لا شك أن الشعر المغربي المعاصر شكل مجالًا خصبا للتجريب والتجديد، حيث لا ينفصل الشعراء المغاربة عن تحولات الواقع، ولا عن نبض الذات الفردية والجماعية. فهم يستلهمون من تاريخهم وتراثهم، ويستلهمون أيضا من الحاضر تلك التحولات التي تحدث، ليصوغوا نصوصا تجمع بين الانتماء والتجاوز..
ومن اللافت والمميز هو أن أغلب الشعراء الجدد بالمغرب، يسعون إلى إعادة صياغة العلاقة مع اللغة والواقع، عبر كسر المألوف، والانفتاح على جماليات الحياة اليومية، والتقاط التفاصيل الهامشية التي تغدو، بفعل الشعر، مركزًا للرؤية..
في هذا السياق، يبرز جيل جديد من الشعراء الذين لا تهمهم الصيحات العابرة، ولا الكتابة التي تحدث صدى، بقدر ما يسعون لتأسيس صوتهم الخاص، ولعل من بين هؤلاء، الشاعر عاطف معاوية، الذي خط اسمه ضمن الأصوات الشعرية الصاعدة، باجتهاده وإبداعه، ونيله جوائز أدبية رفيعة، مثل جائزة ماهر نصر للشعر في مصر عن ديوانه الأول (يد طويلة تخلع الكلام)، وجائزة أحسن قصيدة من دار الشعر بمراكش..
ديوان «أجراس متوسطية» هو مرآة لتجربة شعرية تتنفس من رئة المتوسط، وتنبض بروح المكان المغربي، تحديدًا شمال المغرب، حيث البحر، والجبال، والذاكرة، واللهجة، والتفاصيل البسيطة التي تتحول في النص إلى رموز مشحونة بالدلالة. نحن أمام كتابة تستمد لغتها من اليومي، ولكنها تلبسه أفقًا جماليًا وفنيًا يجعلها تنفتح على الأبعاد الكونية.
في هذا الديوان، لا يكتب عاطف معاوية عن المدن فقط، بل عنها ككائنات حية، ومن ذلك حديثه عن مدينة الرينكون، أو عن مشهد شاعري مثل قصيدة بورتريه، حيث تصبح الصورة الشعرية مرآة لعالم كامل، تتقاطع فيه الروائح، الأصوات، والذاكرة.
وما يلفت في هذا العمل، هو التلاعب الواعي باللغة، ليس بهدف الغموض أو الإبهام، بل من أجل خلق شعرية خاصة به، حيث تتجاور الكلمة البسيطة مع العبارة المفاجئة، ويصير الإيقاع الداخلي بديلا عن الوزن التقليدي، ما يجعل القراءة تجربة وجدانية خالصة. عناوين الديوان، نصوصه، وتقاطعاته مع عناصر المكان (في الغرفة المجاورة، حزن صيف يتكرر، أجراس متوسطية)، تجعلنا نستحضر مفهوم «المحلي الكوني»، حيث تنبع القصيدة من بيئة محددة، لكنها تتجاوزها لتصل إلى الإنسان في كل مكان.
يشكّل ديوان (أجراس متوسطية) محطة شعرية مميزة في المسار الإبداعي للشاعر عاطف معاوية، حيث تتقاطع فيه بساطة الحياة اليومية مع عمق الرؤية الشعرية. ومن خلال لغته المتدفقة، وصوره المتأملة، وإيقاعه الهادئ، يمنحنا الشاعر لحظات من التأمل في الذات والمكان، في البحر والمشاهد الصغيرة، في الشمال المغربي الذي يصير مرآة للكون كله.
إنه ديوان يُنصت إلى الأجراس الخفية التي تقرع داخل الإنسان، ويدعونا لننصت بدورنا إلى نبض الحياة من حولنا، بعيون الشاعر وروحه.