عدنان الصايغ تجربة أدبية وازنة ، و نقطة مضيئة في الخارطة الشعرية العربية الراهنة ، تتسم كتاباته بتلك القدرة الهائلة على التحكم في اللغة و جعلها تتحرك وفق ما برصده لها مبدعها ، يوقن الصايغ أن العالم يمضي إلى قدره المحتوم ، لذلك تجده صافنا «كنسر يخفق في مواجهة العاصفة/بينما ريشه يتناثر في السهوب».
عاش الصايغ في أكثر من وطن و تحدث أكثر من لغة، نهل من المعارف الكبرى ، و شهد تجارب الخلق و التأسيس الثقافي و الايديولوجي في العالم العربي ، لذلك اتسم شعره بالعمق و الحكمة والرزانة :رزانة الرجل و رزانة النص.عبر هذا الحوار الذي أجريناه معه نفتح بابا للاقتراب من الصايغ و من عالمه الشعري الشاسع.
p بوصفك شاعرا له زوايا نظره الخاصة:إلى أين يتجه العالم؟
لا أدري حقاً.. وقد حير هذا السؤال – اللغز عموم البشرية كلها منذ هبط الانسان الأول من سفينة نوح بعد أول طوفان إلهي حتى أخر طوفانات الحروب والدم والكوارث الأرضية، ومنذ سؤال صاحبة الحانة سيدوري الأزلي في ملحمة كلكامش: الى أين تسعى يا كلكامش! إن الحياة التي تبتغي لن تجد!
كأنها أرادت أن تختصر أو تختم بسؤالها وجوابها معاً، رحلة البشرية قاطبةً، لكن رغم ذلك ظل الإنسان يبحث وتبحث.. غير ملتفت لها، ولمقولة من كتاب الحكمة الصينية:» إذا لم تجد ما تبحث عنه داخل نفسك، فأين يمكن أن تذهب للبحث عنه؟»
والبحث والسعي عاملان مهمان من طبيعة الوجود نفسه، لهذا أجدني وأنا أبحث في مفارق الطرق الكثيرة لا أدري إلى أين أتجه شعرياً وحياتياً، أو إلى أين يتجهُ بي العالم.
ثمة أبواب تنفتح وتنغلق أمام الذات، قد تفضي وقد لا تفضي، لكني متجه إليها:
« أطرقُ باباً
أفتحهُ
لا أبصر إلا نفسي باباً
أفتحهُ
أدخلُ
لا شيء سوى بابٍ آخر
يا ربي
كمْ باباً يفصلني عني؟»
كم باباً إذن؟
وكم طريقاً؟
والعالم يمضي إلى قدره المحتوم غير آبه لهذا القلق الإنساني الآخذ في التصاعد وقد كثرت الحروب والكوارث والأسئلة، وتقلصت مساحات الشعر والحلم حداً كبيراً..
هذا الركض السريع للعالم، يجعلني وغيري – نحن الشعراء – أكثر قلقاً وتساؤلاً ونحن نحدق في الحافات الأخيرة للزمن.
القرون تتوالد عن قرون أكثر ظلماً وفقراً وحروباً.
والحكام يتوالدون عن حكام أكثر بطشاً.
ولا حيلة للإنسان المعاصر أكثر من حيلته الأزلية في الحلم بايثاكاه. الحلم بديلاً عن اليأس، أو الثورة بديلاً عن الموت..
ويظل هذا السؤال الذي شغل العالمَ: شعراء وفلاسفة ومفكرين، وعلماء دين، وسياسيين، عصياً عليهم جميعاً، مثلما هو عصيٌّ على القصيدة، وفي ذلك متعة البحث، متعة الشعر السرمدية..
p كشاعر تتسم كتاباته بالقوة والتميز والجمال كيف تنظر إلى الشعرية العربية الراهنة؟
المشهد الشعري الراهن غاية في التنوع والتجديد والتعقيد والالتباس – على مختلف الاتجاهات -فإذا أزحنا جانباً هذا الركام الهائل من النصوص المصابة بفقر الدم واليباس والتي سادت وتراكمت هذه الأيام بشكل ملفت للنظر. أقول إذا ما أزحنا هذا جانباً فإن بالإمكان أن نتلمس بوضوح مشهدين حقيقيين مهمين:
مشهد الحداثة،
ومشهد الغنائية..
وبينهما تتواصل وتتنوع وتتفرع مشاهد عديدة للقصيدة تحاول أن تجترح لها مكاناً على خريطة القصيدة المعاصرة آخذاً بالاتساع أو التقلص حسب قانون الابداع والتلقي من جانب، وقانون الأصلح من جانب آخر..
يمكنني القول أيضاً أن العصر نفسه يفرض شروطه وذائقته وصوره ومعارفه في أحيان كثيرة.
نعم في أحيان كثيرة يعم الساحة نمط ما من الشعر، مثيراً حوله زوبعة من النقد والمشاكسات والمناقشات، ثم سرعان ما يتلاشى ذلك مخلفاً الشاعر لوحده على سطح الورقة حائراً لا يدري إلى أين يتجه!
لكنني على يقين أن المبدع الحقيقي هو الذي يفجر الأسئلة ويجترح أسلوبه ومذهبه الفني وهو الذي يترك بصماته واضحة على خريطة المشهد، بجرأة وقوة.. مثلما أنا على يقين أيضاً أن الزمن وحده كفيل بغربلة كل هذا الركام الذي سيذهب جفاءً، ليبقى ما ينفع الناس.. يبقى ذلك «الشعر الذي يبدأ بالمسرة وينتهي بالحكمة» كما يذهب روبرت فروست..