من يكون ذلك الفتى المشاكس، الهائم رفقة “الكنبري” وأصدقائه “الهيبيين” في غابات الديابات؟ المتيم حبا في فن كناوة حد الجنون؟ كيف تحدى عمالقة هذا النمط الغنائي الذين أحاطوا موسيقاهم بسياج شائك من التقاليد والأعراف العصية على الكسر، وتربع، بكل جدارة، على عرش هذه الموسيقى المتميزة المسافرة إلى الصويرة على متن صدور ملايين الأفارقة المنتزعين قصرا من جذورهم…؟ إنه عبد الرحمن باكو، المْعلم الكناوي ذو البشرة البيضاء الذي فرد جناحيه في سماء “تاكناويت” كصقر فخور، منتزعا بموهبته الفذة إعجاب أعتى المْعلمية الكناويين، بل إن براعته في العزف على آلة “الكنبري” أسقطت في شباك هواها أشهر العازفين العالميين…
في هذه الورقة سنسافر في رحلة قصيرة إلى ذلك الزمن البعيد القريب لنسلط الضوء على بدايات باكو في عالم كناوة وتحدياته وانتصاراته، ولمَ لا نرافق هذه الرحلة بعزف متخيل لأنامله الساحرة وهي تضرب على أوتار القلب و”الكنبري” معا، حين فتت باكو، بفضل عزيمته ومهارته الفائقة في العزف، صخرة تقاليد موسيقية صعبة الاختراق…
شروط الانتماء إلى مشيخة “تاكناويت” ودور المرأة و”الجذاب” في الطقوس “الكناوية”
لم يكن من الممكن، قبل السبعينيات، أن يحظى أي صاحب بشرة بيضاء بشرف حمل لقب “معلم كناوي”، بل حتى أصحاب البشرة السمراء ما كانوا ليحظوا، بكل سهولة و يسر، بهذا الشرف، ذلك أن “تاكناويت” كانت تتوارث بين عائلات معينة من أصول تعود لجنوب الصحراء، وهذه العائلات هي من تمتحن كل من أراد أن يدخل عالمها، الذي يتطلب شروطا عديدة ومعرفة دقيقة بطقوس “الليلات الكناوية” والتعامل مع الأرواح في اعتقاد الطائفة الكناوية، وسط هذه العائلات غالبا ما يكون رب الأسرة هو “لمْعلم الكناوي” والأم هي “لمْقدمة”، وهنا تجب الإشارة إلى أن”لمْقدمة” عنصر أساسي جدا في الليلة، فهي من تشرف على الطقوس وتعد البخور المناسب، وهي المرافق الأساسي للمريض أو الشخص المحتاج للجذبة لطرد الأرواح التي تتراقص بين أضلاعه وتسكن مفاصله، وهي من تحضر الأثواب الملونة المطلوبة، وتشرف على الطبخ الواجب في تلك الليلة، والذي من المحبذ أن يكون خاليا من الملح، أكثر من هذا فهي من تحدد إن كان ” المريض ” في حاجة إلى جذبة أم لا، أي أنها المشخص والمقرر لإقامة الليلة، بمعنى أن بدونها لن يرى أحد هذه الطقوس، لكن الغريب أن مهرجان “كناوة” وباقي المهرجانات التي يكون موضوعها “تاكناويت”، يتم التركيز فيها على “لمْعلم” أكثر من العناصر الأخرى، لذلك لم نر أي تكريم لأي “مْقدمة”، رغم أن المرأة عنصر فعال منذ القدم في عالم الجذبة هذا، ولكن يتم التغافل عن هذا الأمر، لا أدري إن كان ذلك مقصودا أو أن المنظمين تنقصهم الدراية الكاملة بهذا العالم، وهم بذلك يقدمون لجمهورهم بعضا من المعرفة عن هذا الموروث وليس المعرفة برمتها .
الأبناء داخل هذه الأسر هم مشروع “معلمية”، وقد لا يصلون إلى هذا المستوى لأن صفة” تامعلميت” تمنح من الأب، وهو القادر على معرفة من سيمكنه أن يحظى بهذا المقام من أبنائه، ولكنهم عموما يكونون على دراية بالطقوس، وينقرون الإيقاع على الطبل و”القراقب” إلى جانب أبناء القبيلة، لأن الأسرة غالبا ما يكون لها امتداد قبلي، وبالرجوع إلى منح صفة “معلم” إن خاب فيها الأبناء فقد يحظى بها واحد من أبناء القبيلة إن أبدى المهارات المطلوبة، لأن الأهم هو ألا تخرج المشيخة من ذات القبيلة .
