بعد الأسواق الأسبوعية التقليدية بمنتوجاتها المتنوعة الطازجة وبعد المتاجر العصرية الكثيرة المنتشرة على طول التراب الوطني، فُتح المجال، منذ سنوات، للتجارة الإلكترونية التي تقبل عليها مختلف فئات المجتمع، تجارها مهرة في فن الإقناع، من وراء شاشات الهواتف يطلون ببضائع لا تلمس ولا تشم، معتمدين فقط على حاسة البصر والكلمة كسلاح فتاك لإغراء الزبون . في هذه الورقة سنتطرق إلى وقع هذه التجارة على المجتمع المغربي والتحديات التي تواجهها إضافة إلى القوانين التي تنظمها وبعض الإحصائيات الخاصة بتجارة أصبحت شيئا فشيئا تحتل مساحات كبيرة في عادات الشراء عند المغاربة.
التحول نحو الرقمية في عادات الشراء المغربية
شهدت عادات الشراء عند المغاربة، خصوصا منذ جائحة كورونا، تحولا كبيرا نحو الرقمية. لم يعد الكثير من المستهلكين المغاربة بحاجة إلى التنقل بين الأسواق التقليدية أو مراكز التسوق المنتشرة للبحث عن بضاعة يحتاجونها أو اقتناء حاجياتهم اليومية، فالتكنولوجيا أصبحت توفر لهم خيارات جديدة ومريحة. اليوم، يمكن للمغاربة الاطلاع على آخر ما وصل الأسواق من بضائع ومنتجات من منازلهم، سواء كانت ملابس، أجهزة منزلية، أو حتى طعام. يمكنهم اختيار ما يناسبهم بسهولة وسرعة، بواسطة
منصات التجارة الإلكترونية، مثل جوميا، تيمي، شي إن، علي إكسبريس، شاري.ما، وحتى بعض المواقع كمنصات تيكتوك، فيسبوك، أو انستغرام، التي أصبحت صلة وصل بين المستهلك والبائع، فبفضل هذه المنصات، وبفضل إطلاقها خدمات جديدة أو استراتيجيات تسويقية لتحفيز المستهلكين على الشراء بشكل أكبر، أصبح المستهلك المغربي يقتني آخر ما وصل الأسواق من منتجات سواء أكان ساكنا في المدن أو حتى المناطق النائية والبوادي، وهو ما يثير الصدمة أحيانا حول تغلغل هذه الوسيلة في الشراء حتى بين فئات كنا نعتبرها منغلقة وبعيدة ومحافظة (في أحد الأسواق الأسبوعية، وفي إحدى المقاهي تناهى إلى مسامعي حديث مجموعة من النساء القرويات أكثرهن شابات، عن شراء ملابس وأحذية لهن ولأبنائهن بل مواد تجميل أيضا عن طريق الأنترنيت، كن فرحات وهن يرتشفن كؤوس شاي منعنع ويتذوقن إسفنجا ساخنا، ويحكين عن المنتج الفلاني وعن المؤثرة الفلانية، صدمت من هذا «التقدم» الذي وصلن إليه رغم أن بعضهن لا يفك الخط، ولكنهن يعرفن ماذا فعلت المؤثرة الفلانية وعن أي منتج تكلمت، أغلبهن غير متمرسات في استخدام التكنولوجيا، إلا أنهن يلجأن إلى أخواتهن المتعلمات وأبنائهن أو أحفادهن لمساعدتهن في الشراء). هذا التحول يظهر كيف بدأت التجارة الإلكترونية تخترق كل الأماكن والمساحات بغض النظر عن المسافة والبعد والفئة الاجتماعية.
التحديات والمخاوف في التعامل مع التجارة الإلكترونية
التجارة الإلكترونية التي بدأت تجتاح المغرب تعتبر مفهوما حديثا نسبيا حسب مختصين، حيث لم يبدأ العمل به إلا في ستينيات القرن الماضي. ونعني بالتجارة الإلكترونية الأنشطة والمبادلات التجارية من بيع وشراء، والتي تتم بين طرفين أو أكثر عن طريق شبكة الإنترنت وتقنيات تكنولوجيا المعلومات. تتم هذه المبادلات عادة عبر المتاجر الإلكترونية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المبادلات تتم سواء محليا أو دوليا.
إذن من هنا يمكننا أن نعرف التجارة الإلكترونية بكونها تبادلا للسلع والخدمات بين مجموعة من الفاعلين الاقتصاديين عبر الإنترنت والتقنيات التكنولوجية الحديثة. لكن هذه الطريقة في البيع والشراء لا تزال تعترضها بعض المشاكل والإكراهات. وهذه الأخيرة تتعلق أساسا بطريقة الدفع، يقول أحد المختصين، حيث غالبا ما يظل الدفع نقدا عند الاستلام هو الخيار الأكثر شيوعا. كما أن الدفع عبر البطاقات الإلكترونية لا يزال يُثير تخوفا لدى المغاربة من استعمالها في هذا النوع من المعاملات. هذا التحول نحو الرقمنة في عادات الشراء لم يؤثر فقط على طريقة اقتناء المستهلكين للمنتجات، بل أيضا على قراراتهم الشرائية وسلوكهم الاستهلاكي. اليوم، أصبح المستهلك يصطدم في جولاته على المواقع الإلكترونية بالبث المباشر لعدد من التجار، خاصة تجار الألبسة، الإلكترونيات، مواد التجميل، والمجوهرات، حيث تجذبه القطعة المعروضة أو ثمنها أو حتى الطريقة التي يتبعها الباعة في عرض بضاعتهم، والذين قد يقدمون «ليفات» تتجاوز منتصف الليل إلى ساعات متأخرة، بعيدا عن أي ضوابط. هذه التجربة مر بها كل واحد منا تقريبا، فقد بات هذا الأسلوب في التسويق الفوري عبر البث المباشر أو عبر مواقع تعرض بضائع منخفضة الأثمنة مثل موقع «تيمو» مثلا جزءا لا يتجزأ من تجربة التسوق الرقمي عند المستهلك مما يعزز من تأثير التكنولوجيا على سلوكه وقراراته.
دور المؤثرين
في توجيه سلوك المستهلك
إضافة إلى المنصات هناك «الإنفلونسرز»، الذين يؤثرون بشكل كبير على المستهلكين لتوجيه اختياراتهم. هؤلاء يتابعهم المئات بل الآلاف من الأشخاص، وهم يلعبون دورا كبيرا في توجيه سلوك المستهلكين عبر استغلال حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي. يبرزون جمال المنتجات، جودتها، وثمنها بطريقة تحمل الكثير من الإغراء. حتى وإن كان هذا المنتج أو ذاك لا يرقى إلى ما يتم الترويج له أو أن جودته لا تستحق كل هذا العناء. مما يجعل تأثيرهم يتجاوز مجرد عرض المنتجات إلى خلق رغبات جديدة وتحفيز المتابعين على الشراء.وبالتالي، أصبح هؤلاء المؤثرون جزءا لا يتجزأ من منظومة التسويق الرقمي في المغرب.
ما يثير الانتباه هو أن البث المباشر الذي يكون أبطاله مؤثرون على شبكات التواصل الاجتماعي أصبح يخلق ثقافة استهلاكية جديدة، شبيهة إلى حد ما بالشراء المرتبط بالعاطفة، كم من مرة اصطدمت بمؤثرين على «انستغرام» أو «تيكتوك « يقومون بعرض منتجات مختلفة، خصوصا تلك المتعلقة بالتجميل، يتحدثون بحماس عن جودتها بل يقسمون أغلظ الأيمان أنهم لا يكذبون بل يريدون الخير للمشتري المفترض، ولذلك ينصحونه بشرائه لأنه سيحدث المعجزات الخارقة على الوجه وسيخلصه من تجاعيد السنين وخطوط الزمن وسينبت شعر رأسه بكل سهولة ويسر، بل إن طريقة تسويقهم المثيرة بحماس لجودة المنتج يرفقونها بعرض تخفيضي حصري مدته ساعة واحدة أو 24 ساعة مع تزويد الشارين الأوائل بهدايا أو «كود» خاص بهم إمعانا في جذبهم إلى فخ الشراء.
