كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ 21 – لماذا تأخر الطب الحديث بوجدة حتى سنة 1925، رغم أنها احتلت سنة 1907؟

 

كيف دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ وضمن أية ظروف، وفي أية سياقات؟ وأين بنيت أول مؤسسة استشفائية حديثة بالمغرب؟ من بناها وما هي الأدوار التي لعبتها؟. تلكم بعض من الأسئلة التي تحاول هذه الحلقات، ضمن فسحة رمضان 2020، أن تجيب عنها.
والغاية، ليست فقط تتبع خريطة ميلاد «خدمة الصحة العمومية» ببلادنا، وكيف تم رسمها منذ 1910 ميلادية، بل تقديم معلومات تفسر كيف أن صدمة الإستعمار التي جعلت المغربي (في النخبة وفي المجتمع) يصطدم مع الحداثة الصناعية والإقتصادية والسياسية، التي غيرت من وعيه لذاته وللآخ رين وللعالم.. كيف أنها حققت ذلك ليس بالضرورة فقط عبر المدفع والرشاش والرصاص، بل أيضا من خلال نوعية الخدمات المدينية الجديدة التي جاءت مع المستعمر. وليس اعتباطا ما قاله في إحدى رسائله إلى قيادته العسكرية العامة بباريس، الماريشال ليوطي (أول مقيم عام فرنسي بالمنطقة التي احتلتها باريس من التراب المغربي)، حين خاطبها قائلا: «أرسلوا لي 4 أطباء، سأعيد إليكم 800 عسكري».
إن ما سأحاول تتبعه معكم هنا، هو قصة ميلاد خدمة الطب الحديث بالمغرب، من خلال قصة ميلاد العديد من المؤسسات الطبية بمختلف المدن المغربية من الدار البيضاء حتى أكادير، مرورا بالرباط، فاس، مكناس، مراكش، ابن أحمد، سطات، خنيفرة، الخميسات، وجدة، قلعة السراغنة، الصويرة، آسفي، الجديدة، القنيطرة، سلا وغيرها كثير. معززا بصور نادرة تنشر لأول مرة بالصحافة الوطنية المغربية. وأيضا كيف ولدت الصيدلة بالمغرب ومعهد باستور وطب الأسنان والطب النفسي والعقلي والطب المدرسي… إلخ.
هي رحلة في جزء منسي من ذاكرتنا الجماعية، كما صنعها الإحتكاك مع الحداثة من خلال بوابة الطب والصحة العمومية. والمناسبة شرط كما يقال، ونحن نعيش عصر مواجهة جائحة عالمية مثل وباء كورونا. (للإشارة كل الصور التي تنشر ضمن هذا البحث التاريخي مؤخوذة عن كتاب حفظ الصحة والجراحة بالمغرب الصادر سنة 1937 عن مصالح حفظ الصحة بالمغرب).

 

