ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير …
تعتبر الدار البيضاء، اليوم كما في الماضي، رائدة الصناعات والاقتصاد في المغرب، فهي تنتج بمعية باقي مدن جهتها 65 في المئة من الإنتاج الصناعي الوطني مؤمنة بذلك مناصب شغل لآلاف المواطنين، وهو ما مكنها من الاستئثار بحصة الأسد من الإنتاج الوطني( حوالي ثلثي الإنتاج)، وبتوفرها على أزيد من 30منطقة صناعية ومنطقة التسريع الصناعي على مساحة كلية تناهز 3431.60 هكتارا استطاعت أن تتمركز ضمن أكبر التجمعات الصناعية بشمال إفريقيا بل احتلت المركز المالي الأول بين هذه الدول ..لكن كل هذا التميز في المجال الصناعي والاقتصادي والتجاري لم ينشأ فجأة أو من فراغ …ولم يكن وليد لحظة أو صدفة لعبت لصالح هذه المدينة المتروبولية الضخمة، تلك المدينة التي لم يكن أحد يتصور، قبل قرن وبضع سنوات، أنها ستتجاوز مدن فاس وطنجة العريقتين ومدنا أخرى كانت الأنظار والاهتمام يتجهان إليها على مر التاريخ المغربي ..
ذكرنا في بداية كتابة هذه الحلقات أن ميناءها أو مرساها كان هو العامل الأساسي في كل التغيرات التي حصلت بها، فقد كان نقطة جذب قوية ورئيسية للتوسع العمراني والسكاني مع ما استتبع ذلك من نماء اقتصادي وتجاري وصناعي..فقد تنامت حوله المناطق العمرانية والصناعية وازدهرت طرق التجارة القادمة منه والموصلة إليه، حاملة السلع والبضائع والآلات والمحركات، وكل ما تحتاجه نجمة صاعدة في سماء المدن الصناعية الكبرى..مساهمة في تدفق الأموال الطائلة في شريان الحياة النشيطة لمدينة قدر لها أن تكون عاصمة المال والأعمال لمغرب القرن العشرين، مدينة استمرت وتستمر في النهوض والانتعاش إلى يومنا هذا … في القرن الواحد والعشرين…
لقد استأثرت الدار البيضاء في الجزء الأول من القرن الماضي بكل تمظهرات الحياة الحضرية التي كانت شبه منعدمة آنذاك من طرق ومجاري وقنوات الصرف الصحي وإمدادات الماء الصالح للشرب والأحواض والبنايات والمدارس والمستوصفات، وهي الوسائل التي تشجع على جلب الاستثمارات ورؤوس الأموال، ورغم أنها لم تكن سوى منطقة تتمركز على المحيط الأطلسي إلا أنها كانت وجهة مفضلة لوسائل الإنتاج واليد العاملة ..كما شكل البحر، على العموم، المكان المفضل لتمركز الساكنة حيث تواجد ثلث ساكنة المغرب بالمناطق الساحلية، حسب كتاب الدار البيضاء لأندري آدم ..من بوعروة حتى تيزنيت، وفي مدن القنيطرة، الرباط، سلا، الدار البيضاء، الجديدة، آسفي، أكادير ، وفي سنة 1952 استقر أكثر من مليون نسمة في المناطق الساحلية المصنعة في مدن ساحلية من بينها البيضاء، وبلغت الساكنة في المحور الصناعي الدار البيضاء القنيطرة من 1230000نسمة سنة 1952الى1947000نسمة سنة 1960بمعدل 58.2في المئة، في حين أن مجمل الساكنة المغربية تزايد في نفس الفترة بوتيرة 37.5في المئة لتتراوح ما بين5730000 نسمة و 5700000 نسمة ..هذه الشواطئ الأطلسية المذكورة ستمتع بثلثي الاستثمارات الصناعية والتجارية والعقارية، وبالنسبة للفلاحة فقد ضم إقليم الدار البيضاء 14في المئة من قرويي المغرب، ووفر 23 في المئة من الإنتاج الزراعي في عام 1960، في حين أن أقاليم أكادير ورزازات وقصر السوق لم تنتج سوى 10 في المئة من الإنتاج الزراعي رغم توفرها على 18في المئة من السكان القرويين (دانيال نوان: مدخل لدراسة عدم التوازن الإقليمي في المغرب).
