لا تغيب روح الطفل عن وجه الشاعر محمد عفيفي مطر, حتى وهو ينفعل ويحدثك عن أعقد القضايا الخاصة بالشعر والواقع والحياة.. وبرغم تأثيره العميق على عدد كبير من الشعراء المصريين وغيرهم، إلا أنه يرفض منطق الأبوة والوصاية في الشعر، والذي يراه أكبر من الشعراء جميعا.. عن روافد تجربته الشعرية وعلاقته الإشكالية بادونيس وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل ومياه الحكمة الشعرية التي أصبحت تحكم إحساسه بالعالم والأشياء .. هذا حوار معه.
بعد انتقالك من القرية وإقامتك شبه الدائمة في القاهرة، هل لاتزال القرية رافدا أساسيا في شعر عفيفي مطر؟
إقامتي بالقاهرة متقطعة، وعلى فترات، والقاهرة بالنسبة لي مجرد محطة للاستراحة، ولكن حتى لو عشت في القاهرة، بعد كل هذا العمر، فتكويني الأساسي هو تكويني القروي، وهذا أيضا فيه كلام، ففكرة أن يتعلم الإنسان وأن يتخصص في دراسات بعيدة عن الواقع الاجتماعي الذي يحياه، فهذا يشكل إلى حد ما نوعا من الوطن البديل، أو الوطن الذي يهرب إليه المثقف بأشكاله المختلفة يحمل من القرية شيئا، ومن المدينة شيئا، ومن قراءاته شيئا، ومن تربيته في بيته ومدرسته، فالإنسان ليس بعدا واحدا أو عنصرا واحدا، ولكن يغلب علي في النهاية الطابع القروي الريفي.
ألاحظ في قصائدك استخدام مفردات ضخمة من قبيل الفقر والجوع والدم إلا يعود هذا؟
إلى الواقع الاجتماعي الذي عشته، فعندما انشأ في قرية وأنا صغير لا يوجد بها عشرة أشخاص يرتدون أحذية، وأن أرى عمال التراحيل، ومن يعيشون في العراء، وأن يكون الحيوان يصرف أكثر من الإنسان، فهذا يوضح سر وجود هذه الكلمات. وإذا اعتبرتها الكلمات المفاتيح، فهي كلمات ابنه الخبرة الحياتية التي عشتها.
اللغة تبدو في شعرك كأنها ثمرة الطفولة هل هذا يرجع إلى تأثير فترة الطفولة عليك أم ماذا؟
اللغة، والكلمات والمفاتيح، والكلمات الكاشفة لعالم الشعر، هي أبنة البيئة وابنة الأرض وابنة الخبرة بشكل عام، وتجربتي في اللغة هي تجربة شخص ريفي يتعلم ويثقف نفسه ، لديه إحساس بأنه مطالب أن يكون مثقفا، فاللغة لدي ابنة كل هذا، كما انها ابنة القراءة والاحتكاك والتعلم وقراءة الشعر القديم، لذا فهي لغة متطورة دائما ومتغيرة بتغير الأحوال والظروف والمصادر الثقافية ومراحل العمر.
تشكل الأرض لديك أحد أشكال المقاومة لغه، وشعرا حتى أن أحد دواوينك كتاب” الأرض والدم” ، بم تبرر هذا؟
الأرض هي أول ما نعرف، أول الخطى عيها، والأرض تعني البشر وتعني ظروف بيئية وثراها وفقرها، وتغني الانتهاك والاستقلال والحرية والاستعمار، الأرض معترك، والأرض مجال ومحور للأفكار وللعمل السياسي والاجتماعي والإحساس بالمستقبل، فعلاقتي بالأرض علاقة ريفي أولا، ومواطن ثانيا، وشاعر ثالثا، فالعناصر أربعة التراب والماء والهواء والنار، التراب هو الأرض، كما أن الأرض ترتبط لدي بفكرة الخصوبة والعقم، والقمر كما نعرف في الانتربولوجيا وفي العلوم الحديثة له علاقة بالمسائل الدورية في حياة الإنسان، بالحمل والولادة والطمث، فكل هذه منظومة متداخلة تكمل بعضها البعض، هي منظومة عضوية لها علاقة بمفاهيم الخصوبة والعمل والطمي، واتساع حوائط الإمكان وقدرة البشر على التفكير والتأثير، فبالضرورة الأرض عنصر هام من عناصر التكوين.
حسنا، هذا الديوان الذي تكلمنا عنه تحديدا – ديوان كتاب “الأرض والدم” -يرى البعض أن التجربة السياسية فيه كانت غيرة من تجربة أمل دنقل الناجحة؟
هناك تجربة لأمل دنقل، وهناك تجربة لصلاح عبد الصبور، وهناك تجربة لي، وكلها تجارب وطن في النهاية في زمن محدد وإزاء مشكلات محددة، هذا شيء ، الشيء الآخر أن الظرف العام والهموم السياسية المشتركة تصنع ما يمكن أن نسميه سقف شعري عام، ولغة شعرية عامة، لكن المسألة ليست مسألة سياسية فقط، بل مسألة لغة، ومسألة طرق في التشكيل الشعري، ومناهج في كتابه القصيدة وحتى إذا وجد تشابه في عناصر الواقع كما هو، فإن هذا لا يحدث تشابها في عناصر التجربة الشعرية نفسها.
أنت واحد من اثنين شكلوا ذاكرة شعراء السبعينيات في مصر، كيف ترى هذه العلاقة ما بين هذا الثالوث: مطر وأدونيس وشعراء السبعينيات؟
أنا أولا ضد تقسيم الشعراء إلى حقب وأجيال، لان هذه مصطلحات غير فنية، ولا تقسم الشعراء على مناهجهم الشعرية ولا على إنجازاتهم، وشعراء السبعينيات ليسوا شاعرا واحدا، ولا تجربتهم تجربة واحدة، وكذلك جيل الستينيات وهكذا، أما تأثير أدونيس، أو تأثيري، أو تأثير أدونيس على الجميع، فهذا كله في حاجة إلى دراسات موضوعية معمقة لا تجرى فيها مثل هذه الأحكام بشكل عشوائي، وفي نهاية الأمر، الشعر العربي كله يشكل جوقة كبيرة، أوركسترا هائلة، يشترك الجميع في عزف هذه المعزوفة التي تعبر عن روح هذه الأمة، وعن تراثها، وعن مشاكلها، وعما يعتري حياتها من الاختلال، فكل هذا يجعل تجارب الشعراء حتى وأن اقتربت أو اختلفت تجرى فيها روح شعرية واحدة تعطيها روحا متشابهة.