من العناصر الأساسية في طقوس “تاكناويت” إلى جانب “لمقدمة”، هناك الجذاب، وهو رجل يجيد الرقص مع كل الألوان التي ترمز لـ”مْلوك” الأرواح، فقبل الحضرة المجهزة ” للمريض ” يرافق عزف “لمعلم” رقصا، وهو المرافق خلال الحضرة للمعني بالليلة في جذبته، وكأنه يوجهه ويراقبه ويساعده على طرد الأرواح من جسده، كلما “شخدت” الحضرة وبلغت مستويات أصعب .
الجذاب بدوره كما “لمقدمة” ، مغيب من برامج من يشرفون على تنظيم مهرجانات كناوة، إذ لا يحظى بمحاضرات تتحدث عن دوره ولا يتم تكريمه كما هو حال “لمعلمين”، رغم أن دوره خطير وهو من الركائز الأساسية التي تقوم عليها الليلة “الكناوية”، وهذه الجذبة أيضا تورث ولا يدخلها إلا ضليع في طقوس التماهي مع الأرواح المخفية .
مدينة الرياح.. تاريخ طويل في تجارة العبيد وأول موطن لـ”تكناويت”
نسافر مع الأستاذ جمال الدين الصالحي، المهتم بالتراث المغربي والتراث الكناوي، على الخصوص، إلى مدينة الصويرة، حيث كان أستاذنا هو الشاهد الرئيسي على أول “امتحان” لفنان ناس الغيوان عبدالرحمان باكو، لولوج عالم “تاكناويت” والوصول إلى مرتبة ” معلم ” المستعصية على كل من له بشرة بيضاء، وكان من شبه المستحيل أن يحظى أي واحد بها .
يسوقنا الصالحي إلى قرون خلت نبشا في التاريخ، ليوضح لنا كيف استقرت “تاكناويت” في مدينة الرياح، حيث يوضح بأنه من المعروف أن العالم مر بمراحل سوداء تُخجل الإنسانية اليوم، ومنها أساسا تجارة الرقيق، وما بين القرنين السابع عشر والثامن عشر كانت مناطقنا الجنوبية تضم مجموعة من النقط تعد ممرا لتجارة العبيد، منها تافراوت وتارودانت ووارزازات ودمنات، وكان المتاجرون في العبيد الذين كان ضمنهم حتى النساء والأطفال، يضعونهم في سفوح جبال هذه المناطق في انتظار ترحيلهم إلى أمريكا ودول من أوربا، هنا سيظهر اسم مدينة الصويرة كممر بحري للدول التي هي في حاجة إلى هذه الفئة للعمل في ميدان الفلاحة والبناء، أو إجمالا القيام بالأعمال الشاقة، التي تحتاج إلى قوة بدنية، ولتنقيلهم إلى تلك الدول أصبح لزاما أن يقتادوا إلى جزيرة “موكادور” بالصويرة، ليمكثوا هناك حوالي أربعين يوما، ثم يتم تقييدهم بالسلاسل من الأعناق والأرجل ونقلهم إلى الميناء، ومن هناك إلى القارات الأخرى حيث يعملون في مجال إصلاح الأراضي والإعمار في تلك البلدان، خاصة في الأمريكيتين، لقد كانوا يعملون طوال اليوم، وفي ظلام الليل لا يجدون ما يعبرون به عن معاناتهم و قسوة عيشهم والظلم الذي يتعرضون له سوى بالغناء والأنغام التي أعطتنا اليوم الجاز والسامبا والرامبا وغيرها …
ويؤكد الأستاذ الصالحي أن العبيد الذين كانوا ينقلون إلى خارج المغرب، يتمتعون بصحة جيدة وقوة بدنية هائلة، ومعظمهم من الشباب أو في بداية الكهولة، لكن من هم كبار في السن أو يعانون من ضعف صحي فيمكثون بالمغرب، وكانوا يتفرقون، غالبا، على مدن الجنوب، كمراكش ووارزازات وتارودانت وغيرها، من هؤلاء، وأغلبهم من صحراء الجنوب، ستتكون الطائفة الكناوية، وهم من سيغنون تراثنا الذي أصبح اليوم عالميا وفنا يتغنى به الجميع .