لقد وجد الباحثون أن النشاط الصناعي عدا المناجم يجتمع في المنطقة الممتدة من الدار البيضاء إلى القنيطرة، وأحصوا فيها 70في المائة من العمال و80 في المئة من الشركات التي توظف أكثر من 20شخصا، وتستهلك 75 في المئة من الكهرباء و80في المئة من المنتجات البترولية، كما أن طريق الدار البيضاء – الرباط عرفت كثافة للعبور من 4000 إلى 5000 سيارة مماثلة بذلك الطرق الكبرى بأوروبا الغربية ..ويرجع الباحثون أن هذا الميل لمركز الثقل بالحدود الشاطئية إلى المعاهدة الانكلو مغربية لسنة 1856، التي فتحت البلاد للتأثير الأوروبي، ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدأت المدن الصغرى النائمة على الشاطئ في الاستيقاظ ومنافسة المدن التجارية الكبرى في الداخل، ولكي تأخذ هذه الحركية بعدها الكامل تم التفكير في تأهيل البلد وتجهيزه وزرع اقتصاد حديث إلى جانب الاقتصاد التقليدي، وكانت الدار البيضاء في صلب هذا التحول، وصارت الحاضنة لهذا التمركز القوي الاقتصادي بدءا من الميناء، كما سبقت الإشارة، ورغم أن بعض الخبراء الاقتصاديين توقع أن الدار البيضاء لن تستمر في النمو كما كان مرصودا لها إلا أنها توقعات لم يكتب لها أن تتحقق، ففي بداية الثلاثينيات من القرن الماضي توقع خبير في الشؤون المغربية بتراجع الدار البيضاء عن أهميتها النسبية لحجم النشاط الاقتصادي المغربي، وكتب جان سيليريي أن «سلسلة من الظواهر تعلن هذا التغيير، إنه توسع التراب الخاضع، إنه استخراج الفوسفاط المرتبط بتنشيط خط السكك الحديدية العادي، إنه إصلاح ميناء آسفي وأشغال ميناء طنجة والحركية المتنامية للركاب الذين يستخدمون هذا المفترق الفريد بين المعابر البحرية والقارية، إنها طفرة الثروة في شرق المغرب. الدار البيضاء التي صممت أصلا كما صمم ميناؤها لتكون ذات دور وطني في المغرب سينخفض دورها إلى دور إقليمي ضيق»، انتهى كلام الخبير الفرنسي و لكن الدار البيضاء لم تنته، إذ لم تتحقق توقعاته بخصوصها، واستمر نشاطها في النمو المطرد، ولم تؤثر عليه تلك الظواهر الدقيقة التي ذكرها الخبير في تحليله .
وبالعودة إلى بعض الإحصائيات الخاصة بميناء الدار البيضاء، فقد تم تسجيل، خلال النصف الأول من القرن العشرين، أنه عالج سنة 1924 ، 70في المئة من حمولة كافة الموانئ بالمنطقة الواقعة تحت الحماية الفرنسية و60 في المئة من قيمته، في سنة 1931 ضمن الميناء 65في المئة من قيمة الواردات من إجمالي موانئ المنطقة عن طريق البر والبحر، ثم 59 في المئة من الصادرات من جميع الموانئ، في سنة 1938 كان مجموع وزن البضائع التي تم التعامل معها من قبل جميع المكاتب الجمركية بما في ذلك وجدة 65 في المئة، عبر الدار البيضاء، 80 في المئة في سنة 1946إلى 75 في المئة في عام 1947و73في المئة في عام 1948، وفي سنة 1955تداول ميناء الدار البيضاء 76في المئة في نقط التفريغ 73في المئة في التحميل، 75في المئة من إجمالي المعاملات ..في 1959وفر الميناء والمطار 67 في المئة من وزن الواردات و86 في المئة من القيمة، 65 في المئة من وزن الصادرات، 75في المئة من القيمة، في المجموع 65 في المئة من الوزن ، 72في المئة من القيمة، في سنة 1962بلغ 74في المئة من وزن الواردات و73في المئة من وزن الصادرات كانت تمر عبر ميناء الدار البيضاء، وهي أرقام تظهر الأهمية التي حظي بها هذا الميناء منذ بداياته، ولا يتنازل عن صدارته هاته إلا في مجالين اثنين، وهما مجالا الصيد البحري الصناعي حيث يتفوق عليه ميناء أسفي ومجال نقل المسافرين الذي يتفوق فيه ميناء طنجة، ففي سنة 1962 كان المعدل الشهري للمسافرين المغادرين 3118من ميناء الدار البيضاء مقابل 13479من ميناء طنجة، أما المعدل السنوي للوافدين على ميناء الدار البيضاء فقد بلغ 1543في حين كان عدد المسافرين القادمين إلى طنجة عن طريق مينائها 13220، لكن في المجال الجوي تتفوق الدار البيضاء، ففي سنة 1961 وصلت نسبة المسافرين عبرها إلى 60في المئة، أما في مجال الشحن فقد مر 90 في المئة من البضائع عبر مطار كازا انفا.
