كيف تكيف الأخلاق جمالية الجسد في السينما؟ و لماذا؟

 

تمهيد

تكمن صعوبة الإجابة على السؤال الجمالي للجسد في السينما المغربية. أولا في الجانب الأخلاقي، بإعتباره العنصر الذي يرسم لصانع الفيلم حدود حرية التعبير في التعامل مع الجسد، على النحو الذي يجعله متطابقا مع الخصوصيات المغربية، و متجاوبا مع التذوق الجمالي المغربي العام، وليس التذوق الفئوي.
و الملاحظ أن كل تلك الأفلام المغربية التي تثير الجدالات و الضجات. كان صناعها يرفضون تلك الحدود.
و تكمن هذه الصعوبة ثانيا في أن مقاربة الموضوع، تتطلب الإنطلاق من ملاحظات علمية، لتناول موضوع غير علمي.. موضوع مرتبط بالذوق (فني جمالي) و الأذواق لا تُناقَش كما يقال. و هذه الملاحظات هي كالتالي:
1 أن تركيبة الجسد الإنساني تنطوي على تناقض،فالإنسان أمام أي عين مشاهدة، لا يستطيع أن يتعامل مع جسده بالكيفية التي يتعامل بها معه خلفها (لا يستطيع كشف عورته أمام أي عين مُشاهِدة).
2 أن الأخلاق هي التي تفرض هذا التناقض، أي أن كشف عورته أمام الناس، سلوك يتناقض مع الأخلاق. و يسقط القيمة الأخلاقية للفرد، و يُحدِث أكبر إسقاط للقيمة الجمالية لجسده.
3 أن حفاظ الإنسان على إنسيته، رهين بحفاظه على ذلك التناقض.
أبرز مظاهر هذا التناقض، أن عورة الإنسان، هي أكبر نقطة ضعف فيه. و أن إلتزامه الأخلاقي يفرض عليه سترها. و أن الكشفف عنها يُحدِث أقوى صدمة بصرية ونفسية، لأنه كائن يحظى بالمكانة الأسمى بين كل الكائنات.
و عندما نتأمل دخول المكون الجمالي للأخلاق في علاقة الإنسان بجسده، نجد أن أقبح ما يمكن أن تراه العين البشرية هي عورة الإنسان (الجسد العاري).
و يُحدِث نفس القدر من الصدمة عند مشاهدة الجسد المصاب إصابة بليغة، أو إذا بُثِر جزء منه. و بهذا نفهم لماذا تمتنع مجالات التواصل الجماهيري بالصورة، عن عرضها على المشاهد. وحتى المقاييس التي تعتمدها بعض المواقع الإلكترونية كالفيسبوك و اليوتيوب، تتحدد حسب الثقافة التي أنشئت فيها.
و تبقى الحالة التي يبرر فيها مشاهدة عورة الجسد، هو عند الاستسلام الغريزي لصور الجسد العاري (الصورة الإباحية).
بناء على هذه الملاحظات، نصل إلى الملاحظة التي تظهر قمة ذلك التناقض، و هي أن استمرار البشرية يتحقق بالأماكن التي لا يقبل الإنسان أن يكشفها (عورة الجسد)، و تسمى في القرآن السوءة (الأماكن السيئة)، و بهذه الأماكن تتحقق وجودية الإنسان. و من جهة أخرى، توجد فيها أكبر لذة يستمتع بها الإنسان.

السينما. التعبير. الجسد.

السؤال المطلوب كمنطلق للفهم هو: هل يجب أن تفرض هذه الملاحظات على التعبير السينمائي أن يمتثل لها و لقيودها؟
للإجابة على هذا السؤال، يجب الإقرار بأن السينما ممارسة تعبيرية تستمد مواضيعها من الواقع، لكنها تستعين بنقيض الواقع.. بالخيال. حتى تتم صياغة الفيلم وفق مقاييس جمالية، إذ لا يجب بأي حال من الأحوال، أن يأخذ التعبير السينمائي الحرية المطلقة في نقل الواقع كما هو الى الشاشة، لأنه بذلك، سيحول السينما الواقعية إلى سينما الواقع، وسيدخلها في أزمة إبداع،و هذه من الملاحظات التي تسجل على العديد من الأفلام ليس فقط المغربية، بل على سينما دول الجنوب كافة.

