في عام 1988، غادرت الشاعرة الشابة إيمان مرسال (1966) مدينة المنصورة حيث درست الأدب العربي في جامعتها إلى العاصمة الكبيرة القاهرة.
أصدرت ديوانها الأول «اتصافات» (1990)، لتتوقف عن الكتابة خمس سنوات، لــ «ترميم الروح» كما تقول، قبل أن تعود بديوانها «ممر معتم يصلح لتعلّم الرقص» (1995). وأكدت مرسال فرادة تجربتها بديوان ثان «المشي أطول وقت ممكن» (1997)، قبل أن تقرر الهجرة إلى كندا حيث تعمل أستاذة مساعدة للأدب العربي ودراسات الشرق الأوسط في «جامعة ألبرتا». كأن حياتها مجموعة من الهجرات الدائمة، هجرة فنية بحثاً عن أسئلة جديدة، وهجرة مكانية أيضاً. في هجرتها الثانية، توقفت عن الكتابة قبل أن تعود بديوان «جغرافيا بديلة» (2006)، ثم ديوان «حتى أتخلى عن فكرة البيوت» (2013)… فضلاً عن كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها» (2017). كما قدمت ترجمة لرواية المصري وجيه غالي «بيرة في نادي البلياردو»، ومذكرات الشاعر تشارلز سيمك «ذبابة في الحساء». وتعمل الآن على الانتهاء من إعداد أطروحتها للدكتوراه لتصدر في كتاب بعنوان “صورة أميركا في كتابة الرحلة العربية”.
■ كيف ترين هذا التعدد داخل قصيدة النثر العربية؟
– من متابعتي لمشهدنا الشعري العربي ــ وكلامي هنا لا يخلو من اختصار بسبب طبيعة الحوار ـــ هناك قصائد متميزة بالفعل، يكتبها شعراء من أجيال مختلفة وتسهم الشاعرات العربيات فيها بشكل لم يحدث مع أي من الأنواع الأدبية الأخرى. إذا اهتممنا بمصادر الحوار مع الشعر العالمي؛ فهناك قصيدة نثر أميركية وثانية أوروبية وأخرى تخصّ الأطراف (قصيدة في حوار مع نصوص عشوائية مثل شعر الباشتون، الهايكو، وكتب الحكمة، وحتى مع نصوص روائية). هناك أيضاً قصيدة سركونية وأخرى ماغوطية في ما يخص نبرة الصوت، وهناك قصيدة متعثرة، لكنها تبحث عن صوتها الخاص. هناك قصيدة نثر غنائية، قصيدة عامة ممتلئة بالتفاصيل التي تقف معاً ككتلة تشبه كتلة المجاز في قصيدة التفعيلة. يمكننا مثلاً أن ننظر إلى قصيدة النثر العربية حسب انتمائها للسنتمنتالية الشديدة أو لموقفها العنيف ضد السنتمنتالية. هناك أيضاً قصيدة نثر غاضبة تتوالد بإعادة إنتاج موضوعات مطروقة مثل «الوحدة»، من دون أن تعرف ما هو الاختلاف الأخلاقي بين الغاضب وما يغضبه، إنه غضب طفيلي. هذه الأنواع ليست متجاورة بل متقاطعة. والقصد أن هناك مداخل كثيرة لقراءة التعدد داخل المشهد الشعري العربي.
■ بالنسبة إليك، كيف تأتي القصيدة؟
– ربما تأتي من نقطة غامضة داخلنا، أتخيلها نقطة تتقاطع فيها خبرات ولغات وصُدف وذاكرة ونصوص كتبها آخرون وعلاقات أخرى مبهمة. القصيدة الجيدة عزيزة، ولا أحد يعرف شروطها، ولكن بمجرد كتابتها تصبح عرضة للاستبعاد والاختيار وللعب أيضاً.
■ هل الشعر هو «خلاصة الروح» كما قلتِ في قصيدة لك؟ ماذا تعنين؟
– كنتُ في الخامسة أو السادسة حين أخذتني جدتي معها لزيارة قريب مريض. جلست بجانبها في غرفة مضاءة بلمبة غاز والمريض كان محاطاً بنساء متّشحات بالسواد وفي حداد بالفعل. بدا لي ضعيفاً جداً على السرير العالي حتى إنّني لم أكن أرى إلا صعود وهبوط صدره وهو يحارب من أجل الزفير والشهيق. ظلت النسوة هائمات حوله في ترقب وانتظار حتى زفر بعمق وأنين كل ما في رئتيه من هواء. كأن تلك الشهقة تحمل كل ما هو مدين للحياة به. قفزت النساء بجانبه وأحطنه وسمعت للمرة الأولى تعبير «خلاصة الروح». لم يصرخن إلا بعد تغيير ثيابه ونشر العطر في الغرفة ثم نظرن إلى بعضهن بعضاً كأن بينهن شفرة سرية للصراخ الجماعي. قد يكون الشعر هو خلاصة الروح بنفس غموض هذا التعبير عندما سمعته للمرة الأولى.
■ منذ «اتصافات» (1990)، ما المراحل التي مرت بها تجربتك الإبداعية للوصول إلى «حتى أتخلى عن فكرة البيوت»؟
– بأمانة لا أعرف المراحل بالضبط، ولكن هناك قصيدة تكون حدثاً في حياتك، تعرف بعدها أنك كنت تسعى إليها وتنتظرها. مثلاً أتذكر عندما كتبت قصيدة «جغرافيا بديلة»، شعرت أنني أقبض بشكل أفضل على حيرتي بين أكثر من جغرافيا. أسئلتي عن الهوية، وأيضاً طريقتي في تكوين مشهد سرديّ. بدا الأمر كأني أعبر عتبة حقيقية، كأن عليّ أن أنظر خلفي وأبتسم.
■ نقدياً، عندما تتأملين تجربتك الإبداعية، ما الثوابت التي بقيت معك منذ ديوانك الأول؟ وما المتغيرات؟ هل تغيرت رؤيتك إلى الكتابة الآن، عن رؤيتك لها في البداية؟
– من الأسهل أن أتحدث عن تغيرات في وعيي بفضل التحولات الشخصية والقراءة والزمن أيضاً، ولكن لا أعرف ما تأثير هذه التغيّرات على الكتابة بالضبط. ربما في بداياتي، كان تصوري عن الصدق أخلاقيّاً والآن أراه أكثر تعقيداً من ذلك. هناك أشياء لم تتغير رغم ذلك، منها أنني لا أفرق بين المضحك والمأساوي لا في الحياة ولا في الكتابة، وما زال يهمني للغاية أن يكون للقصيدة بناؤها الخاص بها. أيضاً، ما زالت الدقة تأسرني أكثر من تعدد الدلالات.
■ من الأقرب لك شعرياً: أساتذتك أو أصحاب الأثر الأكبر عليك؟
– أظن أن كل ما نقرأه يؤثر علينا. نتكلم عادة عن تأثير الأدب العظيم، لكن لا يوجد ما يُثبت أن الكتابات المتواضعة أقل تأثيراً. التأثير الفعّال ليس إعادة إنتاج ما قدمه الآخرون، إنه خطوة ضرورية لإيجاد صوتك الشخصي، وبالتالي هناك دائماً عملية معقدة من التفادي والاشتباك والإحلال والإزاحة مع كل نص. قد يكون هناك نص أهم في تأثيره في لحظة ما من هذا الأرشيف من النصوص، لكني أشك أننا واعون به.