حمل العدد 669 من يومية “التحرير” (20 مارس 1962)، على صدر صفحتها الأولى، تحية من حزب “الاتحاد الوطني للقواات الشعبية” إلى استقلال الجزائر. وجاء في البلاغ: «إن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، المؤمن بوحدة مصير شعب المغرب العربي، والذي عبر في عدة مناسبات عن إيمانه بالوحدة، يحيي الثورة الجزائرية، وشعب الجزائر، علي الانتصار الذي تحقق ضد الاستعمار.
والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، يرى أن هذا الحدث التاريخي، سوف تكون له اثار بعيدة، لا تقتصر على المغرب العربي وحده، وإنما تشمل جميع أقطار الوطن العربي، وبلدان القارة الإفريقية الناهضة، بل وتتعدى ذلك كله لتؤثر في مجريات الأحداث التي يشهدها العالم الثالث.
إن هذا الانتصار الذي كان ثمنه آلاف الشهداء، وقدمت في سبيل تحقيقه ضحايا كبيرة، يعد خطوة حاسمة في طريق تحرير الجزائر من سائر القيود الاستعمارية، القديمة والحديثة، وكذلك من مخلفات الرجعية والإقطاعية، وهو ينبيء بشروق فجر مجتمع جديد. ويتحقق فيه بعث الشخصية القومية للجزائر، ويرتكز على أسس العدالة الاجتماعية، والمساواة بين كافة افراد الشعب، ويؤدي في المدى البعيد، إلى إنجاز الأهداف السامية التي حركت الشعب الشقيق، ودفعته الى الثورة».
لقد كان التضامن الشعبي، والاتحادي على وجه الخصوص، في المغرب مع الثورة الجزائرية كان تضامنا غير محدود، على مختلف الأصعدة، ذلك أن محاولات ضرب ذلك التضامن، وتحييد الشعب المغربي لم تقتصر على الموقف الرسمي الفرنسي المتمثل في الاستجابة لمطالب القوى الوطنية المغربية في الاستقلال.
لقد كان زعماء الاتحاد الوطني على دراية بأن من أهداف الثورة الجزائرية «تحقيق وحدة شمال إفريقيا في داخل إطارها الطبيعي العربي الإسلامي». وبذلك فإن جبهة التحرير الوطني أكدت وفاءها للمبدأ الأساسي الذي قام عليه التيار الاستقلالي منذ 1926و الذي ربط مبدأ الوحدة الاستقلال لأقطار المغرب العربي، وهو المبدأ الذي استمرت جبهة التحرير متبنية له، إذ انه بعد مرور بضعة شهور على اندلاع الثورة، عادت الجبهة لتؤكد (في ماي 1955)على تمسكها بالوحدة المغاربية بتأكيدها على ما يلي: «إن الحقائق الثقافية و الاقتصادية والتاريخية تجعل ثورة شمال إفريقيا ثورة واحدة من الناحيتين الإيديولوجية و السياسية. لقد كانت الحركات في الجزائر وتونس والمغرب تعبيرا عن قومية شمال إفريقيا، وليست تعبيرا عن ثلاث قوميات متميزة، وسوف تسعى الثورة الجزائرية إلى تحقيق الوحدة ضد سياسة فرنسا في شمال إفريقيا».
فهل ظلت جبهة التحرير الوطني وفية لطرحها المغاربي، كما أكدته في «المنهاج السياسي والعسكري للثورة الجزائرية» أكدت من جديد تمسكها بالعمل المغاربي، إذ تضمنت وثيقة الصومام التأكيد على ما يلي: «.. ومن جهة أخرى فإن حكومتي تونس والمغرب قد وقفنا- بفضل ضغط الشعبين الشقيقين- موقفا صريحا من هذه المشكلة التي يرتهن بها التوازن في شمال إفريقيا».
ولم تفتأ جبهة التحرير الوطني تؤكد على مغاربية الثورة الجزائرية من خلال ما كانت تنشره «المجاهد» من مقالات حول موضوع الوحدة المغاربية كوحدة طبيعية وبشرية، وهو نفس الموقف الذي كانت تعلنه جبهة التحرير الوطني من خلال أجهزة الإعلام والدعاية الموزعة بين الجزائر وتونس والمغرب والقاهرة. كما كانت وسائل إعلام الجبهة على الصعيد المحلي و المغاربي و العربي تلعب دورا تعبويا للجماهير التي كانت تتلهف لمطاعة و سماع ما تكتبه وتبثه وسائل إعلام ودعاية الجبهة من أخبار عسكرية، وكذا التطورات الدبلوماسية والسياسية التي عرفتها القضية الجزائرية.