نشأة تاكناويت: عائلتان لا ثالث لهما
يعود بنا الأستاذ الصالحي، بعد هذه الإطلالة على المسار الذي كان يمر منه العبيد، إلى مدينة الصويرة، ليشرح لنا كيف تأسست الطائفة الكناوية هناك، وهي الطائفة التي كانت مكونة من ذوي البشرة السمراء فقط، حيث كانت عائلتان هما من تتربعان على عرش هذه الطائفة، وهما من أسسها، ويعود إليهما الفضل في إشعاع هذا الموروث الثقافي والمحافظة عليه، وكانتا صارمتان جدا في شروط ولوج الطائفة حتى مع ذويهما. العائلة الأولى هي عائلة “لكباني”، المعروفون بالسوداني، يقودها لمعلم حجوب لكباني المعروف، هو أيضا، بالسوداني، وهو رب العائلة وله حظوة كبيرة وسط قبيلته، في عمله وسط “الليلات الكناوية” كان يعتمد أساسا على زوجته كمقدمة، وتكون للمقدمة مكانة خاصة وهي من تتحكم في ليلة الحضرة وتقوم بتهيئتها من ألفها إلى يائها، ثم الأبناء وأبناء القبيلة الذين يعزفون الإيقاع سواء على آلة الطبل أو “القراقب”، عادة تورث “تامعلميت” إلى الابن الأكبر، لكن إن لم ينجح فإنها تمر إلى الابن الذي بعده، وإن لم ينجح أبناء لمعلم، فإنها تمر إلى أحد أبناء القبيلة إن أظهر المهارات المطلوبة، وأثبت أنه يتحمل عبء العزف على نغمات جميع “لمْلوك” خلال ليلة الحضرة دون أدنى خطأ، ويوضح جمال الدين الصالحي، الكيفية المعتمدة لينال الأبناء صفة ” معلم “، فالأب يكون هو الحكم الأكبر، وهو من سيشهد لابنه إن كان يستحق هذه المسؤولية أم لا، حيث يتم تنظيم ليلة كناوية، ويمد ابنه “بالكنبري”، ويطلب منه ” فتح الرحبة ” ويبدأ الابن العزف ثم يدخل عالم ” لمْلوك”، مع الأب يتم استدعاء “معلمية” آخرين أولا من أجل أن يشهدوا بأن الابن قد نجح وتمكن من تحمل تفاصيل مجاراة كل الطقوس المطلوبة خلال الحضرة، ومن جهة ثانية للمساعدة في العزف والتدخل إن أخطأ الابن في عزفه، لأن الخطأ في العزف خلال الحضرة قد يجعل المريض “الذي يجدب” ضحية للأرواح التي من الممكن أن تؤذيه، أو أن يقوم بحماقة ما قد تصل حد الموت .
العائلة الثانية التي تعد من أرقى العائلات التي يعود لها الفضل في الحفاظ على هذا الموروث، هي عائلة ” كينيا ” ، المنتمية لقبيلة تعد إلى جانب قبيلة “لكباني” أول من أتى بهذا الفن إلى الصويرة، وعائلة”كينيا” غنية عن التعريف في هذا المجال، كان لمعلم محمود لا يحتاج إلى أحد من خارج العائلة والقبيلة لإحياء طقوس “كناوة” ، فهي تضم الجذابة ولمقدمة ولقراقبية وناقري الإيقاع وما إلى ذلك وحتى عازفي الكنبري ” السنتير ” .
