودة إلى الماضي، رافضة اللحاق بركب الحضارة الغربية!

 

 

وإذا كان الوحي ومن سوره الأولى أكد على غياب هذا الالتباس بالنسبة للنبي محمد، حيث إنه أكد على قوة جبريل وعلى تقليص حدود الجان وعلى نفي التسمع، إلا أن نص السيرة ربما تنبه لكون هذه الطمأنة الإلهية لا تنفي القلق الذي ينتاب النبي تجاه ما يسمع ويعاين، على الأقل في بدايات تلقي الوحي.
ونحن نستطيع أن نجد هذا القلق والحيرة في ماهية من يلقي وحيه الملاك أم الشيطان في الرواية الشهيرة والواردة في سيرة ابن هشام والمعروفة بـبرهان خديجة، والتي قامت فيها خديجة بحسر رأسها وإلقاء خمارها كي تختبر ماهية المتجلي للنبي هل هو ملاك أم شيطان، ولا يعنينا هل القصة سليمة أم لا، بحذافيرها أم لا، فحتى لو كانت القصة بأكملها تخييلًا، فهي ليست تخييلًا مجانيًا في حقيقة الأمر بل تخييلا يمسرح هذا الشعور الذي يعانيه النبي وهذا الالتباس الذي يطال كل تجربة في مواجهة الآخر تمامًا، أي أنه تخييل يكشف تعقد الكائن عن أن الأشياء أكثر تعقيدًا مما نظن لو استخدمنا تعبيرات كونديرا.
حضور هذه القصة في بعض كتب الحديث وبتحسين بعض المحدثين لها والأهم ورودها في سيرة ابن هشام الأوسع انتشارًا وتأثيرًا، ينفي تمامًا أو على الأقل يحدد فعالية فكرة التشكيل الإيماني التبريري للسيرة ويجعل مقاومة رشدي الأدبية لكشف أدبية السيرة هي مقاومة بلا معنى وصراع في فراغ، هذا لأن هذه القصة تحمل نفس ما تحمله قصة الآيات الشيطانية من معنى عن التباس الوحي وتعقد النبوة وكونها أعقد مما قد يظنها المؤمن كزيارات ممهدة بلا التباس ومع هذا فقد استمرت في الحضور في المدونات السنية الرسمية! بل وتحديدًا في هذا النص – نص ابن هشام – الذي يحدد صاحبه نفي المشين كإحدى استراتيجيات بنائه.
لكن الفارق الوحيد بين هذه القصة وقصة الآيات خصوصا حين تحضر الأخيرة بمفردها كما عند رشدي، هو أن قصة الآيات تشمل بعدًا آخر (سياسي – عقدي)، حيث تروي حدث مساومة محمدية مع القريشيين، لذا فإن اختيار رشدي لهذه الرواية تحديدًا كي تكون عنوانًا لروايته ومركزًا لملحمته المحمدية الجديدة لا يحمل إلا دلالة واحدة – بالإضافة طبعًا لوهم أن نص السيرة الرسمي هو نص لا يحمل تعقيدًا وتركيبًا وهو تصور شديد السطحية بالطبع – هي المبالغة في تسطيح الشخصية المحمدية بجمع كل ما يمكنه إظهاره بنفس الصورة الاستشراقية الأثيرة زير نساء وسياسي انتهازي يستطيع التضحية بمبادئ دينه المركزية إن كان ثمة مبادئ حتى اسمه ليس محمدًا بل ماهوند كما هي التسمية الوسوطية المشينة للنبي كمدع، هذا التسطيح يجعل شخصية النبي محمد تظهر في رواية رشدي بصورة غير متناسقة وبعيدة تمامًا عن أي تركيب، حتى إننا لا نستطيع هنا الحديث عن شخصية روائية بل عن أن نقارن هذه الشخصية بماكبث شكسبير وكرمازوف ديستوفسكي وزوربا كازنتزاكيس وعبد الجواد محفوظ، كما يفعل العظم، بل فحسب عن بؤرة تجميع سطحي لكل الصفات السيئة، هذيانات وسياسة أريبة تحسب المكاسب بالمسطرة وادعاء نبوة لتحقيق رغبات طارئة شخص يهذي وفي ذات الوقت هو عاقل يدعي النبوة من أجل مصالح قومية وشخصية في آن!
هذه التجميعة الرشدية غير الأصيلة تفشل فشلاً عظيمًا في إظهار تعقد الوجود وتسطح باسم المرح التنويري شخصية لم يخف الإيمان نفسه تركيبيتها، مما يجعلنا نتساءل أي بعد تنويري لهذه الرواية، بل أي تنوير هذا الذي سيقوم لا على إضاءة الوجود وكشف تعقيد الكائن بل على التسطيح المطلق لكل شيء!
كرنفال التنوير
يشير العظم إشارة لافتة لبعد من أبعاد رواية رشدي هو كرنفاليتها، والكرنفالية تعني عند العظم تلك اللحظة من الزمان والمكان التي يجوز فيها الكلام بحرية مطلقة عن كل شيء مهما كان، فرواية رشدي كرنفال ساخر ومعارض وكرنفاليتها تتبدي في عناصر التمثيل والتهريج والأقنعة والتخفي والأحلام والبذاءة والضحك والمرح والعربدة[23]، نحن نريد تطوير هذا الوصف الذي يقدمه العظم لرواية رشدي عبر استحضار دلالة الكرنفال في علوم الأديان، وهذا اتساقًا مع كون إحدى الكلمات المفتاحية لرواية رشدي هي تناسخ الأرواح والولادات الجديدة، فالكرنفال/ العيد كما يصفه كايو هو طقس انتهاك غرضه تأوين الفترة السديمية الخلاقة من أجل التحضير لولادة جديدة[24]، ونحن نستطيع اعتبار رواية رشدي -ومن منظور العظم لها كرواية تنويرية – هي طقس انتهاك غرضه التحضير لولادة الجديدة if the old refused to die, the new could not be born [25]، لكننا لو دققنا ووفقا لما عرضناه منذ سطور قليلة عن غياب كشف التعقيد عن هذه الرواية ، فإننا لا نستطيع اعتبارها كرنفالاً تنويرياً بأي حال، هذا لأن الانتهاك الذي يفضي لعالم جديد يكون عبر استعادة عالم البدايات بغموضه وتعقيده وسديمه، وهو ما لا يفعله رشدي حين تقتصر هذيانات جبريل عنده على التجميع السطحي لشخصيته وشخصية محمد دون قدرة على الغوص أعمق والتقاط التعقيد ومعايشته، لذا فرواية رشدي أبعد عن الكرنفال/العيد وأقرب لرقصة شائهة على السطح!
وآيات رشدي الشيطانية أو كرنفاله الذي ليس سوى رقص فوق السطح يلخص كثيرًا من مسارات التنوير العربي والإسلامي في صلته بالدين، حيث إنه ينطوي على سطحية لا يحسد عليها تجعله يرقص على سطح الظواهر دون قدرة على الغوص فيها، وربما دون رغبة حتى، لكن سماجة هذا التنوير لا تقف عند حد الرقص فوق ظواهر تحتاج لفهم، بل إنها تتجاوز كل مدى حين تريد منا أن نحيي تلك الرقصة الكسولة على أنها طريقا للتنوير!


الكاتب : مصطفى شلش

  

بتاريخ : 13/08/2020