لقد تجاوز التضامن مع القضية الجزائرية كل المستويات ليصل إلى الملك محمد الخامس الذي سعى للتوسط بين الثوار الجزائريين وفرنسا لإيجاد حل للقضية الجزائرية، وبعد اتصالات بمسؤولين فرنسيين اعتقد محمد الخامس وبورقيبة أن فرنسا أبدت بعض الرغبة في عقد لقاء ثلاثي يجمع الملك محمد الخامس والرئيس بورقيبة والزعماء الجزائريين لضبط مطالب تُقدم إلى السلطات الفرنسية ورضيت بتنظيم ذلك الاجتماع، و هو ما جعل الزعماء الجزائريين محمد بوضياف وأحمد بن بلة ومحمد خيضر وحسين آيت أحمد، ومصطفى الأشرف المكونين لوفد جبهة التحرير الوطني يلتقون بالمغرب ويتشاورون مع الملك محمد الخامس، قبل أن ينتقلوا إلى تونس حيث كان من المقرر أن يعقد لقاء ثلاثي وفد جبهة التحرير الوطني والحكومتين التونسية و المغربية لبحث وتوحيد الموقف بين الأطراف الثلاثة. وما كاد موعد لقاء تونس يحين حتى استقل وفد جبهة التحرير الوطني الطائرة المتوجهة من المغرب إلى تونس بتاريخ 22 أكتوبر 1956، وهي الرحلة التي لم ترد إرادة الإدارة الاستعمارية أن تتم إذ تصدت طائرات حربية فرنسية للطائرة المقلة للوفد وأجبرتها على الاتجاه صوب الجزائر والهبوط في مطار الجزائر العاصمة، وتم إلقاء القبض على ممثلي الجبهة وإيداعهم السجن.
وأمام تلك القرصنة الفرنسية، فإن الملك محمد الخامس احتج ضد تلك العملية، معتبرا أن عمل فرنسا موجها ضد سيادة بلاده وكرامتها. وشكلت لجنة دولية من ايطاليا وبلجيكا ولبنان ومراكش وفرنسا للنظر في ” شرعية” الخطف. ولم تسفر أعمال تلك اللجنة عن أية نتيجة لانحياز بلجيكا وإيطاليا للموقف الفرنسي.
وإذا كانت فرنسا قد تمكنت من عرقلة ندوة تونس المغاربية بقرصنتها للطائرة المقلة للوفد الجزائري، فإن ذلك زاد من تضامن الشعب المغربي مع الثورة الجزائرية، وتضاعفت الاتصالات بين قيادات الحركات الوطنية المغاربية التي ظلت متمسكة بمواصلة التنسيق والتشاور، وتعزيز التضامن الشعبي مع الثورة الجزائرية، وأعلنت لجنة التنسيق و التنفيذ إثر اجتماعها بتونس من 25 إلى 29 أكتوبر 1957 ، أنها ترغب في تعدد اللقاءات بينها و بين الحكومتين التونسية والمغربية وتعرب عن أمنيتها في تنظيم مؤتمر بين الأقطار المغربية الثلاثة لبحث خطة موحدة لحصول الجزائر على استقلالها. ومما جاء في تصريح لجنة التنسيق و التنفيذ «… ووعيا بخطورة الحرب وتأثيراتها الحقيقية على الشعبين الشقيقين في تونس والمغرب، فإن لجنة التنسيق والتنفيذ تتقدم بكل شكر وإجلال لحكومة كل من تونس والمغرب على مساعيها الرامية إلى إيجاد حل سلمي. غير أنها تأسف بأن كل هذه الجهود تنتهي دوما بالفشل لتجاهل وتعنت وتكالب الحكومات الفرنسية المستمرة في الاعتداءات البربرية والقرصنة المتمادية في خرق الحرمة والقوانين الإنسانية الدولية المحضة.»
لقد كان واضحا ذلك التفاعل والتضامن الذي أبدته الشعوب المغربية والعربية مع الثورة الجزائرية، والمواقف الايجابية التي سجلت على صعيد المنظمات الإقليمية والدولية لفائدة مطالب جبهة التحرير الوطني ..كان واضحا من كل ذلك أنه لا يمكن الحديث عن الاستقرار في منطقة المغرب العربي ما لم يتحقق ما نادت به جبهة التحرير الوطني من استقلال الجزائر».