الانطلاقة نحو ‘تاكناويت’ في ظل تقاليد صارمة
يضيف جمال الدين في سرده، بأن الصويرة ومحيطها الشاسع كانت كلها تتعامل مع العائلتين المذكورتين، لممارسة طقس كناوة، فهم ” معلمية ” لا يشق لهم غبار، ولهم دراية بتفاصيل الحضرة وما يحتاجه من يقصدهم لمواجهة الأرواح التي تسكنه، حسب ما يعتقد، لكن في الجوار وفي صمت، كان هناك طرف ثالث مولع بهذا العالم، ويتعلق الأمر بالمعلم شباظة، هذا الرجل هو من كان يصنع “القراقب” وكانت له صلة وطيدة بالمعلمية، ويعدون زبائنه الأساسيين، رغم أنه يعزف “السنتير” ويفهم في الطقوس الكناوية إلا أن عائقا كان يحول بينه وبين ولوج عالمها بشكل رسمي، والأمر يتعلق بلون بشرته البيضاء، فقد كان من غير المستساغ في تلك الفترة أن يكون “الكناوي” أبيض اللون، ثم إن جذوره العائلية لا تنتمي لأي قبيلة كناوية، لذلك فقد كرس جهده في تعليم الشغوفين بـ”تاكناويت” من بني سحنته وأيضا من ذوي السحنة السمراء، الذين لا يجدون مكانا بين “لمعلمية” المتجذرين، ومن بين الشباب الذين مروا على يديه لمعلم عبد الرحمان قيروش ” باكو ” .
عبد الرحمان باكو أيقونة “تاكناويت” وسط شباب “الهيبي” بمدينة الصويرة
يعتبر الأستاذ الصالحي بأن باكو كان محظوظا جدا، لأنه من جهة عزف في سن صغيرة وصقل أداءه مع لمعلم شباظة، ولكن الحظ الأوفر، سيأتيه من عالم “الهيبي” على عكس أقرانه ممن تتلمذوا على يد شباظة وغيره، فظاهرة الهيبي كما يعلم الجميع، ستعلن عن نفسها مباشرة بعد حرب الفييتنام وكان من زمرتها أساسا الشباب الأمريكي، الذي كان مفروضا عليه التجنيد الإجباري في سن الثامنة عشرة، وخرج من تلك الحرب مفزوعا مصدوما، ليطرح سؤال جدوى الحروب، انضاف إليه الشباب الأوربي الذي أفسدت الحرب العالمية هناءه، ويعرف المتتبعون للظاهرة بأن “الهيبي” نوعان، النوع الأول هو ” هيبي”، والنوع الثاني هو ” يبي” كان ينشط داخل الكليات والجامعات، النوع الأول أطلق الشعر واللحية واختار الإقامة في دول العالم الثالث وبالطبع عدد من المشاهير اعتنقوا الظاهرة، منهم جون بيز وبوب ديلان والبيتلز وغيرهم، “الهيبي” انتشروا في بعض دول آسيا ووصلوا حتى النيبال وجاؤوا إلى إفريقيا وكانت من بين محطاتهم الرئيسية مدينة الصويرة، وبالضبط في منطقة الديابات، كان شعارهم هو الشعار المعروف إن لم نقل الأشهر في العالم : ” السلام والحب ” ، احتجاجا على الحروب وزرع النعرات والفوارق وما إلى ذلك، معظم من قدموا إلى الديابات كانوا من عائلات ميسورة، كانوا يشترون منازل صغيرة من أصحابها ولا يخرجوهم بل كانوا يتركونهم فيها فقط مقابل الأكل والشرب، أي أنهم يطبخون لهم ويقدمون لهم بعض الخدمات البسيطة جدا، يعيشون معم أو بين ظهرانيهم في المجمل، وبالليل يقيمون الحفلات وينشدون الأغاني ويمثلون أو يقرأون الأشعار وغيرها .