هذا ويعتبر تمركز الصناعات المغربية في الدار البيضاء النواة الأولى لكل التمركزات الأخرى بل يعتبر الأقدم أيضا، وحسب الإحصائيات، ففي سنة 1921 كانت الدار البيضاء تتوفر على 54في المئة من القوة المحركة، 75في المئة من الرأسمال و60 في المئة من العمال والموظفين.
في عام 1931كان بمنطقة الشاوية وحدها 470 من المنشآت الصناعية من أصل 734بحميع المنطقة الجنوبية أي بمعدل 64في المئة، ووفرت مؤسساتها 11512فرصة عمل من أصل 14546، أي بمعدل 76 في المئة.
قدر ألبير عياش اليد العاملة سنه 1958 في الصناعة وفي الخدمات الصناعية باستثناء عمال البناء والعاطلين عن العمل بالمناطق الحضرية الكبرى 106963، منها 93 0 56 أي 52% في الدار البيضاء، ولاحظت نسبه التمركز أعلى بكثير في بعض الصناعات وهي 63% لصناعة المنسوجات، 64% للورق المقوى والطباعة 79% للمعادن، 87 في المئة لمنتجات الجلود والوبر، 92% للصناعة الكيميائية والزجاج، ولا تتراجع هذه الأرقام إلا في الصناعات الغذائية تاركة الصدارة لكل من آسفي وأكادير بفضل تعليب الأسماك.
لقد تم إنجاز معظم المنشآت الصناعية في الدار البيضاء، أو في المنطقه التي لم تعد تفصل بل تجمع الدار البيضاء بالمحمديه «جنرال تاير» الإطارات، «صوماكا «لتركيب السيارات، «يونيليفر» المنظفات، «لاسمير» مصفاه النفط والغاز، «بيرليي» و»فولفو» لتركيب الشاحنات، وحتى الشركة الوطنية للشاي، رغم أنها كانت مؤسسة للدولة واستقرت على أبواب الدار البيضاء.
لقد كانت هذه الشركات في حاجة إلى المواد الخام والنصف مصنعة المستوردة من الخارج، لذلك احتاجت إلى التحرك في أقرب وقت ممكن إلى المصدر، أي ميناء الدار البيضاء، وسنة 1963 تم خلق الدار البيضاء الكبرى بواسطة الظهير الملكي ، في 12 سبتمبر 1963، وهي المنطقة التي جمعت ليس فقط بلدية الدار البيضاء والمحمدية ولكن أيضا الجماعات القروية المحيطة بها حتى النواصر على بعد 30 كلم من الميناء .
هذا الميناء الذي ساهم بشكل أساسي في تنمية المدينة التي حلت محل فاس وأصبحت تتمتع بهيمنة تجارية وصناعية، وأصبحت أكبر مدينة مغربيه لأنها بفضل هذا الميناء كانت على اتصال مع العالم الخارجي ومنه كانت تصل الأموال والإنسان، مما جعلها تسحب البساط من تحت فاس التي لم تكن معزولة هي الأخرى عن العالم قبل الحماية الفرنسية، فقد كانت تجارها المتقنون لصنعتهم وتجارتهم المتميزون بالحنكة والمهارة على اتصال بجبل طارق ومانشستر وليون وجينوا وبلدان أخرى، وكانت تجارة الاستيراد إحدى دعائم ازدهارها كما كان لها موانئها بالعرائش وطنجة، حيث كانت تتوصل بمواد الصناعة الأولية الأوروبية لتقوم بتوزيعها في باقي المدن، لكنها ستتلقى ضربة موجعة خلال الحماية التي دمرت صناعتها التقليدية وعملت على تطوير صناعة حديثة ستستفيد منها أكثر ، وتم تحويل الدار البيضاء إلى عاصمة المغرب الاقتصادية الجديدة، ومركزا تجاريا وموزعا تجاريا، وأصبح الميناء مصدر المواد الأولية الخاصة بالصناعات الحديثة، وأيضا مركزا للإنتاج الصناعي.