كيف دبرت العدالة الانتقالية « مقاربة النوع الاجتماعي؟ الصديق كبوري يرصد مظاهر «العنف السياسي ضد النساء خلال سنوات الرصاص»

برزت في السنوات الأخيرة، الحاجة الملحّة إلى حفظ الذاكرة الجماعية كأحد المطالب الكونية الأساسية، سيما ما شهدته فترات الماضي من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، هذا الواقع المؤلم الذي دفع بالباحثين إلى استرجاع الماضي والتعامل مع جراحاته، كوسيلة لضمان عدم تكرار تلك الانتهاكات مستقبلا، وهو ما أصبح محط اهتمام الحقوقيين والإعلاميين والفاعلين في مختلف أنحاء العالم، ومنها المغرب، حيث شكّل موضوع الذاكرة الجماعية أساساً لمشاريع متعددة تسعى إلى توثيق الماضي وتثمين الأرشيف.
وفي السياق المغربي، عُدّت «سنوات الرصاص» إحدى أكثر الفترات المظلمة التي ألهمت عدداً من الأعمال الأدبية والفنية، من خلال الأبحاث والبحوث، الروايات والسير الذاتية، الشعر والسينما والمسرح، و»أدب السجون»، حيث حاول الكتّاب والفنانون تقديم رؤى عميقة لهذه الحقبة، مبرزين آثارها العميقة على الأفراد والمجتمع، كما أُنجزت دراسات متخصصة تناولت العدالة الانتقالية من زوايا متعددة، مثل الحقيقة، جبر الضرر، وضمانات عدم التكرار، مع التشديد على ضرورة تحقيق المساءلة وضمان عدم الإفلات من العقاب.
وقد تميزت هذه الجهود بالتركيز على الانتهاكات التي استهدفت النساء، حيث كُشفت عن أشكال العنف الجسدي والنفسي والجنساني الذي تعرضن له، وما خلفه من آثار جسدية ونفسية واقتصادية واجتماعية، كما برزت معاناة النساء من تجاهل التاريخ الرسمي لضحايا العنف السياسي، وهو ما جعل الحاجة إلى كتابة تاريخ منصف وشامل أولويةً ملحّة، لا سيما من خلال الشهادات الشفوية التي تلقي الضوء على المسكوت عنه، وقد جاءت تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة لتُبرز صوت النساء من خلال جلسات الاستماع للنساء الضحايا.
في إطار المبادرات البحثية لحفظ الذاكرة الجماعية وتعزيز العدالة الانتقالية، انضم إلى المكتبة المغربية إصدار مهم للدكتور الصديق كبوري، تحت عنوان: «العنف السياسي ضد النساء: الانتهاكات الجسيمة لحقوق النساء بالمغرب خلال سنوات الرصاص»، يقدم مقاربة متعمقة لموضوع ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وأثرها العميق على النساء، ويتضمن الكتاب فهرسا شاملاً يبرز مكونات البحث ومناهجه وأهدافه، بدءًا من تقديم عام ومقدمة حول دوافع اختيار الموضوع والإشكاليات والأسئلة والصعوبات المرتبطة به.
كما يركز الكتاب على مفاهيم أساسية، مثل العدالة الانتقالية والانتهاكات الجسيمة و»سنوات الرصاص»، مع إفراد مساحة خاصة لمقاربة النوع الاجتماعي،واستعراض الأدوات والمناهج البحثية المعتمدة، من مقابلات وشهادات وسير ذاتية، لتقديم رؤية توثيقية شاملة، مع معالجة موضوع الانتهاكات الجسيمة التي تعرضت لها النساء، بدءً من هوية الضحايا ومبررات استهدافهن، إلى آثار العنف الجسدي والنفسي والجنسي،والأضرار الاقتصادية والاجتماعية والإدارية التي لحقت بهنوبقيت عالقة بين جدلية النسيان والنبش.
وإلى جانب تناوله لبعض التجارب الدولية، ناقش الكتاب تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة المغربية، مبرزا تمثيلية النساء في هذا الإطار، وجلسات الاستماع والتعويضات التي خصصت للضحايا، لكنه لم يغفل عن النقد الموجه لهذه التجربة، سواء من الضحايا أو منظمات حقوقية، حيث أُثيرت قضايا تتعلق بغياب المساءلة الكاملة، ومن خلال استعراضه الأدوار التي لعبتها النساء في مقاومة العنف، سجل الكتاب ولادة حركات حقوقية ونسائية،ومن عائلات المعتقلين والمختطفين ومجهولي المصير، ودور ذلك في النضال من أجل الحقيقة والعدالة.
وعلاوة على تقديمه رؤية نقدية لمساهمة الجمعيات الحقوقية في تقييم عمل هيئة الإنصاف والمصالحة، وتركيزه على ضرورة تحقيق المصالحة الحقيقية وضمان عدم تكرار الانتهاكات، وسبل إنصاف النساء الضحايا، اختار الكاتب اختتام بحثه بتوصيات تسعى إلى بناء مستقبل قائم على المساءلة، المساواة، والإنصاف، جبر الضرر، مع إبراز الحاجة لكتابة تاريخ العنف السياسي ضد النساء من باب توثيقه بشكل منصف للضحايا، فضلا عن تسليط الضوء على التجاهل الرسمي لمعاناة هؤلاء النساء ودورهن في التصدي لما تعرضن له من انتهاكات وويلات.