الجسد في الحضارة الغربية الحديثة

أهم الركائز التي نهضت عليها الحضارة الغربية الحديثة، هي الحرية. و كانت الحرية، الشعار الأول من شعارات الثورة الفرنسية: الحرية و المساواة و الإخاء. كانت هناك مجموعة ثورات قادت البلدان الغربية إلى إنشاء حضارتها الحديثة. و منها الثورة الصناعية في إنجلترا مثلا، لكن تبقى الثورة الفرنسية هي القاطرة الأبرز التي قادت الغرب إلى تكسير القيود التي كانت تكبل العقل في تلك المجتمعات.
و المعلوم أن الذي يقود الإنسان إلى بناء الحضارة، هو العقل. لكن الحرية التي رفعتها الحضارة الغربية الحديثة كشعار، كانت حرية مفتوحة على عواهنها.
ففي الغرب لديك كل الحرية في نفسك، و في جسدك، ما دمت لا تؤذي أحدا من حولك أذى ماديا ملموسا،لكن متى كانت العلاقة بين الناس، فقط مادية ملموسة؟ أليست هناك علاقة حسية و نفسية (غير مباشرة)؟ ألا يمكن أن أوذيك أذى نفسيا شديدا، بكيفية غير مادية، و غير مباشرة أو ملموسة؟
هذه الحرية المفتوحة على عواهنها، أوصلت علاقة الإنسان بجسده إلى مستويات يتحول فيها الإنسان إلى حيوان، و أحيانا إلى أكثر من الحيوان.
و من الظواهر المدمرة للقيمة الإنسانية التي أفرزتها حرية الجسد في الغرب مثلا، ظاهرة مبدأ العري. حيث تذهب عائلات إلى أماكن مخصصة للعراة، و يتعرى الجميع، بمن فيهم الوالدان أمام أولادهم. و المتأمل لمشهدهم، لا يجد الفرق بينهم وبين الحيوانات.
المبدأ الذي تأسست عليه هذه الظاهرة، هي أن الإنسان يجب أن يظهر (أمام الناس) طبيعيا كما خلق،و بالتالي، ليس مفروضا عليه ستر عورته. وتسمى بالفرنسية: التطبيعيين les naturistes و هذه الظاهرة في النهاية،. جاءت هذه الظاهرة كمحاولة لإلغاء ذلك التناقض الذي ركب به الجسد الإنساني. لكن بما أن أصحابها ينعزلون في أماكن مخصصة لهم و يحيط بها سياج، و يمنع الدخول إليها، فإنها تبقى محاولة فاشلة في إلغاء التناقض. لأن مادام مبدأهم و إعتقادهم صحيحا، حسب منطقهم، فلماذا ينعزلون في أماكن مخصصة، و يمنع الدخول إليها؟
في الغرب، تصل حرية الجسد إلى ما هو أكثر من ذلك غرابة من ممارسات لا يمكن أن يقبلها حتى العقل، و بالأحرى الذوق، و تذهب إلى قمة البشاعة و التقزز. بحيث تبقى الممارسات الجنسية الحيوانية أرحم منها بالجسد. لن نتحدث هنا فقط عن تكديس الإنترنت بفيديوهات لممارسات الاستسلام البشري لغرائزه، و التي تبرر بتلبية رغبات غريزية مكبوتة لمستهلكي هذه الفيديوهات. بل نتحدث عن الممارسات السادية و المازوشية و التلذذ بتعذيب الأجساد، إلى تبول البعض على الآخر… الخ ، و هنا يكمن الاستغراب. بل يتجاوزه ليصل إلى ما هو أكثر من ذلك… وكل ذلك و غيره يجد تبريره في مبدإ حرية الفرد و حرية الجسد.
و لو افترضنا أننا سألنا الرأي العام الغربي عن شعوره نحو الإباحية التي تسمح بها القوانين هناك، فإما أن يعترف بأن ذلك مدمر للذوق و للقيمة الجمالية للجسد. و إما أن يبرر ذلك بأن في الحرية جانب سلبي، كما أن فيها الجانب الإيجابي.