تقدم قصة دخول الطب إلى مدينة وجدة، مادة للإستغراب بدرجات مثيرة. والسبب، منذ البداية، هو أن هذه المدينة المتواجدة في أقصى الشرق المغربي، قد كانت أيضا متواجدة في “أقسى التهميش الطبي”، مقارنة بواقع الحال في باقي كبريات المدن المغربية زمن الإستعمارين الفرنسي والإسباني والدولي لبلادنا، مثل مدن الدار البيضاء، طنجة، تطوان، الرباط، فاس، مكناس ومراكش. ومبعث الإثارة قادم من أنها (هي ومدينة الدار البيضاء) من أول المدن المغربية التي وقعت تحت الإحتلال العسكري الفرنسي منذ سنوات 1907 / 1908. فكان بالتالي مفروضا أن تحوز خدمات صحية حديثة باكرا، مثلما سجل مع كازابلانكا، لكن ذلك لم يحدث للأسف. علما أن تمة مفارقة عجيبة نوعا ما، هي أن مدينة وجدة، تكاد تعتبر المدينة المغربية الوحيدة التي كان عدد السكان الأروبيين والجزائريين فيها موازيا لعدد السكان المغاربة، مما يجعل المنطق يقول إنه كان على سلطات الإستعمار توفير الخدمات الصحية الجديدة بدرجات سريعة وعالية. لكن الذي تؤكده، وثائق أطباء عسكريين فرنسيين بها، اعتمدناها في هذا البحث، هو أنه حتى التطبيب الحديث الذي تم توفيره، قد كان مخصصا في ثلثيه للجالية الأروبية وليس للمغاربة. وهذه حالة شاذة تماما في قصة دخول الطب الحديث إلى المغرب، لا يملك المرء إلا التساؤل عن سببها، وهل ذلك يعود إلى تأثير الجوار الجزائري (خاصة الغرب الجزائري)، الذي كانت فيه كل الخدمات العمومية، بما فيها الصحة، تمييزية وعنصرية. هل تلك الثقافة السلوكية الإستعمارية العنيفة هناك، صار لها أثر هنا، في وجدة أيضا؟. ذلك ما سنحاول تفكيكه هنا.
سقطت مدينة وجدة في يد الجيش الفرنسي (وحدات وهران العسكرية بالغرب الجزائري بقيادة الجنرال ليوطي)، سنة 1907، بعد مقتل الطبيب الفرنسي موشان بمراكش بحي عرصة موسى، رميا بالحجارة من قبل جمهرة من المواطنين المغاربة، بحجة اتهامه بالتجسس ورفعه علم بلاده فوق عيادته الطبية. كانت فرنسا تتحين الفرصة منذ 1900 للدخول إلى المغرب واحتلاله بعد احتلالها للجزائر ابتداء من سنة 1830 وتونس سنة 1883، وتحرشت بالعديد من ساكنة مناطقه الشرقية، وشرعت في قضم أطراف من الأراضي المغربية منذ بداية القرن 20، لعل أكبرها مناطق توات وتيندوف والساورة، التي ألحقت من حينها بالجزائر.
كانت وجدة، بالنسبة للأدبيات الإستعمارية، مجرد مركز عسكري للتشويش على المغرب، وليست رهانا استراتيجيا كبيرا (على أهميته الحدودية الفارقة) مثل فاس والدار البيضاء ومراكش. لهذا السبب نجد أنها تحضر في تلك الأدبيات العسكرية بأوصاف قدحية استفزازية، ليس أقلها ما أحال عليه تقرير عسكري للطبيب جوزيف ليز (خريج كلية الطب بمدينة ليون الفرنسية سنة 1921)، من توصيف للروائية الفرنسية إيزابيل إبرهارت (صحفية وكاتبة وروائية روسية الأصل، ولدت بسويسرا سنة 1877 وتوفيت بالجزائر سنة 1904، حصلت على الجنسية الفرنسية بفضل زواجها من مواطن فرنسي. من أشهر أعمالها: المجموعة القصصية “حب رحالة” و رواية “ياسمينة”، وكتاب رحلتها “مذكرات طريق: المغرب، الجزائر، تونس” سنة 1908). حيث يقول ذلك التوصيف القدحي: “وجدة بلدة الجوع والأوحال والعفن والجنس”.
