كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ 16- ميلاد 3 مستشفيات عسكرية ومدنية بفاس دفعة واحدة بين 1911 و1912

 

كيف دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ وضمن أية ظروف، وفي أية سياقات؟ وأين بنيت أول مؤسسة استشفائية حديثة بالمغرب؟ من بناها وما هي الأدوار التي لعبتها؟. تلكم بعض من الأسئلة التي تحاول هذه الحلقات، ضمن فسحة رمضان 2020، أن تجيب عنها.
والغاية، ليست فقط تتبع خريطة ميلاد «خدمة الصحة العمومية» ببلادنا، وكيف تم رسمها منذ 1910 ميلادية، بل تقديم معلومات تفسر كيف أن صدمة الإستعمار التي جعلت المغربي (في النخبة وفي المجتمع) يصطدم مع الحداثة الصناعية والإقتصادية والسياسية، التي غيرت من وعيه لذاته وللآخ رين وللعالم.. كيف أنها حققت ذلك ليس بالضرورة فقط عبر المدفع والرشاش والرصاص، بل أيضا من خلال نوعية الخدمات المدينية الجديدة التي جاءت مع المستعمر. وليس اعتباطا ما قاله في إحدى رسائله إلى قيادته العسكرية العامة بباريس، الماريشال ليوطي (أول مقيم عام فرنسي بالمنطقة التي احتلتها باريس من التراب المغربي)، حين خاطبها قائلا: «أرسلوا لي 4 أطباء، سأعيد إليكم 800 عسكري».
إن ما سأحاول تتبعه معكم هنا، هو قصة ميلاد خدمة الطب الحديث بالمغرب، من خلال قصة ميلاد العديد من المؤسسات الطبية بمختلف المدن المغربية من الدار البيضاء حتى أكادير، مرورا بالرباط، فاس، مكناس، مراكش، ابن أحمد، سطات، خنيفرة، الخميسات، وجدة، قلعة السراغنة، الصويرة، آسفي، الجديدة، القنيطرة، سلا وغيرها كثير. معززا بصور نادرة تنشر لأول مرة بالصحافة الوطنية المغربية. وأيضا كيف ولدت الصيدلة بالمغرب ومعهد باستور وطب الأسنان والطب النفسي والعقلي والطب المدرسي… إلخ.
هي رحلة في جزء منسي من ذاكرتنا الجماعية، كما صنعها الإحتكاك مع الحداثة من خلال بوابة الطب والصحة العمومية. والمناسبة شرط كما يقال، ونحن نعيش عصر مواجهة جائحة عالمية مثل وباء كورونا. (للإشارة كل الصور التي تنشر ضمن هذا البحث التاريخي مؤخوذة عن كتاب حفظ الصحة والجراحة بالمغرب الصادر سنة 1937 عن مصالح حفظ الصحة بالمغرب).

 

تقدم قصة ميلاد الطب الحديث، في واحدة من أهم جهات المغرب في تاريخه المعاصر والقديم، التي هي جهة فاس، مادة مختلفة وغنية عن شكل تحقق ذلك الميلاد في جهات ومدن أخرى من بلادنا. فهو ميلاد تم تحت نار المواجهات وأزيز رصاص البنادق والرشاشات. ذلك أن فاس لم تكن أبدا مدينة عادية في تاريخ المغرب، ليس فقط بسبب من كونها تجتر وراءها تاريخا تليدا وعريقا من الفعل السياسي والثقافي والفكري والتجاري منذ قرون عديدة (مثلها مثل مراكش)، بل لأنها كانت أيضا عاصمة الحكم والملك والإمبراطورية بالمغرب. وكونها العاصمة السياسية، فهي فضاء نخبة النخب الحاكمة بالبلاد، في كافة أبعادها السياسية والإقتصادية والإجتماعية والقيمية. ولم يكن يسيرا أبدا على المحتل الأجنبي الفرنسي الدخول إليها، بسبب حجم المقاومة المسلحة التي واجهته هناك، من الساكنة ومن العناصر العسكرية للجيش الشريفي المغربي، الذي اصطفت عناصر منه مع تيار المقاومة ضد الدخول العسكري الفرنسي.تقدم قصة ميلاد الطب الحديث، في واحدة من أهم جهات المغرب في تاريخه المعاصر والقديم، التي هي جهة فاس، مادة مختلفة وغنية عن شكل تحقق ذلك الميلاد في جهات ومدن أخرى من بلادنا. فهو ميلاد تم تحت نار المواجهات وأزيز رصاص البنادق والرشاشات. ذلك أن فاس لم تكن أبدا مدينة عادية في تاريخ المغرب، ليس فقط بسبب من كونها تجتر وراءها تاريخا تليدا وعريقا من الفعل السياسي والثقافي والفكري والتجاري منذ قرون عديدة (مثلها مثل مراكش)، بل لأنها كانت أيضا عاصمة الحكم والملك والإمبراطورية بالمغرب. وكونها العاصمة السياسية، فهي فضاء نخبة النخب الحاكمة بالبلاد، في كافة أبعادها السياسية والإقتصادية والإجتماعية والقيمية. ولم يكن يسيرا أبدا على المحتل الأجنبي الفرنسي الدخول إليها، بسبب حجم المقاومة المسلحة التي واجهته هناك، من الساكنة ومن العناصر العسكرية للجيش الشريفي المغربي، الذي اصطفت عناصر منه مع تيار المقاومة ضد الدخول العسكري الفرنسي.كان الدخول العسكري إلى فاس، قد تم 10 أشهر قبل توقيع معاهدة الحماية بين السلطان مولاي حفيظ والسفير الفرنسي رينو يوم 30 مارس 1912. وهو الدخول الذي تم يوم 21 ماي 1911 بقيادة الجنرال الفرنسي إميل موانيي، بعد تقدم تلك القوات الفرنسية منذ أسابيع عبر ميناء المهدية عند مصب نهر سبو على المحيط الأطلسي. وكانت الغاية المعلنة لدخول العاصمة فاس حينها هي مساعدة السلطان المغربي على تنظيم جيشه الشريفي في أفق المساعدة على إعادة تنظيم باقي مؤسسات الدولة (أمنيا وماليا وتجاريا وجمركيا). لهذا السبب منحت إدارة القوات العسكرية المغربية بفاس لقيادة تلك الوحدة العسكرية الفرنسية، وهو ما لم تستسغه نخب فاس حينها وإن لم تواجهه بعد بالقوة.توازى ذلك الدخول العسكري، مع دخول فريق طبي عسكري فرنسي مرافق لتلك القوات، من الوحدات الطبية المرافقة دوما في كل تحرك مسلح على الأرض، مهامها تقديم الإسعافات والعلاجات المستعجلة للذين يسقطون من الجنود والضباط في ساحات المعارك. مما جعل ذلك الفريق الطبي العسكري يقيم مع القيادة العسكرية الفرنسية بجزء من قصر “دار الدبيبغ” (الذي يعود إنشاؤه إلى عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله، وكان قصر استراحة واستجمام). وبسبب ضيق المكان لإنجاز المهام الطبية اللازمة، وتزايد عدد المصابين والمرضى، تقرر أن تمنح لهم بناية مستقلة خاصة لممارسة المهام الطبية عسكريا ومدنيا، فكان أن تم اختيار  موقع جنوب المدينة بمنطقة “راس جنان”، عند أسوار “باب الحديد” (باب من أقدم أبواب فاس البالي، بني حوالي سنة 860 ميلادية)، يوم 17 يونيو 1911، كما تؤكد وثيقة رسمية للطبيب العسكري  العقيد سالينيي، وعين طبيبا رئيسيا له الملازم أول الدكتور فورنيال، حيث تم كراء فضاء تقليدي كبير يعرف ب “دار بنيس”. باشر فيها الدكتور فورنيال، بما كان يمتلكه من إمكانيات طبية ومالية بسيطة، تجهيز تلك البناية المخزنية القديمة، ووضع مجموعة خيام طبية مجهزة بساحاتها الداخلية، لينطلق العمل في ظروف استثنائية، بدون ماء ولا كهرباء. وقرر الجنرال موانيي أن يطلق عليه إسم” مستشفى أوفير العسكري”، تكريما لطبيب عسكري فرنسي سقط قتيلا أسبوعين قبل ذلك، يوم 2 يونيو 1911، أثناء جولة تفقدية لتلك الوحدات العسكرية خارج فاس في اتجاه مدينة زرهون، بمنطقة نزالة جبوب، حيث وقعت مواجهات مسلحة مع قبائل الوداية، أصيب خلالها برصاصة قاتلة في صدره، بعد تدخله لإسعاف ضابط فرنسي مصاب. فكان من أول الأطباء العسكريين الذي سقط في فاس، وتمجيدا لدوره وذكراه تقرر إطلاق اسمه على ذلك المستشفى العسكري الأول بالمدينة.الحقيقة، إن فاس تكاد تكون المدينة الوحيدة في المغرب كله، التي ستشهد ميلاد ثلاث مؤسسات طبية دفعة واحدة في المسافة الزمنية بين ماي 1911 وأبريل 1912. وأنها منذ البداية مؤسسات طبية عسكرية ومدنية، وفي مواقع مختلفة من المدينة. مثلما أنها الفضاء المديني الوحيد الذي ولدت فيه مؤسسات طبية تخصصية باكرا موزعة على مختلف أحيائها المترامية الأطراف. ويرجع السبب ربما إلى شساعة المدينة جغرافيا حينها وإلى الكثافة السكانية بها أيضا (فهي إلى جانب مراكش من أكبر المدن سكانا ومجالا في بداية القرن 20 مقارنة بباقي المدن المغربية كلها). بالتالي، نجد أنفسنا أمام قصص متعاضدة ومتراكبة ومختلفة أيضا لميلاد مؤسسات طبية بالمدينة، يمكن فقط الإشارة إلى ثلاث منها هي مستشفى أوفير العسكري، ومستشفى كوكار العسكري والمدني، ومستشفى مورا المدني، التي تأسست كلها سنوات 1911 و1912.الحقيقة، إن فاس كانت برميل بارود مشتعل، منذ سنة 1908، تاريخ إسقاط السلطان مولاي عبد العزيز من قبل شقيقه السلطان مولاي حفيظ، ضمن سياقات تحولات مغربية متسارعة لها علاقة مباشرة بتسارع التسابق الدولي لاحتلال المغرب منذ 1900، وصولا إلى المؤتمر الدولي للجزيرة الخضراء بإسبانيا حول “القضية المغربية” سنة 1906 (دام ذلك المؤتمر أربعة أشهر كاملة). بالتالي، فإن الأحداث المتعالقة مع قصة ميلاد الطب الحديث بها، هي من القوة ما يجعل دور واحد من تلك المستشفيات بها، حاسما ومؤثرا في تغيير مجرى الأحداث السياسية بالمغرب وليس فقط بعاصمته فاس. لقد تم توقيع معاهدة الحماية، كما قلنا من قبل، يوم 30 مارس 1912، وحدث أنه بعد أسبوعين ستقع انتفاضة عسكرية عنيفة بفاس، انطلقت يوم 17 أبريل 1912، تمثلت في نزول القوات العسكرية الشريفية (المخازنية) التي أطرتها قوات الجنرال موانيي، إلى وسط المدينة وشرعت في تصفية كل الأروبيين الأجانب، فسجلت مواجهات عنيفة انتهت بحصيلة دموية ثقيلة، بلغت 66 قتيلا أروبيا (ضمنهم 44 فرنسيا) و642 مواطنا مغربيا (ضمنهم 42 مواطنا مغربيا يهوديا). في تلك المواجهات العنيفة، سيكون لمستشفى أوفير العسكري دور مهم، حيث تؤكد وثيقة الطبيب العسكري العقيد سالينيي، أنه قد قام الطبيب الرئيسي لذلك المستشفى الملازم أول فورنيال، بسرعة بتجريد عناصر القوات الشريفية من المخازنية المتواجدة معه ببناية “باب الحديد” من أسلحتها، وجند الطاقم الطبي والتمريضي عبر تسليحه، وكذا جزء من المرضى من الجنود الفرنسيين المتواجدين بغرفه، وشكل فرقة للمواجهة العسكرية، وشرع في إطلاق النار صوب القوات العسكرية المغربية، وفتح الباب لكل اللاجئين من الأروبيين والمغاربة إلى داخل المستشفى، ما جعله يتحول إلى شبه قلعة عسكرية متقدمة، ما لبتث أن تحولت إلى موقع انطلاق للخروج إلى وسط المدينة في مواجهات عنيفة (نوع من حرب الشوراع).عين في الأثناء، الماريشال ليوطي مقيما عاما فرنسيا على الجزء الذي تقررت فيه الحماية الفرنسية من التراب المغربي، يوم 28 أبريل 1912، أي أسبوعا واحدا بعد تلك الأحداث الدموية العنيفة بالعاصمة حينها، حيث أسرع بالإنتقال من ميناء الدار البيضاء الذي حل به يوم 13 ماي (كما يؤكد هو نفسه في مذكراته)، وشد الرحال صوب فاس يوم 15 ماي، التي لم يصلها ضمن قافلة عسكرية مجهزة وكبيرة سوى يوم 24 ماي 1912، بسبب عدم وجود طرق معبدة حديثة تسهل عملية التنقل ولا وجود خط سكة حديدية. لكن، يومين فقط بعد وصوله، أي يوم 26 ماي ستشتعل فاس مجددا بمواجهات دموية مسلحة أعنف من تلك التي سجلت أيام 17 و18 و19 أبريل. فعاش ليوطي تلك الأحداث من الداخل، ووقف على حجم قوتها وعنفها، طيلة أيام 26 – 27 – 28 ماي 1912، تطلبت تدخلا من خارج المدينة قاده الجنرال غورو (القادم من تجربة عسكرية استعمارية بسورية)، الذي استعمل الأسلحة الثقيلة والمدفعية مكنته من إخماد ذلك التمرد العسكري الجديد يوم 1 يونيو 1912، بفاتورة كبيرة من الخسائر البشرية والمادية، بعد دخوله من شمال المدينة قادما من منطقة زلاغ، مواجها المتمردين الذين حاصروا فاس بمنطقة الحجرة الكحلة. وكان القرار السياسي لليوطي هو نقل العاصمة من فاس إلى الرباط (نفذ في سنة 1913)، وتعزيز الدور الطبي لمستشفى أوفير وأيضا خلق مستشفى جديد من الوحدات الطبية المتنقلة التي رافقت الجنرال غورو هو مستشفى كوكار.تؤكد وثيقة الطبيب العسكري العقيد سالينيي، على أن الدور الذي لعبه الطاقم الطبي للمستشفى العسكري أوفير في أحداث 17 أبريل 1912، قد عززت من مكانته ضمن المنظومة الطبية العسكرية الفرنسية، مكنت من تخصيص ميزانيات تدبير استثنائية له، وجلب أدوات عمل طبية أكبر، ما جعله يصبح في بحر شهرين أهم مستشفى عسكري تجهيزا بالمغرب كله، تجاوزت تجهيزات مستشفى الدار البيضاء. مثلما تم اتخاد قرار إلحاق كفاءات طبية عسكرية كبيرة ومهمة به، من قيمة الجنرال الطبيب الجراح سبيك في بداية 1913. وإلى حدود سنة 1927، أصبح هو المستشفى العسكري الفرنسي الأهم بالمغرب، بسبب تواجده في مقدمة خط المواجهات العسكرية لاحتلال المغرب خاصة في اتجاه تازة والمغرب الشرقي وصولا إلى وجدة (حتى يكتمل مشروع احتلال فرنسا لكل المغرب العربي من الدار البيضاء حتى تونس العاصمة)، وكذا أثناء المواجهات العنيفة مع البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي بالريف وشمال المغرب، خاصة سنوات 1925 و 1926.إن مما تؤكده الأرقام الإحصائية لمستشفى أوفير أنه قد قدم خدماته الإستشفائية في 5 سنوات فقط  لأكثر من 100 ألف مريض ومصاب. وهو رقم ضخم حينها في المرحلة ما بين 1912 و1917. والغريب أنه قد اعتبر في بدايته مستشفى مؤقتا فقط، في انتظار إنشاء بناية طبية حديثة للطب العسكري بفاس، لكنه بقي هناك حتى سنة 1933، ليغادر نهائيا موقعه الأول بمنطقة “باب الحديد” صوب منطقة “ظهر لمهراز”، التي سيبقى بها فقط 9 أشهر حيث سيتم إغلاقه نهائيا يوم 1 شتنبر 1933، فانتهت قصة مستشفى عسكري فرنسي أنجز ضمن مهام عسكرية سريعة وتحت وابل الرصاص ودوي المدافع. وتم إنشاء مستشفى جديد، غير بعيد عن الموقع الأول، قبالة حي الملاح اليهودي ب “ظهر لمهزار” في موقع كان قد اختاره أصلا الماريشال ليوطي منذ 1917، بقي فيه إلى اليوم. وهو المستشفى الجديد الذي كان مدنيا مع جناح للطب العسكري، حيث ضم 70 سريرا للطب المدني و 250 سريرا للطب العسكري، واستعاد اسمه القديم “مستشفى أوفير” ثمانية أشهر بعد افتتاحه الرسمي (قسم اليوم إلى مؤسستين طبيتين هما مستشفى الغساني ومستشفى إبن البيطار بفاس).

 


بتاريخ : 13/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *