«كراش»: لمسة التحليل النفسي المسرحي في عيادة فاطمة الزهراء الهويتر

قدمت «جمعية اللمة»، بدعم من وزارة الشباب والتواصل والثقافة ، قطاع الثقافة مسرحية» crash» مساء الاثنين 20نونبر 2023 بقاعة باحنيني أمام جمهور غفير من طلاب وأساتذة المسرح والسينما.
مسرحية crash من تأليف وإخراج فاطمة الزهراء لهويطر وتشخيص حسناء طمطاوي ونسرين الراضي، وسينوغرافيا عبد الحي السغروشني وثلة من التقنيين والإداريين.
« CRASH «عنوان يختزل بشكل دقيق وعميق كل الرسائل المتضمنة في هذا العمل من تحطيم للأفكار السلبية وإسقاط لنواقص الماضي وسقوط عار أمام الذات وتداع حر للبوح والكشف الممكن إدراجه في باب العلاج النفسي بالمسرح، «كراش» هو تخلص أو طرد لمخاط تحول إلى بلغم مضر ومؤلم يسكن الصدر ويخنق الأنفاس، ولا يمكن الإحساس بالسكينة إلا بطرده خارج الذات.
كراش،نص مسرحي بسيط في مضمونه الفكري، مركب في أبعاده ومراميه النفسية ، نص لامس قضية التربية الأسرية الخاطئة عن غير قصد، أو تكريسا لتربية سائدة موروثة من الآباء نتيجة خوف من المجهول أو جهل بمدلول قيم أخلاقية اكتسبت أحقيتها بالقدم والانتقال بين الأجيال.
عرض مسرحي حاول الإحاطة بما تعانيه فتاة في مقتبل العمر توفرت لها سبل الحياة الكريمة من بيت وزوج وعمل، ولكنها غير مرتاحة في حياتها ولا راضية عن وضعيتها، تشعر بالقلق والخوف وعدم الثقة في نفسها وفي غيرها ،حتى من أقرب الناس إليها، قلق وتوتر فظيع سيفضي بها الى تعاطي الحبوب المهدئة من أجل البحث عن لحظات الراحة والنوم، والتخلص من بلغم يسكن العقل ويهدد الوصل الطبيعي مع كل الناس… فكان الخلاص ب «crash «.
بعد حوار طويل بين البنت وأمها، تم إخراج كل الأفكار التي تسبب الألم وكشف المستور، وتحطيم المسكوت عنه… بوح واعتراف من البنت لأمها بسوء تربيتها ، حياة بدون حب أو حنان أو حضن أو عناق من الأم لابنتها … وهكذا عبر التنامي الدرامي للنص تتناسل الأفكار من الماضي، من مرحلة الطفولة لتضعهما معا أمام الحقيقة العارية المؤلمة، وبقدر ما أمسكت الفتاة بمعول الهدم لتحطم بالبوح والكشف عما يؤلمها من قساوة الأم بالتعنيف اللغوي والجسدي ،بقدر ما كانت الأم تريد الهروب من الحوار والخروج من البيت لكي تتخلص من مسؤولية تربية خاطئة، ولتنتهي مقاومة الأم بcrash آخر يخلصها من العيش بشخصية مرضية كانت فيها بدورها ضحية تربية أمها لها ،كلاهما ..الأم والبنت افتقرتا الى صدر الأم العامر بالحب والدفء والعطاء الفياض بالكلمة الطيبة الداعمة والمقوية ،بالكلمة الخلاص والشفاء ليحدث العناق والبوح بالحب والوعد بغد مشرق جميل …
تميزت الرؤية الإخراجية للفنانة الواعدة بالانحياز للتصور الوجودي من حيث التركيز على اغتراب الذات الإنسانية وضياعها وسط مجتمع محكوم بالكثير من الأعراف التي تتحول الى جحيم وإقصاء، وقتل للأنا التي تضيع حريتها ووجودها ،سواء في عملها السابق «عيد ميلاد سعيد» من حيث طلب الموت الرحيم ، أو في عملها الجديد «كراش» الذي تسعى فيه البنت وأمها الى الخلاص من أفكار وتربية خاطئة آتية من الماضي، مخرجة لا تسعى إلى الإبهار بقدر ما تطلب إظهار المعنى الحقيقي للحياة من باب المعالجة المسرحية لشخوص حقيقية. ولعل ذلك ما تجلى في اختيارها الموفق لبطلتي المسرحية حسناء طمطاوي في دور أم متفتحة في مظهرها ولكنها منغلقة في أفكارها لكونها ضحية تربية أمها الخاطئة، حيث أدت هذا الدور بدقة متناهية في مشيتها وحركتها المتوترة ولغتها الجافة بدون ابتسامة أو حتى دمعة .