الحظ كان إلى جانب باكو كما يرى الصالحي، فهو إلى جانب كونه تتلمذ على يد شباظة، فأبناء الصويرة في تلك الفترة كانوا يتعاطون حرفا معينة، منها الخياطة والدرازة أو النجارة، عبد الرحمان اختار النجارة، ما سهل عليه صنعة السنتير “الماعون ” ، لذلك صنع آلته بيديه، كان يحمل آلته ويعزف مع أقرانه، وبعد ذلك أصبح مطلوبا في الديابات، بعد أن سمع عنه الضيوف القادمون من كل أقطار العالم، ومعلوم أن “الهيبي” كانوا لا يقبلون بمن لم يصل سنه العشرين أن يلتحق بهم، باستثناء عبد الرحمان، فرغم أنه لم يبلغها بعد كان يسمح له بالانضمام، لمهارة عزفه ولاستمتاعهم بنغماته النابعة من عمق الفن الكناوي، العصي عن الولوج، كان لايزال يافعا جميلا ومحبوبا، كان جميع من يعزفون في الديابات يخرجون آلاتهم لمرافقته في العزف، فيما كان هو يعرفهم بـ”تاكناويت” من دون أن يعلم، ولأن للكنبري نغمة خاصة تصل إلى دواخل الجسد فقد كان هو العنصر المهم في الجلسات بين أصدقائه القادمين من الدول الأخرى، وحتى بعيدا عن عالم “الهيبي” كان السياح القادمون لمدينة الصويرة يسألون عنه ولا يسألون عن كناوة الحقيقيين، فقط لأنه كان يتجاوب مع رغباتهم في العزف ولا يفرض الطقوس المفروضة في عالم “تاكناويت”، والتي تتطلب وقتا طويلا في تفاصيل أدائها، في المجمل أصبح الطلب كثيرا على باكو من طرف الأجانب، وحتى من زوار الصويرة من أبناء الوطن ، الأمر الذي أزعج الطائفة الكناوية، فهذا الشاب أصبح منافسا حقيقيا وشعبيته استمدها من خارج أسوار عالمهم ذي الشروط التعجيزية، فـ”تمعلميت” لا ينالها حتى أبناؤهم وإن نالوها فذلك يكون بصعوبة كبيرة .
لمْقدمة حليمة المراكشية تحقق حلم باكو في العبور من هامش”كناوة” إلى قلبها
يستمر جمال الدين الصالحي متحدثا عن الحظ الذي خلق معلم كناوي من بشرة بيضاء، بأن باكو أصبح مطلوبا حتى داخل أسوار مدينة الصويرة، أي ساحة الطائفة الكناوية، وذلك بطريقة عزفه التي لا تعتمد في الغالب على النقر على الجلد، بل على العزف وخلق النغمات، وأيضا بطريقة أدائه الغنائي القوي والمتماهي مع الأنغام، بعد مقاومة شرسة من طرف الطائفة الكناوية للوافد الجديد على عالمها، حيث اعتبر أنه يميع الطقوس الكناوية، ويمارسها خارج الإطار الذي يجب أن تكون فيها، كما جعلها في متناول الغرباء الذين لا تتوفر فيهم شروط ممارستها، عقلية عبد الرحمان الشابة التواقة للانطلاق، لم تكن لتأبه بهذه الملاحظات، فهو ماض في ممارسة عشقه متماهيا مع وقع عزفه على الراغبين في الاستماع، كان يعلم بأن الأبواب لن تنفتح أمامه بسهولة ليصبح “معلم كناوي” ، ولن يشفع له عزفه أو حب الجمهور الذي صنعه بعفوية تامة، بسبب لون بشرته، شأنه شأن معلمه شباظة الذي رغم مكانته لم يفتح أمامه أي بصيص من الأمل، بل إنه يعلم بأن “معلمية” قبله من ذوي السحنة السمراء لفظوا من عالم “تاكناويت” وتحولوا إلى ” كريمية “، ولكريمي هو الكناوي الذي يتجول بآلته، وكم كنا نراهم في فترة السبعينيات والثمانينيات، يجوبون أحياء المغرب ودروبه ونعتبرهم بوهالة أصحاب بركات، ونقدم لهم المأكل والمشرب وحتى المساعدة المالية، معظم هؤلاء لم يستطيعوا أن يلجوا عالم تاكناويت لممارستها على أصولها، لأن لمعلمية الكبار لم يتركوا لهم فرصة لذلك، خاصة وأن الليلة أو الحضرة ، تتطلب مصاريف كما تتطلب أن يكون للمعلم “مقدمة” تشرف على الحضرة بعد أن تحضر المريض لها، كما تتطلب الجذابة والقراقبية