ولما كانت السلطتان الرسميتان في المغرب وتونس مدركتين لتلك الحقيقة، فإن جهود الرئيس بورقيبة والملك محمد الخامس في اتجاه إيجاد حل للقضية الجزائرية لم تتوقف، إن كانت تصطدم بالراديكالية المميزة لمواقف قيادة الجبهة المستندة لطبيعة الثورة كثورة شعبية على الصعيد الدولي، والتضامن المطلق للمغاربة والتونسيين والليبيين، وكذا الدعم العربي المشرقي شعبيا ورسميا، وللمواقف الايجابية للقوى التقدمية و التحررية في العالم، وهو ما كان العربي بن مهيدي عبر عنه منذ 1956، حين حدد الأهداف الجوهرية للثورة التي قال بشأنها أن: «الشعب الجزائري يعتمد في كفاحه من أجل التحرر والرقي على مساندة شعوب المغرب العربي الشقيقة، وعلى التضامن الفعال لجميع لعرب وعلى صداقة الشعوب الأفرو آسيوية وعلى تعاطف الشعب الفرنسي والديمقراطيين في العالم». مضيفا بقوله: «إن انتصار شعوب المغرب العربي ذلك الانتصار الذي يضمن المساواة بين جميع أبنائها بدون تمييز يعد عاملا قويا للتوازن و السلم في حوض البحر الأبيض المتوسط».
والملاحظ أن جبهة التحرير الوطني حددت حلفاءها الطبيعيين منذ الفاتح من نوفمبر 1954، وهو ما أكدته الأحداث المتلاحقة على مختلف الأصعدة الجهوية والإقليمية والدولية.
ومن ذلك أن المغاربة، بأمر من المغفور له محمد الخامس، وضعوا، خلال مراحل دعم الثورة الجزائرية، حوالي خمسمائة متطوع مغربي من مدينة مراكش تحت تصرف جيش التحرير الوطني. كما فتحت القوات المغربية الحدود للمجاهدين الجزائريين، وجعلت من أراضيها ميدانًا لتدريبهم، وبعض مدنها قواعد خلفية للثورة. وهذا الدعم الكبير زاد من قوة الثورة، بل شتت خطط الفرنسيين الذين بدؤوا يضعفون أمام هجمات الثوار الحدودية.
ونتيجة لهذا الدعم الاستراتيجي، نشطت قيادة الثورة الجزائرية في وضع الخطط وتكوين شبكات تتولى مهمة الحصول على السلاح من أوروبا وتوصيله إلى المنطقة الغربية من البلاد عبر المغرب الأقصى. كما أنشئت لهذا الغرض إدارة الاتصالات الخاصة بالمعلومات داخل المغرب، ومن الطرق والوسائل الناجعة في تهريب الأسلحة عبر التراب المغربي: استعمال صناديق الخضار والفواكه، فبعد تفريغها كانت تملأ بالذخيرة الحربية، وكذلك الأواني الفخارية التي تحضر في مدينة فاس وتملأ بالذخيرة ومنها تدخل التراب الجزائري، هذا إلى جانب خزانات وقود السيارات التي كانت تشحن هي الأخرى بالأسلحة وتمر عبر الحدود إلى الجزائر.
كما أصدر الملك محمد الخامس في وقت مبكر أمرًا بالسماح بمرور المعدات العسكرية وحتى المتطوعين الأجانب إلى الجزائر، كما سمح للشعب بالتظاهر دعمًا لقضية الجزائر للوصول إلى الحرية والاستقلال. وكذلك تم تشكيل أماكن طبية آمنة للمصابين من ثوار الجزائر لتلقي علاجهم في مراحل اشتداد الخناق على الولايات الحدودية.
أمام هذا الدعم للثورة والتسهيلات المقدمة لرجالها؛ قدمت فرنسا شكاوى رسمية لمجلس الأمن الدولي، كما زرعت الألغام والأسلاك المكهربة على طول الحدود، وكثفت من دوريات الحراسة طوال الليل والنهار، إلا أن ذلك لم يمنع المجاهدين من الاستمرار في عملياتهم انطلاقًا من قواعدهم الخلفية في المغرب.
وبحلول عام 1960 استقبل المغقور له محمد الخامس في مراكش وفدًا حكوميًا جزائريًا، عرض عليه المضايقات التي يتلقاها الجزائريون من طرف القناصل الفرنسيين في وجدة وبوعرفة، فاستجاب الملك لطلب الوفد وأغلق القنصليتين مباشرة، وهذا ما دفع برئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة فرحات عباس إلى زيارة الرباط، وصرح قائلًا: «إن الجزائر هي المغرب، وإن تضامننا أبدي، وإن الصحراء هي مسألة تهم الجزائر والمغرب فقط، ولا تهم من بعيد أو قريب الاستعمار الفرنسي».
هكذا أدى المغرب دورا عظيمًا في نصرة قضية الشعب الجزائرية والوقوف في محنته ودعمه ماديًا ومعنويًا، إلى أن نالت الجزائر استقلالها في عام 1962.