نسرين الراضي في دور شابة تعيش معاناة نفسية وفي لحظة وجيزة من زمن العرض المسرحي وبعد صمت بليغ، أقنعتنا بحياة امرأة ضائعة رغم أنها تمتلك الكثير من الأشياء ، رجل وعمل ومنزل، ولكنها تعيش الخوف وعدم الثقة في ما تقدم عليه من أفعال، حركات عنيفة فوق الركح أمام مكتبها مع حزمة الأوراق، وفي حوارات الهاتف مع رجل يعيش معها تريد طرده من البيت، وأمام دولاب الأدوية، وبالتأكيد في حواراتها مع أمها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأداء التشخيصي لنسرين الراضي في بعض اللحظات كان يفتقر إلى الإقناع، خصوصا في الحوارات الأولى مع الأم، حيث لم تكن الشحنة النفسية المليئة بالأسى ظاهرة في كلماتها وحركاتها وكأنها ما زالت تبحث عن الشخصية المطلوبة ،ومع ذلك لا تنقص هذه الملاحظة، التي قد أكون مخطئا في رصدها، من قيمة الدور في مجمله وعطاءاته الفنية .
على المستوى السينوغرافي، قدم لنا المبدع عبد الحي السغروشني فضاء تخييليا من شقة متكاملة العناصر، ديكورا وأكسسوارات بلمسة فنية وظيفية إلى حد كبير، تأثيث دقيق مكون من ثلاثة غرف ، قاعة استراحة بكرسي وثير كبير في الأمام، وخلفها مكتب يظهر من خلال نافذة مضاءة ، به حاسوب وهاتف وأوراق ،والكل بلون مائل إلى الرمادي ،وفي النصف الثاني من الركح بيت نظافة به أنبوب ماء في صهريج ، ومرآة وصندوق أدوية ، مكونات لامعة البياض ،كل شيء بين البياض والسواد، الرمادي وحده يعكس حقيقة النفوس الحائرة بين مآسي الماضي، وأمل الحاضر في الخلاص وتحطيم الأوهام .
ولرصد المزيد من الدلالات السيميولوجية في مسرحية «كراش» ،اعتمدت المخرجة في المكون السينوغرافي على التقسيم الثلاثي في الأماكن واللباس و الألوان: الرمادي الحائر عند البنت، والوردي الحالم عند الأم، والبياض الناصع في الأثاث، كما أمعنت الرؤية الإخراجية في إيصال صوت الماء المتدفق من الأنبوب عل دفعتين من البنت والأم لمنح الشخصيتين ومعهما جمهور التلقي، لحظة أمل في حياة جديدة انطلاقا من قولة طاليس «إن الماء أصل الوجود»، كما أمعنت المخرجة في إيصال أصوات معينة من ميكروفون ذات دلالات قوية كباب صندوق الأدوية وباب الشقة ومفتاحها في الإغلاق والفتح ، ورنين الهاتف وبوح الأم من بيت النظافة كرمز للخلاص من الفضلات الزائدة، والإحساس بالراحة وفي لحظات التخلص من الماضي في عناق حميمي صادق بين الأم وابنتها وفي فتح الباب وإغلاقه، وإفراغ ما تبقى من كاس الماء في شجرة شاحبة ميتة علها تحيا من جديد، وكلها علامات سميولوجية لها دلالات الأنا بين الحياة والموت ، بين الوجود والعدم، بين الماضي والحاضر، إيحاءات على الحمولة النفسية.وكان الأجدى في اعتقادي ترك باب الشقة مفتوحا للخروج من المغلق، وتكسير العلبة والحديث عن وجبة البرقوق لحلاوته ورمزيته في الأفراح المغربية ليكون الكلام المستقبلي بينهما معسولا، بدل الزيتون والحامض كوجبة مفضلة لدى البنت.
بجانب هذه الدلالات، حضرت الإضاءة البيضاء الكاشفة دون حمرة أو زرقة أو خضرة بلا معنى وظيفي، ومؤثرات صوتية، ومقاطع غنائية موحية باللحظة والحالة الانفعالية المطلوبة في تقديم الشخصية.
عرض «كلاش» أمتع الجمهور ببساطته في بعده التربوي وبلاغته في خطابه المسرحي، وفي جماليته على مستوى التأثيث السينوغرافي الذي قدم لجمهوره شقة مكونة من ثلاثة غرف ظاهرة ورابعة مضمرة ، وتشخيص محكم دقيق في فرادته وثنائيته دون تصنع أو تلفيق ، فكانت متعة الفرجة وبداهة الفكرة . إنها لمسة التحليل النفسي المسرحي في عيادة فاطمة الزهراء الهويتر.

مؤلف ومخرج مسرحي


الكاتب : قاسم العجلاوي

  

بتاريخ : 24/11/2023