مصطفى أسمار: البطالة من أبرز عوامل هذا التحول
تعليقا على هذا الموضوع قال مصطفى أسمار، الطالب الباحث في علم الاجتماع، إن موضوع التسوق عبر الإنترنت لا يمكن مناقشة أو مقاربته في معزل عن التقدم التقني والتكنولوجي السريع الذي يشهده العالم في السنوات الأخيرة. فقد شهدت مواقع التواصل الاجتماعي نشاطا غير مسبوق في مجال التجارة الإلكترونية وذلك راجع إلى مجموعة من العوامل، في مقدمتها:
التقدم التكنولوجي حيث إن الابتكارات التكنولوجية المتسارعة، بالإضافة إلى تعميم الهواتف الذكية وشبكات الإنترنت، جعلت هذه الأخيرة من الأساسيات في معظم المنازل، مضيفا في تصريح للجريدة، أن المجتمع المغربي يتمتع بنمو ملحوظ في فئة الشباب، مما جعل الكثير منهم يتقنون تقنيات التواصل الاجتماعي بسهولة ويسر. هذه الفئة أصبحت أكثر تأثرًا واستخدامًا لمنصات التواصل الاجتماعي من أجل التسويق كما أن تسهيل الإجراءات الخاصة بالتسجيل في المواقع الإلكترونية الخاصة بالبيع، وكذلك في مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت توفر خيارات متنوعة للتجارة الإلكترونية، من ضمن الأسباب التي أدت إلى ازدهار هذا لمجال أيضًا، معتبرا أن عددا كبيرا من الشباب يعتمد على هذه الأنماط التجارية الافتراضية لتفادي المخاطر المتعلقة بالخسارة من جهة، ولربح الوقت من جهة ثانية، فضلاً عن انخفاض تكلفة هذا النوع من التجارة مقارنة بالتجارة التقليدية من جهة ثالثة.
من العوامل المهمة أيضًا معاناة فئة كبيرة من الشباب من البطالة، مما دفع الكثير منهم للبحث عن فرص جديدة في التجارة الإلكترونية، سواء بشكل فردي أو عبر التعاون مع شركات متخصصة في هذا المجال، ورغم هذه العوامل الإيجابية التي ساهمت في انتشار التجارة الإلكترونية، فإنه لا يمكننا إغفال مجموعة من السلبيات التي تواجه هذا المجال، مثل عمليات الاحتيال والنصب التي تعد من أبرز المخاطر التي تعترض طريق المتسوقين عبر الإنترنت، مما يثير القلق لدى البعض حول مدى أمان هذه العملية، ومع ازدياد عدد البائعين والمحتكرين للمنتجات عبر الإنترنت، تظهر ظاهرة الوساطة التجارية التي قد تزيد من تعقيد عملية الشراء وتقلل من مصداقية بعض المواقع. يختم المتحدث.
نظرة مستقبلية: النمو المتوقع للسوق الرقمية المغربية
حسب إحصائيات لموقع «ecommerce»، توقعت أن تسجل إيرادات السوق المغربية، التي تحتل الرتبة 81 عالميا في التجارة الإلكترونية، إيرادات متوقعة تصل إلى 623 مليون دولار عام 2024. متفوقا بذلك على سلوفينيا. ويُتوقع أن تحقق السوق نموا سنويا مركبا (CAGR) بنسبة 3.9% بين عامي 2024 و2028. مما قد يؤدي إلى تحقيق حجم سوق يُقدر بـ738.6 مليون دولار بحلول عام 2028. في سنتنا هذه، التي تستعد لوداعنا بعد أيام، توقع الموقع أن يسجل السوق المغربي نموا بنسبة 4.9%، ليساهم بذلك في معدل النمو العالمي البالغ 10.1%. ويتوقع أن تستمر مبيعات التجارة الإلكترونية عالميًا بالنمو في السنوات القادمة، على غرار المغرب.
وتشمل الأسواق الرئيسية للتجارة الإلكترونية المغربية سبع فئات:
الهوايات والترفيه (23.8% من الإيرادات).
الإلكترونيات (22.5%).
الأزياء (19.2%).
الأثاث وأدوات المائدة (11.4%).
منتجات العناية الشخصية (8.8%).
منتجات الأعمال اليدوية (8.5%).
البقالة (5.7%).
وسجلت إيرادات التجارة الإلكترونية بالمغرب زيادة بنسبة 7.9% بين شهري سبتمبر وأكتوبر 2024. هذا النمو يعكس تصاعد الإقبال على التسوق الإلكتروني، خصوصا في ظل التوسع في البنية التحتية الرقمية وتحسين وسائل الدفع الإلكتروني.
هذا الارتفاع يمكن أن يكون مرتبطا بمواسم تخفيضات أو حملات تسويقية خاصة في هذه الفترة. بالإضافة إلى تزايد اعتماد المستهلكين المغاربة على المنصات الرقمية لشراء المنتجات والخدمات.