وأصحاب الإيقاع، لذلك خرجوا بما تعلموه إلى الشوارع، ويطلق عليهم ل”كريمية” من طرف كناوة الكبار، ونقول : ” تيكرم ” أي أنه يطلب الصدقة، وهذا أمر غير محمود عند الطائفة الكناوية .. كل هذه الأمور كان يعلمها الفتى باكو، ولكنه كان ينتظر فرصته لينتفض على هذا التقليد الذي يقف حجر عثرة أمام شغفه وشغف أقرانه، لذلك يعتبر الصالحي أنه كان محظوظا عندما ولج عالم “الهيبي” وذاع صيته، لكنه سيكون محظوظا أكثر عندما تعرف على لمقدمة حليمة المراكشية، فالمعلم شباظة منحه الصنعة وهذا أقصى ماكان بيده ليقدمه له، لكن لمقدمة حليمة المراكشية ، كانت سيدة معروفة ويلجأ إليها المرضى أو من يعتقدون بأنهم ممسوسون بالأرواح الشريرة، كانت لها مكانة وسط الطائفة الكناوية ومكانة أيضا عند الأسر، كانت تشرف على الحضرة وتهيئ لها بدرب سيدي عبدالسميح داخل سور المدينة، معظم لمعلمية يتوددون لها ويحترمونها، هذه السيدة آمنت بقدرات عبدالرحمان باكو وجذبتها طريقة عزفه، ورغم كونه شابا إلا أنها قررت أن تنظم له الليلة وتأتي بالمعلمية الكبار كي يطبعوا له الاعتراف إن نجح في الليلة التي ستقيمها .
يتذكر الأستاذ الصالحي هذه الليلة رغم أن سنه لم تكن تتجاوز العشر سنوات، كان موضوع قيادة شاب لليلة الحضرة على كل لسان، كان هناك من يراهن على نجاحه وكان هناك من يرى أنه اندفاع حماسي من جانبه، خاصة وأنه أخرج طقوس الليلة الكناوية من داخل الأسوار المعتمة في ما قبل، وجعلها متاحة أمام الأجانب، وبالتالي فإن رافضيه كانوا يعتقدون بأن نزوة الشباب لن تفيده في ليلة لها ضوابط ومخاطر وطقوس محددة، لا يعرف تفاصيلها إلا الراسخون في عالم الأرواح والمسلحون بالبركة لمحاربة الجن.. يسترسل الصالحي الذي ينقل تفاصيل تلك الليلة بعين الطفل المتطلع لنتائج التحدي الذي أصبح موضوع المدينة برمتها، وهو الذي سمع عن معركة الشاب الأبيض مع الطائفة الكناوية التي لم تكن تستسيغ تصرفاته وتعتبرها رعونة وخدش لصورة مكنون تراثي يجب أن يظل وسط الخاصة ولا يتم تعميم تفاصيله على الناس، يوضح الصالحي أنه بدوره كان محظوظا لحضور تلك الليلة، فمعلوم أن الأطفال يمنع عليهم منعا كليا حضور ليلة الحضرة، لكن لمقدمة حليمة لحسن حظه قررت أن تقيمها، هذه المرة، في بيت عمته لشساعته، وهو يوجد في نفس الدرب الذي تقطنه لمقدمة حليمة لمراكشية، لذلك لم يكن بمقدور أحد أن يمنعه.
ليلة انتصار باكو ودخوله “تعلميت” من بابها الواسع
معظم سكان المدينة كانوا ينتظرون ما ستفضي إليه معركة التحدي هاته، أحضرت حليمة، كما أشرنا، عتاة لمعلمية ليشهدوا على هذه الليلة، ويتذكر الصالحي بمشقة أنه كان بينهم لمعلم شباظة ولمعلم حجوب لكباني ولمعلم بوبكر كينيا والد محمود كينيا ولمعلم المهدي قجقل ولمعلم سلام أومسكين (بثلاث نقط فوق الكاف )، ولربما أيضا حضر لمعلم مولاي عبد السلام البلغيتي الركراكي، كما حضر “الجدابة” العتاة سواء من قبيلة كينيا أو من قبيلة لكباني ومعهم القراقبية من كلتا القبيلتين كذلك، وحضر معلمية آخرون، كل يحمل ” ماعونه ” أي آلته في يده (السنتير) ، تحسبا لأي خطأ قد يرتكبه الشاب المغامر الذي سيدخل غمار “تاكناويت” على أصولها، وأي خطأ سيعد بمثابة ” جناية ” لأن المريض أو الممسوس، وهو في خضم الجدبة قد يدخل في غيبوبة لن يستفيق منها، أو قد يلحق الأذى بنفسه في ذروة التماهي مع “تاجدابت” لأن هناك منهم من لا يتحكم في ذاته وقد يذهب إلى أقصى مدى بجسده.