الكتاب الذي يحتوي على 280 صفحة مقسمة لسبعة فصول، تم تقديمه من طرف أستاذ العلوم السياسية وحقوق الإنسان بجامعة محمدالأول بوجدة، ذ.محمد سعدي،ومقدمته غنية جدا بالمعطيات التاريخية، انطلاقا مما شهده المغرب خلال الفترة الزمنية ما بين 1956 وبداية التسعينيات،والسنوات العصيبة التي يطلق عليها في التداول السياسي والحقوقي والإعلامي نعت «سنوات الرصاص»، إلى جانب»تطورات الخلاف بين النظام السياسي والمعارضة،والعنف السياسي الذي مارسته الدولة وكان في نظرها إجراء وقائيا لضمان الاستمرارية».
كما تناولت مقدمة الكتاب «مرحلة العنف الدموي» التي تجسدت في حدوث الكثير من الاختطافات والاعتقالات التعسفية، والاغتيالات السياسية، ونشوب العديد من القلاقل والانتفاضات الاجتماعية، والحركات السياسية المسلحة، والتي طالت في شموليتها كل المناطق والفئات، و»كان نصيب النساء وافرا خاصة في المناطق التي عرفت صراعات مسلحة مثل خنيفرة وإملشيل وفجيج ومنطقة الريف وأزيلال ومولاي بوعزة والصحراء المغربية وغيرها»، فقد تعرضن للاعتقال التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب والعنف الجنسي.
ولم يفت المقدمة التركيز على معاناة النساء مع العنف السياسي الذي مارسته الدولة، حيث «بعضهن أصبن بعاهات مستديمة لازمتهن مدى الحياة، ومنهن من ترملن وهن في ريعان الشباب، ومن حرمن من فرص الزواج والأمومة، ومنهن من حرمن من متابعة الدراسة واعترضتهن عدة صعوبات لضمان دخل قار يضمن كرامتهن، ومنهن من حرمن من أبسط الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تضمنها لهن القوانين الوطنية والمواثيق الدولية، ومنهن من فرض عليهن النفي والابتعاد عن الوطن».
ومن خلال ما لوحظ خلال مطلع تسعينيات القرن الماضي من تحولات سياسية، والتي توجت بتنصيب حكومة التناوب التوافقي سنة 1998 برئاسة المعارض السابق عبدالرحمن اليوسفي، تحدثت المقدمة عن»تميز الفترة بتأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسانوهيئة التحكيم المستقلة لتعويض ضحايا الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري،وإلغاء ظهير 1935 المعروف بظهير كل ما من شأنه، مع التصديق على عدة مواثيق دولية لحقوق الإنسان واستفادة العديد من المعتقلين السياسيين والسماح بعودة المنفـيين لأسباب سياسية إلى أرض الوطن» الخ.
وتطرقت المقدمة بالتالي لفترة تدشين مسلسل العدالة الانتقالية المغربية، ومدى»تحفيزها للحركة الحقوقية من أجل التحرك والفعل، بغاية المطالبة بكشف الحقيقة حول ما وقع بخصوص الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال سنوات الرصاص»، و»ضرورة اعتراف الدولة بمسؤوليتها المادية والأخلاقية عن ذلك وتقديم اعتذار رسمي وعلني»، مع «رد الاعتبار للمجتمع، وحفظ الذاكرة حتى لا يتكرر ما جرى، مقابل إنصاف جميع فئات الضحايا والمناطق المتضررة من خلال جبر الضرر الفردي والجماعي والتعويض المادي والمعنوي».
وحرصت الدراسة على المزج بين الجانب النظري والعملي، مما أتاح تناول الموضوع بأسلوب شامل، فيما شكلت المقابلات جزءًا رئيسيا من عملية البحث، حيث تم إجراء مقابلات مباشرة وإلكترونية باستخدام استبيانات، تضمنت أسئلة متنوعة وهدفت إلى جمع معلومات دقيقة حول الضحايا، مع تقديم تحليل عميق لحياتهم وتجاربهم من خلال منهجية السيرة الذاتية، وقد شملت المقابلات نساء من مناطق نائية ومعروفة بارتباطها بانتهاكات حقوق الإنسان، مثل إملشيل، أزيلال، خنيفرة، مولاي بوعزة، الريف، فجيج، والعيون.
مؤلف الكتاب، الدكتور الصديق كبوري، مهتم بالعدالة الانتقالية وحقوق الإنسان، حاصل على شهادة الدكتوراه في القانون العام (مختبر الدراسات والأبحاث في حقوق الإنسان والديمقراطية)،وماستر في القانون العام الداخلي وإنتاج القواعد القانونية،وإجازة في القانون العام من جامعة محمد الأول بوجدة،وإجازة في الفلسفة العامة من جامعة محمد بنعبد الله بفاس،صدرت له عدة مقالات في مجلات ودورية بالمغرب والخارج، ويرتقب أن يصدر له كتاب تحت عنوان: «ضمانات المحاكمة العادلة بالمغرب بين التشريع والقضاء».


الكاتب : أحمد بيضي

  

بتاريخ : 16/01/2025