لهذا السبب، سنجد أن العقلية الفرنسية المتحكمة في وجدة، كانت منتمية تماما للعقلية العسكرية الإستيطانية العنصرية، التي كانت للمجموعة الفرنسية الحاكمة بالجزائر، وتكاد تكون في شبه قطيعة لسنوات مع عقلية المقيم العام الفرنسي بالرباط، ابتداء من أبريل 1912، الماريشال ليوطي وفريقه. هذا سيخلق بشكل واضح ردود فعل عند الساكنة المغربية هناك، كان على درجات عالية من العنف والتشدد، لأن درجات الظلم كانت عنيفة وعالية (بقيت تلك الثقافة السلوكية مميزة لأهلنا الوجديين لسنوات طويلة). وفي مجال بحثنا هنا، سنجد أن ترجمة ذلك على المستوى الطبي برز في شكل البنية الطبية التي تم استحداثها بالمدينة المغربية الأصيلة تلك، التي كانت في الصف الأول المتقدم المواجه لمدافع فرنسا من الجزائر.
لقد اختار الفريق العسكري الفرنسي المحتل لوجدة منذ 1907، أن يحصر خدماته الصحية في شقها العسكري المحض، بدليل أنه أنشأ أول وحدة طبية قارة بالمدينة داخل مقر القيادة العسكرية الفرنسية بها، التي بقيت هناك حتى سنة 1925. أي أنه على امتداد 18 سنة، ظلت الخدمات الصحية بوجدة فقيرة جدا، ولم تسجل انطلاقة فعلية ملموسة وذات أثر كبير، سوى ابتداء من سنة 1926. وتفسير ذلك تاريخيا، لا يستقيم تحليليا سوى بربطه بالأحداث المحيطة بشرق المغرب كله ما بين سنوات 1907 و 1926. فهي سنوات التوتر العالي هناك بسبب حركة بوحمارة (التي نسجل دوما أنه جاء لتنفيذها من الجزائر)، في الفترة ما بين 1902 و 1909، ثم هي سنوات التوتر الهائلة بسبب حرب الريف بقيادة البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي ما بين 1919 و 1926. دون إغفال التوتر الكبير للتنافس الفرنسي الألماني على المغرب في المرحلة ما بين 1905 و 1912، الذي كانت شواطئ السعيدية حتى الناظور والحسيمة مجالا له، عبر اختراقات تجارية وعسكرية.
بالتالي، ظلت الخدمات الطبية الإستشفائية تقدم بتلك الوحدة الطبية الصغيرة للعسكريين وللمدنيين الأجانب فقط دون المغاربة، داخل القيادة العسكرية الشهيرة هناك حينها ب “مركز القيادة العسكري جاك روز”. ولن يتم نقل تلك الخدمات الصحية خارج أسوار تلك الثكنة سوى سنة 1925، حين تم بناء مستشفى جديد وحديث شمال مدينة وجدة، على ربوة مطلة على طريق مارتيمبراي (قرية الكيس على الحدود المغربية الجزائرية)، أطلق عليه إسم “مستشفى أكولاس” تكريما لذكرى الطبيب العسكري أكولاس الذي توفي يوم 14 نونبر 1912 بسبب مضاعفات مرض التفويد. وكما تؤكد وثيقة عسكرية للطبيب العسكري الفرنسي لوازو، الذي عين مديرا لذلك المستشفى في ما بعد، فإن مجال تطبيب تلك المؤسسة الطبية العسكرية والمدنية الجديدة، قد كان يغطي كل المناطق المحيطة بوجدة حتى جرادة جنوبا وتاوريرت ودبدو غربا، وصولا حتى إلى مدينة مغنية ونمور بالغرب الجزائري شرق المدينة. مع تجهيزه بأحدث الأجهزة الطبية على مستوى قاعات الفحص وقاعات الراديولوجي وقاعات الجراحة، مع قاعات استشفاء وعلاج تضم 135 سريرا.
بالعودة إلى وثيقة الطبيب العسكري الدكتور جوزيف ليز، التي حررها سنة 1936، فإننا نجد تأكيدا على أن الإهتمام بالواقع الصحي للمدينة لم ينطلق عمليا سوى في سنة 1922، من خلال تأسيس اللجنة المحلية لحفظ الصحة العامة، بالتوازي مع بداية تنظيم المجال بوجدة، من خلال مخطط عمراني جديد، سمح بميلاد أحياء عصرية، كان في القلب من ميلادها وتطورها بناء محطة القطار ابتداء من سنة 1918. وهي اللجنة البلدية المحلية التي باشرت العمل على أربع