انطلقت الليلة بما يعرف ب ” العادة ” ، وهي الفترة التي يقود فيها لمعلم الكناوي القراقبية وهم يجدبون على نغمة “الكويو” في ما ينقر هو الإيقاع بواسطة الطبل، لمعلمية الذين هم بمثابة حكام، كانوا يرقبون ويسجلون كل التفاصيل ويتربصون أي خطأ قد يرتكبه عبد الرحمان باكو، بعد هذه الوجبة يجلس القراقبية ويغادر كل الناقرين على الطبل، ويحمل لمعلم آلة الكنبري ويدخل معهم إلى لقصارة أو ما يعرف إلى ” أولاد بامبارا ” ، يدخل لمعلم في هذه المرحلة إلى الغناء وترديد الأبيات المدونة في تاكناويت، ليبرز إبداع صوته ومدى تمكنه من حفظ مكنون كلام كناوة، في هذه المرحلة، يقول الأستاذ الصالحي، أظهر باكو علو كعبه في إتقان مخارج الحروف، وحلاوة في الأداء، وهو ما اندهش منه الحاضرون، بحكم أن معظم لمعلمية في السابق، وكما يعرف الناس، يدغمون المخارج، حتى أنه كان من الصعب معرفة ما ينطقون به، ولا يزال هذا المشكل قائما عند العديد منهم إلى يومنا هذا، أضف إلى ذلك حشرجة الصوت عند الكثير منهم، بدأ التجاوب بالأجساد منذ الوهلة الأولى لهذه الليلة، إذ انطلق الكثيرون في الرقص والجذبة حتى قبل أن “تشخد” الليلة ويبدأ عزف النغمات الخاصة بـ” لمْلوك”، وقد أظهر باكو عزفا على الآلة مغايرا عما هو معروف عند كناوة ، بحيث كان يلامس الأوتار دون الخبط على الجلد وظهر بأن باكو مشبع بكناوة ولكن أيضا نهل من العازفين المنتمين للهيبي، ما أعطى للنغمات رونقا آخر .
بعد صلاة العشاء سيدخل باكو كما هي العادة والفريق الذي يرافقه، إلى ما يعرف بـ ” فتوح الرحبة”، وهي المرحلة التي تفتح فيها ” الطبيكة ” وتظهر الألوان وكل لون يرمز إلى مْلك من لمْلوك، تفتتح هذه المرحلة بالصلاة على الرسول، ويبدأ الغناء والاستجداء بالصحابة والأولياء، وهي أهم مرحلة في الليلة الكناوية، بحيث يدخل الجدابة في موجة من الجدبة والمرضى ” يتحيرون ” مع الألوان التي ترمز للمْلك الذي يسكن ذواتهم، وباعتراف كناوة فالتماهي مع كل مْلك عند العازف هي عملية مضنية، وتزداد صعوبة إذا كان الجداب عنيدا ولا يسقط بسرعة، إذ دور لمعلم الكناوي أن يعزف حتى يسقط المريض الذي يجدب، لذلك لم تكن الطائفة الكناوية متشددة في شروط “تامعلميت” بسبب نزوة أو تعال بل لإنها تعلم صعوبة الحضرة ، وما قد يحدث فيها من حوادث، لذلك فهي لا تبصم ولا تطبع إلا للعازف الصنديد الذي يملك قدرة التحكم في ليلته من ألفها إلى يائها، ويكون خبيرا في عالم لمْلوك وأنواع الجدبة التي تتلاءم معه ليحط “النقط” أو النغم الذي يتجاوب مع كل حالة .
