رحلتٓ مثل طائر سنونو.. لملمتَ جسدك.. بعضُك يحمل بعضَك.. توكَأتَ عُكّاز العناد، ثم غادرتَ غرفتك.. صافحتَ سريرَك الذي لوَّح لك بوشاح الوداع. كم ليلة كان يحضنك.. ليس سرير مرض، بل أنتَ لم تكن مريضا، على الأقلّ لم أصدّق بأنّك مريض، لذا كنتُ لا أحمل معي إكليل ورد، وأكتفي بظلّ ابتسامة تعرفُ معناها. تردّ على ابتسامتي بإيماءة رأس ورفّة عين.
كلثوم تجفّف دموع البلاط.. بين تنهيدة وتنهيدة تسكبُ قطرتين من عينيها. ترسم لوحة من الحبّ على البلاط كأنها تنحتُ اسمَك وترسم قلباً خافقاً. الجميع يحرسون الباب كأصنامٍ، يستنطقون حتى الهواء قبل العبور إلى الدّاخل..
فمَنْ تكون حتى يخافون عليك من الهواء؟ كيف تدفّقَ إليهم حبُّكَ بهذه الكميّة من الجنون؟ كيف سرقتَ كلّ هذه القلوب من صدورها؟
تواصلُ كلثوم تلميع البلاط وهي تترك وراءها دمعة في كل خطوة إلى الأمام، ولن تنتهي من عملها حتى يتوقّف مطر الدّموع.
ماذا يحدثُ هنا؟
عزيز لا يجيبني، يبدو مثل علبة أسرار ابتلع داخل صدره مفاتيحها. يتسمّر خلف الباب بقامته الفارعة وجسده البدين صامتا مثل صخرة. لا تُتْعِبْ نفسَك عزيز يبدو مثل رجل آليّ، لكنه سرعان ما يتحوّل إلى فهد يَثِبُ بخطوات سريعة حين يسمع صوتا مألوفا يناديه: عزيز.. عزيز!!
يكتفي أن يُنْطِقَ اسمه مرّتين فقط حتى يتوقّف أمامه كنخلة:
ـ نعم «عزيزي»
عزيز هو رجل المهمّات الصعبة.. السّائق وحامل الأثقال وكاتم الأسرار والمسؤول عن مستودع الأدوية بالمصحّة. يحمل وجهُه سُمرة أبناء زاكورة وقلبُه طيبوبتهم ولسانُه لكنتهم الأمازيغية. نادرا ما يثرثر عزيز كالآخرين.. صامتٌ كالعادة حتى أنّي سألتُ نفسي يوما: هل يملك عزيز لسانا؟!
عزيز يشبه كلثوم، هما قرينان في الوفاء وقطعة منك. فلا عجب أن يناديك الاثنان بـ»عزيزي» بكل ما تحمله هذه الكلمة من حمولة الحب والاحترام.
أسبوع أوّل في ألمانيا، بعد أكثر من أربعين يوما من حرب طاحنة ضد عدوّ غزا رئتيك، ولم يغادرها حتى فخّخها بالألغام وأشعل الحرائق في أنسجتها. رحلة جديدة من الكفاح بعيدا عن السرير الذي كان شاهد عيان على حياة كنتَ تعيشها بالتقسيط، وعلى أنفاس تخرج من صدرك مخنوقة. فلا غرابة أن يحدثّك سريرُك ويهمس في أذنك، تضحكان معا، ترويان الحكايات والنوادر نكاية في كورونا. في اليوم الأخير، صافحَك سريرُك بحرارة كأنّه يشحذ عزيمتك.. أنتَ اخترتَ هذا السرير بنفسك وبنيت هذه الغرفة من عرقك لبنة لبنة، لذا كان الاستقبال استثنائيا كأنّك في بيتك.. لم تكن تشعر بالغربة.. بل كنت تشعرُ بأُلفة غريبة، حتى حين زرتك بتلك الغرفة لأولّ مرّة استقبلتني العصافير ضاحكة. لذا لم أكن أراك مريضا، بل رأيتُك في رحلة «نُسوكٍ» وعبادةٍ وهروبٍ من ذاتك. صحيح أنها رحلة أبعدتك عن عاداتك اليومية، لكنّها ستفتح لك طريقا آخر، وحياة جديدة. ألم تشعر بنفسك تولد مرة ثانية؟! ألم ينتابك إحساس بأنّك تخرج من عنق الموت؟! ألم يتجمّد قلبك مرتين؟ ليس من السّهل أن تودّع الحياة وتعود إليها.. ليس من السهل استعادة نسغ الروح.. كَمْ جميل ترويض الموت!! كم أنتَ محظوظ أنّك طبيب، والأطّباء وحدهم مَنْ يستميتون في الدفاع عن الحقّ في الحياة.. ومَنْ ينازلون الموت ولا يتنازلون عن الحياة بكلّ سهولة.
فافتخرْ بنفسك طبيبا جرّاحاً، لتدفن ألمَك، وتسْخر من جراحك، وتضحك البساتين في راحتيك!!
كلثوم تبلّلُ عينيها فتمطر البلاط دموعاً. أمّا عزيز فراسخٌ كنخلة يهفو قلبه إليك.. ينظر إلى السّماء يلاحق بنظرة صقر بين السحب جناح كلّ طائرة تعبر غيمةً لعلّها تحمل حقيبة سفرك!!
كغيمةٍ أمطرتْ قلوباً!!!!
الكاتب : توفيق مصباح
بتاريخ : 29/01/2021