الجسد في السينما

انطلقت السينما في بدايتها – على العموم – من البلدان الغربية. خاصة فرنسا و الولايات المتحدة الأمريكية. و كان لخصوصيتها كفن و صناعة، سهولة الانتشار، والقدرة على النشر الواسع للثقافة الغربية. و التي تحولت إلى هيمنة مهولة للأفلام الغربية على عموم الجمهور في العالم.
و أصبح خطاب السينما الغربية مهيمنا في العالم بشكل شبه كلي. و أصبحت الرؤى الجمالية الغربية للجسد في التعبير السينمائي هي السائدة في العالم، و أصبح لهذا التيار من القوة، ما يمكنه من تجريف تلك العقليات الإبداعية السينمائية التي لا تستطيع تحديد خصوصياتها، و يحاول هذا التيار إزاحة أي خطاب يمكن أن تنطق به أية سينما مغايرة، و هذا يعطي الإحساس لدى الكثيرين على أنه أمر واقع لا مفر من الانصياع و الخضوع له. إلى درجة يصعب فيها تناول جمالية الجسد في السينما الغربية بالنقد، من منطلق مغربي مستقل. إذ يصبح كسباحة ضد التيار.
والملاحظ أن التعبير السينمائي عن الجسد في العديد من أفلامنا المغربية تتطابق رؤاها مع الأفلام الغربية، و أحيانا بشكل مدرسي مرتبك.
و يعتبر صناع تلك الأفلام المغربية، أن انتقاد أفلامهم، إما رجعي أو متخلف أو متزمت. رغم الصدامات التي تحدثها أفلامهم مع الذوق العام، و رغم ما تفجره من ضجات. و تبدو صورتنا في هذا المشهد، في شكل تلميذ يتلقى دروسا من أستاذه، حول (الكيفية الحضارية المثلى) للتعامل مع الجسد بالكاميرا.

الجسد
في السينما الغربية

تفصل السينما الغربية بين الصور الإباحية وغيرها، بمقاييس تحددها ثقافتها، على أنها مقاييس موضوعية.
و يبدو أن هناك خطا فاصلا يعتبر مقياسا للفرز بين ما هو إباحي و غير إباحي، و بما أنها مبنية على أساس الحرية، إلا أنها حرية من منظورها الخاص، و تخلق بذلك مناخا إنتاجيا له مقاييسه الخاصة في جمالية الجسد، و تحاول عولمته ما أمكن.
و بناء عليه، فإن من الواجب – حسب ذلك المنظور – احترام الأفلام الإباحية. و يفرض هذا الاحترام تخصيص حيز لتلك الأفلام، في كل مجالات العرض: قاعات، مهرجانات، قنوات تلفزيونية، مواقع الإنترنت…
هذا المنظور الخاص في تعامل الكاميرا مع الجسد، أفرز العديد من المخرجين الذين رغم أنهم دفعوا به إلى الأمام، إلا أنهم احترموا تلك المقاييس. لكن بما أن تلك الثقافة تعطي للكاميرا الحرية المطلقة في التعامل مع الجسد، فإن من الطبيعي و المتوقع أن يأتي مخرج كالدانماركي «لارس فون تراير» و يخترق تلك المقاييس و يصور العديد من المشاهد الإباحية في فيلم لا يعتبر إباحيا حسب ذلك المنظور، و تلك المقاييس، و هو فيلم شبق nymphomaniac. مما أربك الحسابات و التصنيفات.. هل يعد الفيلم إباحيا أم لا؟
رغم كل هذا – و بالمقابل – يمكن أن نسجل أن هناك أصواتا في الغرب، تتبنى رؤى جمالية حول الجسد، من منظور مغاير لما هو سائد هناك، و مخالف لتلك المقاييس، و أذكر مثلا في فيلم وثائقي على قناة أرتي الفرنسية الألمانية، أن ممثلة أمريكية تحدثت عن رفضها خلع ملابسها الداخلية في مشهد من فيلم للمخرج سيدني لوميت، و أن الممثلة الفرنسية كاترين دونوف أيضا، و على نفس القناة، تحدثت عن رفضها الظهور عارية في فيلم للمخرج الإسباني لويس بونويل.
و يبقى في نظري، أن من أهم هذه الأصوات، فيلم (ذهان) psychos للمخرج ألفريد هيتشكوك. و تكمن هذه الرؤيا، في إدراكه – بحسه الجمالي الثاقب – بأن الممثلة جانيت لي، لو ظهرت عارية في مشهد الحمام، لدمر الفيلم و أسقط قيمته الجمالية و التعبيرية. و لما تبوأ تلك المكانة كواحد من أهم الروائع في تاريخ السينما العالمية.
و في سياق الحديث عن الروائع السينمائية، يمكن أن نسأل: لماذا لا تحتوي أهم الروائع السينمائية العالمية على مشاهد الأجساد العارية، كفيلم مولد أمة، و المدرعة بوتمكين، و المواطن كين، و سارق الدراجة، و غيرهم؟ وإذا شئنا أن نعمق السؤال في الموضوع أكثر، لنسأل مثلا: لماذا لا يظهر كبار نجوم السينما بأجسادهم العارية؟ قد نجد حالات استثنائية كمارلون براندو في فيلم التانغو الأخير في باريس. أو ألان دولون في فيلم السيد كلين. لكن السؤال يجب أن يطرح على القاعدة العامة: لماذا لا نشاهد الأغلبية الساحقة للنجوم الغربيين الكبار في نفس المشاهد، ك غاري كوبر و كلارك غيبل و دجون واين و مارلون براندو و روبرت دونيرو و كلينت إيستوود و هنري فوندا و روبرت ريدفورد و شون كونري و بول نيومان و غيرهم؟ و لو افترضنا شاهدناهم عراة على الشاشة، هل سنحتفظ بهم في أذهاننا كنجوم لامعين؟ و بالمقابل، لماذا لا نشاهد في هذه المشاهد، إلا الممثلين الثانويين؟ ثم لماذا يستعين المخرجون بممثلين و ممثلات كبدائل للممثلين و الممثلات الحقيقيين عند تصوير لقطات جنس أو عري؟