في الحاجة إلى قوانين تزيد من تعزيز الثقة والأمان
في ما يخص القوانين المنظمة للتجارة الإلكترونية بالمغرب، فإن الإطار التشريعي يتمثل في قوانين متعددة تهدف إلى تعزيز الثقة والأمان في هذا القطاع:
قانون رقم 53.05 المتعلق بالتوقيع الإلكتروني: ينظم استخدام التوقيع الإلكتروني لجعله معتمدا قانونيا. كما يحدد الشروط اللازمة لضمان أمان التوقيعات الإلكترونية وسلامة الوثائق الرقمية. وتُشرف عليه الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات.
قانون رقم 43.20 المتعلق بخدمات الثقة بشأن المعاملات الإلكترونية: يهدف إلى تعزيز الشفافية والأمان في المعاملات الإلكترونية. يدعم استخدام الشهادات الإلكترونية وتقنيات التشفير لحماية البيانات. يُلزم مقدمي الخدمات الإلكترونية باتباع معايير أمان محددة.
الإثبات في المحررات الإلكترونية: ينص على أن المحررات المعدة إلكترونيا تُعتبر قانونية إذا استوفت شروط الحفظ والإعداد المنصوص عليها في القانون. يُلزم الأطراف بوسائل تقنية تتيح الولوج إلى الوثائق وتأكيد سلامتها.
المواد المتعلقة بحماية المستهلك في المعاملات الإلكترونية: تتطلب من مقدمي الخدمات إبلاغ المستهلكين بجميع تفاصيل العقد، مثل الأسعار والإجراءات التصحيحية الممكنة قبل إبرام المعاملات. هذه القوانين التي وضعها المشرع لتنظيم التجارة الرقمية تصطدم، حسب المختصين، بما مدى تطبيقها واحترامها من طرف المزاولين لهذه الأنشطة الرقمية. وهل يتم تفعيل حماية المستهلك كما هو منصوص عليه في القانون.
رغم وجود تشريعات تحمي حقوق المستهلك في المغرب في سياق التجارة الإلكترونية، مثل قانون 53.05 المتعلق بالتوقيع الإلكتروني، وقانون 43.20 المتعلق بخدمات الثقة بشأن المعاملات الإلكترونية، وهو ما يعتبر أمرا مهما سيمكن للمغرب أن يستفيد من هذا التحول الرقمي لتحقيق نمو اقتصادي مستدام، إلا أن تحديات تفعيل هذه القوانين، بشكل عملي، كبيرة. فالكثير من المستهلكين يصطدمون خلال معاملاتهم التجارية عبر الإنترنت بعدم مطابقة المنتج المتوصل به لذلك المعروض سابقا على منصة البيع الرقمية، أو مخالفته لمعايير الجودة أو الغش في نوعية المواد المستعملة. كما تطرح تحديات قد يواجهها المستهلك عندما يرغب في استرجاع منتج غير مطابق للمنتج المعروض، بالإضافة إلى مشاكل الدفع، حيث يظل الدفع نقدا عند التسليم هو الخيار الأكثر شيوعا، مما يحد من استخدام البطاقات الإلكترونية بسبب قلة الثقة في الأمان الإلكتروني.
من أبرز التحديات في هذا المجال هو ازدياد حالات الاحتيال، حيث يظهر أحيانا أن الرابط بين البائع والمشتري يتسم بالهشاشة، كأن يكون رقم الهاتف فقط هو وسيلة التواصل، وعند حدوث مشكلة في المنتج، يتم إغلاق الخط أو الحساب. وهذا يثير مخاوف لدى المستهلكين من عدم وجود آليات كافية لحمايتهم من مثل هذه الممارسات.
لهذا تبدو الحاجة ملحة لتحسين الإطار التشريعي لتقوية حماية المستهلك عبر وضع قوانين جديدة تساهم في ضمان الشفافية والأمان في المعاملات التجارية الإلكترونية. وهذا يحتاج إلى مزيد من الجهود على الأرض لضمان تطبيق هذه التشريعات بشكل فعال خصوصا مع تزايد إقبال المغاربة من كل الفئات العمرية والاجتماعية على الشراء عبر الانترنيت واستغلال الباعة لهذه الوسيلة المتقدمة لتصريف بضائع قد تكون في بعض الأحيان بعيدة عن مطابقتها للمواصفات المطلوبة .