واجهات كبرى، هي: الصرف الصحي الحضري/ الوقاية من الأوبئة والأمراض المعدية/ تنظيم مجالات الصحة العمومية/ تنظيم تدخلات حفظ الصحة الإجتماعية. مما كانت نتيجته مع حلول سنة 1930، توفر مدينة وجدة بساكنتها التي بلغت 30 ألف نسمة (15 ألف مغربي و 15 ألف أجنبي أروبي وجزائري)، على 43 كلمترا من الطرق المعبدة، 50 كلمترا من شبكة الماء الشروب، 30 كلمترا من شبكة الصرف الصحي. من حينها أصبحت وجدة مدينة حديثة (ولو بتأخر دام 23 سنة) مثلها مثل المدن الحديثة بالدار البيضاء والرباط وفاس ومراكش (ووهران بالجزائر).
على مستوى الخدمات الصحية المباشرة، سيتم بناء محطة كبيرة للتعقيم العمومي، ضمت آليات ضخمة لتعقيم وتنظيف الملابس إلزاما لساكنة المدينة لمواجهة خطر عدوى انتشار الأمراض الوبائية، التي كانت متفشية بالمنطقة خاصة مرض الملاريا والجدري والتفويد. وكانت حملات الإعتقالات يومية لحمل الساكنة على الإستفادة من ذلك التعقيم، الذي كان يشمل مستويين، الأول هو تعقيم الملابس في أفران كبيرة، ويتمثل الثاني في إلزامية إدخال أصحابها إلى حمامات طبية مخصصة للنظافة بالماء الساخن و الرش عبر التبخير بمواد طبية معقمة. وكانت تستعمل في عمليات تعقيم الملابس غاز الكبريت (ضد باكتيريا وإغزيما الأمراض الجلدية وأمراض الشعر)، وغاز الميتانال (ضد البكتيريا المتسببة في التقرحات). مثلما تم إحداث وحدة صحية خاصة بمعالجة الأمراض الجنسية خاصة مرض الزهري، وفرض رقابة صارمة على دور الدعارة، حيث تم إحصاء كل “بائعات الهوى” بالمدينة وتحديد مقار عملهن، ومنحهن بطاقات خاصة رسمية ودفترا طبيا فيه متابعة مدققة لوضعهن الصحي، حيث بلغت نسبة محاربة مرض الزهري بين 1925 و 1935، أكثر من 76 بالمئة، وتم تلقيح أكثر من 87 ألف شخص بكامل جهة وجدة. مع متابعة دقيقة للحالات التي تتطلب مرحلة علاج استشفائي (بلغ عددهم مثلا سنة 1935، أكثر من 130 حالة، وتم إجراء 143 تحليل طبي أدى إلى اكتشاف 59 حالة إيجابية بوجدة وحدها).
من الخطوات الطبية الهامة بالمدينة، ابتداء من سنة 1925، إنشاء مصلحة جد متطورة للطب المدرسي، تحت إشراف طبيب للأطفال، مكن من تعميم التلقيح على كل التلاميذ الممدرسين ووضع دفتر صحي لكل واحد منهم، مع مراقبة صارمة للمطاعم المدرسية. مثلما تم إحداث مؤسسة لرعاية الأمومة والطفولة المحرومة “قطرة حليب”.
فيما سجلت المدينة ابتداء من سنة 1919، تواجد أطباء من القطاع الخاص، بلغ عددهم سنة 1929، ستة أطباء بعياداتهم المستقلة (الدكاترة الجزائري عياش، باسكوف، بيتروفيتش، بلليسير، صوفاجي الزوج، صوفاجي الزوجة). مثلما افتتحت بها 5 صيدليات في السنوات ما بين 1925 و 1935 (الجزائري الغوزي، مدام سيمون بايلي، آلبير شبريت، لوي بيجول، آلوزا). وافتتحت بها 3 عيادات لطب الأسنان ابتداء من سنة 1926 (الدكاترة: ألبير ماتيرا، جورج ديبوش، جوان).
تجدر الإشارة أخيرا، إلى أن من الخدمات الطبية الحيوية التي تأخرت كثيرا للتواجد بمدينة وجدة، تلك المتعلقة بالمصلحة الطبية لمعالجة الأمراض الصدرية وداء السل، رغم تفشيه الكبير بالمنطقة. حيث إنه إلى حدود 1936، لم يتم بعد إنشاء وحدة طبية متخصصة لمحاربة ذلك الداء، ولم يتحقق الأمر سوى سنة 1939.


الكاتب : لحسن العسبي

  

بتاريخ : 19/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *