كيف تصبح كاتبًا؟ .. جوليا كريستيفا: وضعني ابني دافيد ضمن سياق زمن أفقي (2)

« لا نتخيل إلى أي حد تتجلى صعوبة التماسك حينما تعيش امرأة مع زوج ليس كالآخرين، ولديها طفل يختلف عن الآخرين، ومهنة غير باقي المهن، وبأن مختلف محاور الارتباط تلك وبقدر كونها ارتقاء فهي تمثل عائقا أيضا(مع أخذ بعين الاعتبار أن كل واحد منا لايشبه“ الآخرين”)وتقوم على توازن ”مغاير تماما’ ‘يصعب تخيل ذلك !“(كاترين كليمون، جوليا كريستيفا، الأنثوي والمقدس، ألبان ميشيل، 2015 )

وأنتم، ما موقعكم ضمن مختلف ذلك؟
مثلما سمعتم. عزيزي صامويل، تعكس ذاتي فيلقا ! هي شيطانية،  وفق تجليات عدة. لكني أحدثكم دائما عن “الأنا”. بمعنى عندما أتلفظ بمفهوم الاعتماد. فقد اختبرت قوة ذلك منذ الحمْل والوضع. تمت الولادة في ظروف جيدة، بمعنى مؤلمة، مع تخدير موضعي، ثم طفل جميل، التقطت صور، في غمرة فرحي وفيليب. لم يتمكن والداي من المجيء بسهولة إلى فرنسا، أما والدا فيليب فقد أفسحا المجال للثنائي الشاب كي يحتفل بالمولود الجديد، اختار فيليب بلا تردد اسم دافيد وقد أعجبني. دافيد المبتهج، اسم عائلته لأبيه، ابن فيليب المبتهج يضيف سوليرز،  وكذا جوليا كريستيفا الزوجة السعيدة. على الفور، وعفويا دون تكلف،  أبدى الأب اهتماما،  تؤطِّره رِقّة استثنائية. لازلت أستحضر الصورة كما الآن، محتضنا دافيد،  يتقمَّطه ويشدو له…. طبعا ليس أغنية”على ضوء القمر”، بل موزارت، من خلال القطعة الموسيقية(يتنفس قلبي ليلا…)وكذا باخ(تمجيد الثالوث المقدس…)فيما بعد سجلناها على شريط، أظهر دافيد وهو طفل، شغفا بالاستماع إليه، يستظهرها عن ظهر قلب، ولازال ينشدها أحيانا صحبة أبيه:”أبي الذي أعشق”، يردد ذلك مع تطور سنه،  بينما يبقي إليّ التمرد والشجارات وكذا تفاصيل اليومي. ستقولون، عزيزي صامويل، بأنها عقدة أوديب لاتشبه غيرها !

* أنتم من صرحتم بذلك !
نفعل ذلك نحن الثلاثة  والابتسامة لاتفارقنا، وضع نادر بالأحرى،  من خلال تلك الجوانب التراجيدية ل”العُقَد” التي استدل عليها الدكتور فرويد. الضحك بمثابة إمضاء من طرفنا نحن الثلاثة، رغم تيار التجارب التي اعترضت سبيلنا؛ إنه يؤشر على تقاسم و تبادل،  الأحزان،  التبريرات أو الانتقادات،  ثم تخفيف وطأة ذلك وفق تواطؤ غير مخادعٍ، ولا أيضا صعوبات أو وضعيات.  هكذا، استند الثلاثي السعيد على لازمة مفادها: “يتصف الرجال بالهشاشة في حين تشتغل النساء”. هكذا حاولت بدوري الظهور ضعيفة، أحيانا إذا بقي لي الوقت، لكن غالبا لاينجح الأمر.
عندما كان دافيد صغيرا، اصطحبه فيليب لزيارة الكنائس الباريسية،  ويستمعان إلى آلة الأرغن،  وكذا أشرطة وأسطوانات موزارت،  باخ،  و فيفالدي…بدوري انتدبتني متاحف:اللوفر،  فيرساي،  قصر فولوفيكومت،  وكذا قصور لالوار…عرف”برنامجي”نجاحا، لكن دافيد وجد أكثر تسلية الاستمرار في الذهاب صحبة أبيه. حين عودتهما، أضحى مألوفا تكرار اللازمة الغنائية أب/ابن، والتي لم تتوقف غاية الآن، مثلما ستلاحظون ذلك في روايتي”ساعة التوقيت المغتبطة”: «إننا صبايا غاسكونية/مقاتلين ومخادعين بلا حياء/ من كاربون كاستيلجالو/هكذا، نحن صبايا غاسكونية «.

*لكن حدثت مظاهر انشطار فُصامي فيما يتعلق بنمو ابنكم دافيد، دون تجليات واضحة، ثم أضحت الأمور أكثر تعقيد؟

خلال مرحلة الوضع، بادرنا إلى تشخيص مشاكل تتعلق بالوظائف الحركية. رغم فحوصات عميقة، جاءت النتائج سلبية، بالتالي لم نخضع لوصفات علاجية. فيما بعد، بدأت أعراض تفاقم حالات انشطار فُصامي وعلى مستوى التكامل الحركي/ النفسي.  تابع دافيد مسارا دراسيا عاديا خلال مرحلة الحضانة، والمدرسة الابتدائية العمومية، ثم بعد ذلك المدارس المتخصصة. بعد علاجات مختلفة، ظل التشخيص المرضي غير دقيق: إحدى هذه الأمراض العصبية،  المسماة ”يتيمة”،  تسببت له في غيبوبة مرات عدة.  الحالة مستقرة آنيا، لكن مجاورة الموت، وسيف ديمقليس المسلط فوق رؤوسنا، تجعلنا نعيش حياة أخرى، ثمينة للغاية، وأكثر حساسية.  معركة البقاء البطولية(مع التسطير على الكلمة)التي قادها دافيد بحيوية شديدة لم تؤدي فقط إلى لحم أواصر الرابطة بيننا، بل لقد غَيَّر معنى الوجود. يعني هذا البقاء بأن دافيد لم يتحمل فقط مجازفات مميتة، لكنه راكم من خلال ذلك طاقة زائدة،  وقتالية،  ثم ألفة قوية نحو آلام الآخرين وكذا تضامن عفوي يشحن والديه،  وأصدقائه، ومحيطه كي يتجاوزوا بالمعنى الحرفي للكلمة، نحو خارج الذات: الحياة.  لاأقف عند حدود تجميل الصعوبات، بل أقوم – صحبة المختصين المحيطين بنا- بالضروري حتى يقاوم بكيفية جيدة لحظات الألم تلك، والحزن والتساؤل. أنا لاأنتمي إلى فصيلة آباء هؤلاء الأطفال الذين يعانون إعاقة، ويرددون ادعاء مفاده بأنهم يعيشون البهجة و الرضى، نتيجة إيمانهم الكبير. لقد وضعني دافيد ضمن سياق زمن أفقي، وحاضر مستمر، و”آنٍ”يعمل البقاء داخله على إبراز باقي ممكنات الوجود مثل حالة وهمية ثانوية.


الكاتب : ترجمة: سعيد بوخليط

  

بتاريخ : 07/08/2020

أخبار مرتبطة

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

: داخل مجتمع اللاتلامس، لم تعد نظرة العشق الأولى موضوع تبادل في الشارع، أو داخل حانة، أو في عربة من

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *