من المعلوم أن العالم اليوم، يعيش عاجزا وهو يرزح تحت وطأة كارثة وبائية، سميت: ‹كوفيد19 – أو كورونا’، وقد فرضَت كوافدٍة مهدِّدة، مقيمة، ما فرضت من شروط وقواعد ومستلزمات، ليقيم الوباء سالبا للأرواح والأنفس والحياة عموما، فطفق العجز لدى الإنسان وغلبتْه الحيلة وأعوزه التدبير، وطفح به الكيل وهو يلهث وراء الفَرَج، لعله يعود إلى صفاء عيشته وهدوئها، رغم ما يكدرها أحيانا من مشاكل، ويصيبها ويلحقها من إكراهات.
بحث الباحث أحمد شراك عن/ في مختلف السبل التي من شأنها خلق مناخ من التصدي والمقاومة في خضم معركة، ما شهد العالم من قبل بمثلها أو معادلها في البطش والقسوة والتسلط، إذ تسلح بما توفره عوالم الدين والفقه والفلسفة والعلم والتاريخ والموروث والمثاقفة والتجربة، و..و..و، بحثا منه عن طوق للنجاة.
تناسلت المحاولات الرامية إلى فهم طبيعة هذه الحرب المفروضة، وقد لاحظ عالم الاجتماع المغربي الدكتور أحمد شراك «أن هناك ازدهارا لعلماء الاجتماع في تدخلاتهم حول عصر كورونا، وهذا التدخل يكون بمنظور سوسيولوجي ومنطور نظري، بل، هناك البعض الذين وزعوا استمارات من أجل ملئها في أفق بحث ميداني رقمي»(1)
ننطلق في هذه المقالة البسيطة للاقتراب – ما استطعنا- من فكر أحمد شراك، والتعريف برحلته السوسيولوجية في ربوع البلاد وإلى العباد، غربا وشرقا، لعلنا نقبض على الخيط الرفيع الذي بمقدوره أن يضيء طريقنا نحو كشف ملامح الدرس السوسيولوجي لدى الباحث من موقعه المتابع الشغوف الذي ما انفك يتتبع الحركة الثقافية في بعض من وجوهها بالمغرب.
لقد أتاح لنا الظرف الراهن النظر في مساهمات فئة كبيرة من المُؤثرين في الحقل الثقافي، بل والمشاركين في قيامه، كما بنائه، حتى أثارتنا على الخصوص إضافة هذا المفكر، لننساق باتجاه ما ميّز طبيعتها، وطبع تجلياتها وتوجهاتها كذلك من خلال ما تحقق على مستوى البحث والتأليف والدراسة والقراءة /المقاربة، كذلك.
انبرى السوسيولوجي للتفكير والتدبير، رفقة كتاب ومفكرين وعلماء، وأدباء ومؤلفين وناشرين، على اختلاف مجالات الاهتمام وميادين التخصص،وتفاعلا مع الواقع المفروض والطارئ، ألفيناهم يبادرون، وفي تجرد محمود تام من/ عن أية منفعة أو غنم، وفي زهد خالص عن أي ربح أو جزاء، إلى إلقاء دروس ومحاضرات، وعقد ندوات ودردشات، وكذا المشاركة في برامج ولقاءات، يتناولون بالتحليل مخاطر كارثة « أتَتْ لِتُدْخِل الإنسانية جمعاء في أخرى أكثر قساوة وشرّاً على تأملات الإنسان الذي يحب الحياة والجمال والاستقرار، وينفر من الموت القاسي المُعَذّب…» (2).
انسجاما مع طبيعة تفكيره، في الحادث والطارئ من المستجدات والقضايا التي تلحق الفرد عموما، وتؤثر في شكل تعاطيه ونمط سلوكه، وصيغة موقفه، أخرج إلى الوجود، وبعد انتظار وترقب من لدن قراء الكاتب ومتتبعيه، ومحبي نصه (الشراكي) ومتأمليه ودارسيه، من النقاد والدارسين والباحثين والطلبة والقراء وغيرهم، ليلبي غرورهم العلمي ويشفي غليلهم المعرفي، منجزا علميا جديدا فريدا مضمونا ومادة، متفرّدا بناءً ورؤية.
فكانت المناسبة -والمناسبة شرط كما يقال-، أن حضر المفكر ضيفا على برنامج: «مباشرة معكم»، في حلقة يوم الأربعاء، 29 أبريل 2020، والتي كان عنوانها: «أي منظومة قيم بعد أزمة كورونا»، من إنتاج القناة الثانية (M2)، ليبشر بكتابه القادم، والموسوم ب: «كورونا والخطاب، مقدمات ويوميات»، وهو المنجز الذي بادر الدكتور جمال بوطيب بنشره مجانا بالمجلة، التي يرأس إدارتها: «مقاربات للنشر والصناعات الثقافية»، كمبادرة تنضاف إلى سلسلة المبادرات التي دأبت على تقديمها المجلة الرائدة في حقل النشر والصناعات الثقافية، تشجيعا منها على الفعل القرائي الهادف مما يحتاجه وتكون في أمس الحاجة إليه شرائح واسعة من المجتمع المغربي والعربي على السواء.
من الواجب إذن القول إن الدكتور أحمد شراك لا يكتفي بتقصي معطيات تملك الفهم وبلوغ مقامات الإدراك لما جاء به المضمون الفكري وأومأت إليه تجلياته، سواء ما تعلّق بكشف المعاني والأفكار، أو ما ارتبط ببناء تلك المعاني والإيحاءات، المبثوثة في ثنايا منجزه هذا: «كورونا والخطاب، مقدمات ويوميات»، والمبني على أساس قاعدة تأمل فكري عميق، يستدعي فصولا أو عناوين ومباحث مكثفة تكثيفا شديدا، ويجعل منها إشارات دالة على وضع مسيطر مأزوم، ويبلورها إحالات خاطفة إلى صميم مجتمع، في عمق بنياته وغموض سياقاته، لاقطة عدسته ما يمور في الثنايا والدواخل، ناقلة وبدقة متناهية ما يصيب العلاقات والروابط من اضطراب وخلل.
لذا انتظمت متواليات الكتاب ووحداته في نسقية تامة، تفي بالغرض وتحقق المبتغى من الدراسة، بحيث يربطها المفكر ربطا جدليا بتيمة إنسانية، شدت أوصالها عوالم شتى من المعيش والمتداول المألوف، وكذا من المُتبَع نمطا وسلوكا في وتيرة سيرورة الحياة وصيرورتها إلى الحادث والمجهول.
فبعد العتبة والإهداء والشكر، ينظم الفيلسوف يومياته التأملية في أثناء الحجر بصيغة يسيطر عليها منطق التعاقب والتتابع الخطي، ويغلب على مجرياتها، ويصوغها بنياتٍ مكتملة، يربط سابقَها لاحقُها بروابط الزمن والمكان والموضوع، وهي تنطلق من: الإثنين 16 مارس 2020: «كورونا والتعليم عن بُعد» (ص: 12)، وتبلغ: الأربعاء 15 أبريل (2020): يومية أخرى ويوم آخر!؟ (ص: 129) (3)، وتختتم بملحق على شكل حوار مع المؤلف، ضم صفحات:( 134- 135-136- …-143). (4)
ينجلي ما نشير إليه ويتبدّى في أثناء بسطه محتويات المؤلَّف أو مستوياته في حرص منه على رصد أهم العناصر المضمونية، وكذا الوحدات الدلالية التي يريد من القارئ اكتناهها أثناء توضيح مجمل ما تثيره الجائحة من تصورات ومواقف وقضايا، تتصل بانعكاساتها الوخيمة على الفرد والمجتمعات، بل لا يكفيه بعد هذا كله، وبعد الذي عمل عليه واشتغل من الدراسة الوافية إلا العرض الكافي لعناصر تسلطها، والبسط الوافي لآليات تحكمها في المصائر الخاصة والمسارات العامة.
فإذا كان الأمر كذلك، فإن الصورة الواجب تصورها، والمنتظر رسمها لهيئة المجتمع، ونمط تفاعله، سرعان ما أبانت عن ارتباك في جل ملامحها وبعض معالمها، ففي جو من الإجماع الوطني، امتثل المواطنون للدعوات الرسمية والاجتماعية وغيرها، الموجهة لأخذ مزيد من الحيطة والحذر، والتزام مقتضيات الحجر الصحي واحترام ضوابطه، وكذا تجنب كل الأسباب التي من شأنها الدفع باتجاه الإصابة بهذا الوباء.
خالف بعضهم كل التعليمات والتوجيهات التي تنص على ضوابط الحجر وفوائده، فتجاوزوا قيم الإجماع وخرجوا عن الجماعة، وشقوا عصى الطاعة ورفضوا سبل الانضباط، في تحد منهم للأحكام والأعراف، وكذا المواضعات والاتفاقات، يقول: « هكذا ظهرت القراءة الحرفية للدين، وهي قراءة سطحية مموجة لا علاقة لها بعمق الدين وقيمه المتعالية» (5).
وتبعا لهذا المنظور والتوجه الذي اختاره الدكتور أحمد شراك، ومنذ زمن بعيد في أثناء ولوجه عالم التدريس، واقتحامه مجال الكتابة والتأليف، رغبة منه في التعريف بالأدوار الإيجابية والآثار الثمينة لفعل القراءة، ترسّخ عزمه الأكيد على المساهمة في الرقي بمستوى مجتمعه الثقافي مما توفره هذه اللازمة، وتؤكد على تثبيته في عقول وأذهان المتمدرسين والطلبة وعموم الناشئة أيضا.