السينما المغربية. الكاميرا
و آلام الجسد المغربي

هناك طموحات تحرك السينما المغربية، و هناك نهضة تعيشها، لكن هناك أيضا صعوبة أساسية تواجهها، و هي أنها تخاطب من موقع الضعف.
و هذا يفرض على السينمائي المغربي مواجهة تحد ثقافي، يؤثر و يشوش بشكل كبير على رؤيته الجمالية. و يعمل على زحزحتها عن خصوصياتها الثقافية.
التحدي الذي يواجهه السينمائي المغربي، يبقى مستترا يصعب تحديده بدقة، و لكن يمكن وصفه بالتحرر من تبعية الذوق في الإبداع السينمائي.
و التحرر هنا يكمن في القدرة على إثبات الاستقلال الذاتي للسينمائي المغربي، في صياغة الخطاب السينمائي عند صناعة الفيلم.
و ما دام هذا التحدي مستترا، فلا غرابة أن تصطدم العديد من الأفلام مع الذوق العام، و عندما يتعلق الأمر بالجسد، لما له من رمزية أخلاقية و قيمية (الشرف)، فلا غرابة أن يذهب رد الفعل، إلى حد الاعتداء الجسدي. كما وقع مثلا لممثلة فيلم (الزين لي فيك) لبنى أبيدار.
و بما أن العقل الجمعي لا يفكر، فإن الذوق الجمعي لا يمكن رفض حكمه. لا يمكن أخذ الحق المدني للبنى أبيدار، عندما تعرضت للاعتداء الجسدي. و عندما يضحي المشاهد بوقته لمشاهدة فيلم ما، و يتنقل من منزله، و يدفع ثمن التذكرة، و ينسحب من القاعة ويترك الفيلم دون أن يكمله، فإن ردة الفعل تلك، تحمل دلالة قوية في عنفها،و يمكن اعتبارها صفعة في وجه صاحب الفيلم.
تظهر تبعية الذوق في الإبداع السينمائي، في موضوع جمالية الجسد، عند السينمائي المغربي الذي يعجز عن معرفة المحددات التي تمليها ثقافته في التعامل مع الجسد، بالكيفية التي تحافظ على قيمته الجمالية، في بعدها الرمزي، و يخضع بالتالي – عن غير وعي – للمحددات التي تدخل فيها الحرية المطلقة للفرد و الجسد، لتزيل ذلك التناقض الذي يحافظ على قيمته. و ما تلك الضجات التي تثيرها بعض الأفلام، إلا إنعكاس لجهل مخرجي تلك الأفلام لتلك المحددات.
في برنامج حواري، سألت الصحفية فاطمة الإفريقي، الممثلة سعاد صابر عن المشهد الجريء الذي يظهر فيه الممثل إدريس الروخ، في فيلم كازانيگرا. فأجابت بلباقة و لطف بالغين: «أتمنى من المشاهد أن يعذر الممثل المغربي لأنه يضطر لقبول تصوير تلك المشاهد، بسبب حاجته الماسة للقمة العيش….». و في إجابة الممثلة لبنى أبيضار عن دورها في فيلم الزين لي فيك، قالت بأن المخرج نبيل عيوش، خانها و خالف وعده لها بأن لا يعرض بعض اللقطات.
جواب سعاد صابر و لبنى أبيضار، و غيرهما الكثير، يفتح الباب على عالم الكواليس القاتم والقاسي، الذي تصور فيها تلك المشاهد.. ذلك العالم الذي سبب الألم الفظيع للممثل المغربي في جسده، و صدم المشاهد في تذوقه الجمالي على حد سواء.


الكاتب : محمد الحجلي

  

بتاريخ : 29/04/2025