كان باكو، وهو هائم في ليلته، ينتقل من مْلك إلى مْلك ومن نغمة إلى أخرى، يتجاذب مع الأرواح الراكنة في الذوات الراقصة أمامه مركزا على هزمها في شبه معركة مضنية بالنسبة له كمبتدئ مغامر ، ضاربا ألف حساب لأعين لمعلمين المتربصة به، والتي لربما سايرته في حماسه، حتى يقتنع بأن “تامعلميت” ليست تلبية رغبة أهواء أو غرور عابر ، وهو كذلك يحسب الدقائق ويقفز من شوط إلى شوط راجيا أن ينال الرضا والقبول، وكلما اجتاز شوطا حمد الله وشكره، إلى أن ظهر إنسان أمامه مغطى كلية بإزار، يمشي مشي المومياء يتلوى في رقصه بشكل سريع وغريب، هذا الشخص لا يرقص فقط وإنما يذهب بجسده بتلك الطريقة التي ذكرنا إلى الأماكن الخطرة، كالثقوب الواسعة ليزرع فيها رأسه، أو يقصد المرحاض ليدفع برأسه في “القواديس” الضيقة، المشهد كان مرعبا دفع بجل لمعلمية الحاضرين إلى وضع أيديهم على آلاتهم للتدخل في العزف، إن أتعب هذا الجذاب الخطير أنامل باكو الشاب المغامر ، لأن بإمكانه أن يضع رأسه في أي ثقب أو زاوية ويختنق، كل ما يتحكم في الإحجام عن إقدامه على ذلك هو النغم والنغم فقط وليس أي جهد بدني، لأن الرجل بطريقة رقصه تلك يبدو أنه يتحدى أي جهد بدني يقابله، علم باكو وهو مركز على عزف النغمات التي يتطلبها هذا المشهد المرعب، بأنه بصدد أحد أصعب لمْلوك، وهو “مْلك الحنش”. الحاضرون كلهم يعلمون بأن أعتى لمعلمية يتهربون من عزف هذا لمْلك، كان باكو يتصبب عرقا وقد أخذ منه التعب مأخذه وهو يحاول إبعاده عن الخطر ، أكثر من ساعة ونصف وهذا الجسد “يجدب” وعبد الرحمان يسايره حتى أصبحت أصابعه العازفة مكسوة بالدماء، وقد صبر على ذلك النزيف ليجتاز هذا الاختبار الصعب الذي سيحدد مسار حياته، فإما أن يصبح معلم كناوي أو يلتحق بجيش الملقبين بـ ” لكريمية ” ، عزف فعزف إلى أن سقط الرجل ودخل في غيبوبة، أخيرا هزم باكو الصغير “مْلك الحنش” قاهر كناوة ، بمجرد ما استفاق الرجل من غيبوبته حتى وصلت إلى مسامع باكو عبارة ” الله يزين الصنعة “، القادمة من ألسن لمعلمية الذين كانوا بمثابة حكام، وهي عبارة تعني قبوله في عالم “تاكناويت” ، وبأن لمعلمية، بدون استثناء، طبعوا وبصموا على أنه ” معلم كناوي “، فتعالت الزغاريد في الحي وبدأت التبريكات والتهنيئات، وذاع الخبر في كل أرجاء الصويرة، فعبد الرحمان كسر المألوف والمتعارف، وقلب كل ” التشريعات” الكناوية السابقة رأسا على عقب ، لأنه كان من غير المستساغ أو المقبول ولوج أي شاب عالم تامعلميت، كما أقنع أصحاب الفكر القديم بأنهم مخطئون في انغلاقهم وغلق الباب أمام هذا الموروث الفني الذي من المفروض أن يكون متاحا للجميع، فهاهو يخرج من الأسوار ويعانق “الهيبي” ويأتي من مستقرهم بالديابات ليجابه عتاة لمعلمية في عالم كناوة، ولو ظل قابعا منتظرا وسط الدروب لما كان قد أعلن عن موهبته أبدا، في الصويرة أصبح باكو نموذجا لأبناء جيله الذين خاضوا تجارب التحدي في مجالات عديدة، نجاح باكو لم يكن محليا بل ذهب بانتصاره إلى جعل “السنتير” يدخل العالمية، من خلال اختيار فرقة “ليفينغ تياتر” العالمية ليكون عازف الفرقة التي جاب معها العالم، معرفا بآلته وبعالم تاكناويت .
النجاح كان ضريبته أن أبناء بعض لمعلمية أصابتهم الغيرة، كون آبائهم فتحوا الباب لشاب لا ينتمي للطائفة ليصبح “معلم كناوي” ، فيما حرموهم من هذا الشرف !