ألفينا – وكما سبق- العالم السوسيولوجي، يسرع إلى بسط الحلول والمخرجات على المستوى الآني مما تبلور كرد فعل على/ لهذه الظرفية التاريخية التي يعيشها العالم برمته، بحيث لزم معها بحث المقترحات المناسبة والتي من شأنها إنقاذ المجتمع مما يتهدد ه من خطر داهم،ومما ينتظره من مصير مجهول، لذا يهمه ويثيره أمر توجيه هذا المجتمع السادر عن اغتنام الفرصة – فرصة الحجر- وتحويلها إلى حجر قرائي، من شأنه أن يصالح الأمة وأفرادها ونشأها وشبابها مع ما يسميه: «العلامة الحضارية».
إلا أنه ركز على فاعلية هذه العلامة كحجر زاوية لخطة استراتيجية، تبوئها دورها الريادي في قيادة المشروع المجتمعي الطموح والزاخر تفاؤلا بمستقبل مشرق زاهر، ما دامت الضرورةَ الحتمية لكل توجه منشود، تصبُّ أهدافه في مسار إرشاد العموم إلى أنجع السبل الكفيلة بخدمة القصد النبيل في هذه الفترة العسيرة والمستعصية على الإدراك والتمثل، يقول في تساؤل مبطن بالاستنكار والتمني: «..فهل يمكن الحديث عن حجر قرائي اليوم؟ هل فعلا سيُسْتدْخَلً في عاداتنا..فنصبح شعبا قارئا، لا شعبا طلَّق القراءة…أيمكن أن تصبح القراءة علامة حضارية لافتة، تمارس في المنازل..والمقاهي ..والشواطئ..» (6).
هكذا يثير أحمد شراك الانتباه إلى الجانب التخطيطي المبني على أساس التوقع والاستشراف، رغبة منه في أن يعنى الوطن ببناء هذه الاستراتيجية الوطنية بمرتكزات وأهداف واضحة محددة، تنطلق من المواطن وتعود إليه، مادام يرصد الكوارث أو الكارثة بعد عزلها كبنية دالة في عناصرها ومكوناتها، وتجريدها من صفاتها السياسية أو البيئية أو الصحية، كقضية اجتماعية في توالي حدوثها وتكراره، ولو في صور وتجليات مختلفة، مما وفر له أدوات الدراسة الدياكرونية – حسب تعبير اللسانيين البنيويين-.
ينكب على رصد أبعادها وتجلياتها على مر الفترات واللحظات الزمنية التي احتضنت الآفة، أو الواقعة بالوطن وبغيره من الأوطان بشكل عام. في تعاقبها وتكرارها منذ حرب الخليج الأولى بالعراق، ثم أحداث 11 شتنبر بالولايات المتحدة الأمريكية، وصولا إلى كورونا 2020 .- (7)
ومن الراجح أن الرغبة في التبسيط والشرح والتوضيح، جعلته يميل، وفي أكثر من مناسبة إلى تخطي هذا المستوى المتصل بالاستيعاب، يكشف مكوناته أمام القارئ، فإذا ما استأنس هذا الأخير بمعاني النص وقيمه، وانتابه غيض أو فيض من الفضول في المتابعة والتّتبُّع، عاد يوضح ملاحظاته واستنتاجاته مركّزا على أهم النتائج وأخص الخلاصات، فيكون شارحا لطبيعة الظاهرة واقفا عند مجمل تمظهراتها، معرّجا على ما أحدثته كجائحة من تأثير وتداعيات، وبما أنتجت من فوبيا الرعب، والذي « يُعدُّ من أخطر الفوبيات وأقساها التي عشناها ولا زلنا نعيشها: فوبيا تسونامي، فوبيا الإرهاب، فوبيا داعش، فوبيا الحرب العالمية الثالثة، فوبيا حكم الرداءة…» (8).
والواضح أن هذا المقام، أو الخطوة البحثية لا تقتصر على إتمام منطق القراءة المثمرة وإغناء متطلباتها، بل تشكيل رأي عام للاقتناع بالدور الريادي الذي تؤديه القراءة في انطلاق عجلة التقدم الفكري والحضاري وإطلاق دورتها ودورانها باتجاه المستقبل، وإيلاء الفعل الثقافي الهادف ما يستحق من العناية الكفيلة بجعله شرطا من شروط الإقلاع الاجتماعي المنشود في بعده الفكري-العلمي بغية الوصول إلى مجتمع قارئ واع مثقف، يأخذ بأسباب الرقي والازدهار، ويحترم قيم المساواة والديمقراطية ويؤمن بمبادئ التعايش والتسامح، ويصونها من أي تهديد ويحميها من أي خطر، حتى ينبذ العنف والتعصب وكل أشكال الميز والتمييز لتثوير المسار الاجتماعي والثقافي والذي لا يزال – وبحال من الأحوال، وظرف من الظروف- خاضعا لتحكم فكر الخرافة والدجل.- (9)
ينطلق الباحث من وعي خاص، مؤداه الموقع الذي يتخذه المثقف، والموقف الذي يتبناه، وموطنُه حجم المسؤولية التي ظل يتحملها تجاه مجتمعه ووطنه، باعتباره المعول عليه في الإنجاد والإنقاذ حالما تحلُّ النكبات وتلم النوائب. ولعلها مهمة ألفها «الفكر الشراكي» واستأنس بأعبائها خدمة لمشروعه العلمي في أفق النهوض بواقع هذا الآخر من الغافلين والجاهلين والمحرومين والمقهورين والطامحين، في تطوع منه، يكون دون كلل أو تبرم.
أما والحال كذلك، فإن الكاتب أحمد شراك يواصل في هذا الكتاب مخططه المعتاد في التناول، بحيث جعل من محاولته – هاته – مقاربة تامة المستويات، قائمة العناصر والأركان، إذ عمد كعادته إلى استدعاء مستوى التفسير، عندما رأيناه يركز على كشف الخلفيات الرابضة وراء تبني هذه المواقف إزاء الوباء وظرفيته، والناتجة عن العفوية والارتجالية أيضا دونما تدقيق أو تحقق، كما أسلفت سالفا، يقول: «لعل ثقافة المؤامرة ثقافة ثابتة وأن مقدماتها هي نتائجها، لا تقدم حججا دامغة ولا علمية بقدر ما تعتمد على الحدس والتخمين والظن،…» (10).
وتأسيسا على ما سبق نقول: إذا كانت السوسيولوجيا وعبر تاريخها بفضل مساهمات منظريها وعلمائها، تعنى بدراسة أحوال المجتمعات وتحليل بنياتها ورصد قضاياها وظواهرها على اختلاف البواعث وتشعب العلل والمسببات، فإن الإضافة التي حقَّقها الجامعي وعالم الاجتماع: أحمد شراك كفاعل ومؤثر في الفكر المغربي والعربي أيضا، تظل نارا على علم – كما يقال-، بادية للعيان وماثلة للأذهان، وقد شرع يبتكر ويجدد، بل ويبدع على امتداد الحقل السوسيولوجي وتشعبه، إيمانا منه بضرورة التكامل بين ضروب المعرفة، وصنوف مجالاتها، فبات ذاك المفكرَ المُنقِّح والعالمَ المُنفتِح، ذا الفضل الثمين على البحث والباحثين.
(°) قاص، شاعر وناقد
الإحالات:
1- أحمد شراك: برنامج: مباشرة معكم، حلقة بعنوان: «أي منظومة قيم بعد أزمة كورونا»، القناة الثانية (M2)، بتاريخ، الأربعاء: 29 أبريل 2020.
2- يحيى عمارة: عن كوفيد 19 أتحدث بالصيغتين، «عالم مابعد الجائحة – قراءات في تحولات الفرد والمجتمع والأمة والعلاقات الدولية»، مؤلف جماعي، منشورات، جمعية النبراس للثقافة والتنمية، بوجدة، الطبعة الأولى: (2020)، ص: (281)
3- أحمد شراك: كورونا والخطاب – مقدمات ويوميات، مؤسسة مقاربات للصناعات الثقافية واستراتيجيات التواصل والنشر، الطبعة الأولى: ماي 2020.
4- حوار من إنجاز محمد كريم بوخصاص، جريدة الأيام الأسبوعية بصيغة PDF عدد، (891)، من يوم 28 مارس إلى فاتح أبريل 2020، – هامش الصفحة: (134)، من كتاب: «كورونا والخطاب- مقدمات ويوميات»، مرجع سابق.
5- أحمد شراك: كورونا والخطاب- مقدمات ويوميات، مرجع سابق، ص: (38).
6- أحمد شراك: كورونا والخطاب- مقدمات ويوميات، مرجع سابق، ص: (25).
7- أحمد شراك: كورونا والخطاب- مقدمات ويوميات، مرجع سابق، ص: ( 15- 16-17).
8- يحيى عمارة: عن كوفيد 19 أتحدث بالصيغتين، «عالم (مابعد الجائحة)، قراءات في تحولات الفرد والمجتمع والأمة والعلاقات الدولية»، مؤلف جماعي، منشورات، مرجع سابق، ص: (281)
9- أحمد شراك : كورونا والخطاب – مقدمات ويوميات، مرجع سابق، ص: (46-47)
10- أحمد شراك: كورونا والخطاب- مقدمات ويوميات، مرجع سابق، ص: (18- 19).