اتخذت من الجسد حيزا مهما لكونه الواجهة الأولى للتعبير عن الكينونة
في هذه اللوحة يأخذ الجسد حيزا مهما لكونه الواجهة الأولى التي تعبر من خلالها المرأة عن وجودها وكينونتها ، إنه المادة التي ترافق وتعبر عن ذاتها الباطنية ، فهو ذلك الجسد الذي يتجاوز مظهره ، ويعكس المشاعر ، و يحمل في طياته بعضا من التفاصيل ، لا يمكن رصدها إلا بنظرة ثاقبة ، لذلك ترجلت الفنانة التشكيلية لبنى الإدريسي الفيزازي عن صهوة أسلوبها التجريدي ، فتعاملت معه باهتمام كبير ، واقتفت خطوط ملامحه ، بطريقة فنية ، تتأرجح بين التجسيد والتجريد ، مما جعل هذا الجسد لا يبقى على طبيعته بفعل لمسة لاواقعية ، و لون بني غامق يرمز إلى الطبيعة والأرض ، تم مزجه بكستنائي أضاف إليه شيئا من النعومة والأناقة ، وهذا التناغم بين اللونين هو الذي خلق توازنًا جميلًا ينعكس في اللوحة بأكملها ، و يمنحها عمقا و يفشي طبع إنسان غامض ، يتسم بالأنوثة و المرونة ، لكنه يتقمص سمة أسد ، تم قذفه بتحايل وإيهام في الواجهة حتى لا يظهر للعيان إلا بالإمعان ، للتذكير بشجاعته وإقدامه وجرأته ، وإضفاء شيء من الغرابة على لوحة لا تقدم للناظر شكله ، وإنما وضعيته المعبرة التي تقوم الفنانة بتشخيصها ، ورسم أهم قسماتها لنقلها إلى مستوى الرؤية الحية ليصبح دالا ، ومدلولا يشير إلى الصورة الذهنية للشيء ، وليس إلى الشيء بعينه ، و يعكس بعضا من طباع المرأة ، وشخصيتها المركبة التي تستمد أيضا كما ترى الفنانة غموضها وقوتها من أعماق بحر ، يعتبر عنصرا مهما في الصورة ، حيث يبدو وكأنه يلتهم الجزء الأسفل من جسدها ، لكنه لم يصل بعد إلى ظهرها الذي جاء على شكل مربع يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأفكار المجتمع .
ليس اعتباطا أن يحضر هذا الشكل في هذا العمل ، فهو رمز للألوهية في معظم الأديان القديمة ، يمثل المتانة والكمال بفضل نقاطه الأربع ، وذلك ما جعل فنانتنا تشتغل عليه لتكريس قوة هذا الكائن الأنثوي ، مستحضرة أعمال عزيز السيد ، و لكن بدون أن تسقط في التقليد و النسخ.
إن هذه المرأة طبعا لا تشبه في شيء نساء هذا الفنان التشكيلي المغربي الفذ ، سيما من حيث شعرها الذي تم إطلاقه في فضاء فسيح يعبر عن حلمها نحو فضاء يفسح المجال لتطلعاتها ، جاء بتلك الطريقة بفعل إنشاء جمالي صنع أشكالا لونية ، عبارة عن رموز ، و علامات تأخذ مساحة على القماش ، تعكس المزاج ، و تتخذ حالات الشعر المستوحاة من الواقع ، حيث تتدلى كذلك خصلات منه بطريقة عشوائية وتلقائية نحو الأسفل للتعبير عن الهروب و الانطلاق.فالنسوة غالبا ما يحاولن إيقاف الزمن في مرحلة معينة من العمر بالاهتمام بزينتهن ، ولكن هذه المرأة لاتريد أن تتحدى الزمن فحسب ، بل تعمل على أن تؤخر الموت بالتشبث بالحياة ، تشير إلى ذلك سلطة الأسود الذي يتحول بدوره إلى رمادي دون أن يخلق ذلك فراغا بين اللونين أو فجوة بين الحقيقة والوهم ، ويعمق الشرخ بينهما ، سيما وأن السيدة لبنى حاولت الكشف عن ذلك الخيط الرفيع الرابط بينهما ، و البحث عن الفجوة بين مفهومها و مفاهيمنا من خلال صورة تم صياغتها برؤية معاصرة ، تبدو فيها امرأة غارقة في العتمة ، ولكن منظرها يوحي بأنها تشعر بورطتها هاته ، وتسارع الزمن للتخلص من هذا العائق الذي يمثل عقدة الشعور بالنقص .
ولإبراز قوة هذا الانفعال ، تم التركيز على حركات الرأس ، يبدو وكأنه يميل يسارا ويمينا ،وكأن المرأة بذلك تبحث عن منفذ لتخرج إلى النور ، وهذا الأمر الذي يطرح تساؤلات حول مصيرها ، مما يمنح بعدا دراميا للوحة فيها الكثير من الإثارة ، تتميز بالدقة في تصوير ما يعتريها من قلق نقلته الفنانة وألقته على القماش بروح متبصرة ، وراصدة تفاصيل ظهرها ، من خلاله يمكن التعرف على باطنها الذي جعل نظرتها شاردة ، تبحث عن شيء يبقى سرا لا تعرفه إلا صاحبة القماشة ، يشير إلى ذلك فمها الفارغ الذي انفتح كي لا يتكلم…
كل المشاهد توحي بأن المرأة في صراع دائم من أجل الحياة ؛ انتصابها للبقاء في النور ، و تفادي الهبوط إلى الأسفل ، نحو قاع البحر/القبر ، وكتفها الأيسر الذي يحمل نصا يصعب قراءته للتعبير عن مصيرها المجهول ، وحبها للحياة على الرغم من كل شيء ، وفضاء أغبش قاحل ، يفتقد إلى سماء تحلق فيه طيور ترمز للحياة ، ولا يحمل الكثير من التفاصيل ماعدا بعض الأشكال القائمة بذاتها والتي تبعث على الحركة ، وإن تعددت و تنوعت العناصر داخله ، فإنها تنصب كلها حول تغيير المفاهيم ، ومحو تلك الصورة النمطية الملتصقة بها كإنسان رهيف ، يحمل جسدا غاويا ، و أيضا لتعطيل غرائز الشهوة لدى متلق راق يُوظف الحواس الأخرى التي تقود إلى الاستمتاع بلحظة جمالية أفرزتها متعة بصرية بمفارقة لونية ، وضربات فرشاة صاغت معارج ، يعرج منها وبها فيض من أفكار ، ألهمت لوحة ، تستمد جماليتها من ذات مبدعة ، تقوم من خلالها بإجلاء ما هو بالداخل في شكل رسم بمثابة كتابة لامقروءة ، تتفاعل مع فكرة المحاكاة لكل ما هو واقعي بأسلوب تشكيلي ذاتي يحمل في عمقه شيئاً من طموحها و تساؤلاتها حول إنسان يطبعه الكبرياء والثقة بالنفس ، يعكس برمزيته معنى الحياة والارض والخصوبة ، يحب الجمال بكل أبعاده ، ويرفض أن يبقى داخل ظله ومحبوسا في ذاته.
يبقى المشهد الذي يثير الانتباه في اللوحة ، هو تجنب المرأة النظر إلى الفراغ الذي يعكس ربما فراغا تركها غائبة في قلب فنانة متحررة و مرهفة الإحساس ، رأت النور بفاس ، وكبرت وكبر معها حب الرسم ، ثم عاشت نيفا من الزمن في الرباط ، قبل أن تنتقل للاستقرار بالدارالبيضاء.