كشفت المذكرة التوجيهية التي أصدرها رئيس الحكومة لإعداد مشروع قانون المالية لسنة 2026 عن قصور كبير في تجديد الخطاب الحكومي وعن استخفاف غير مفهوم بذكاء المواطنين وبذاكرتهم، فالمذكرة التوجيهية لهذا العام تكاد تكون نسخة طبق الأصل من المذكرة الصادرة عن رئيس الحكومة برسم قانون مالية 2025، بل وحتى عن مذكرة 2024.. العبارات ذاتها تتكرر والمضامين كذلك، مع تغييرات طفيفة في الصياغة والتواريخ لا تغير من جوهر الخطاب شيئا. هذا التماثل يضع المتتبع أمام واقع سياسي ومالي مثير للانتباه، حيث يبدو أن الحكومة تميل إلى إعادة تدوير خطابها بدل صياغة أولويات جديدة تواكب التحديات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة.
أحد أبرز الأمثلة على هذا التكرار يتعلق بالتوصيات الخاصة بترشيد النفقات العمومية. ففي مذكرة 2025 دعا رئيس الحكومة بوضوح إلى “التحكم في نفقات التسيير عبر تقليص نفقات الإيجار والتجهيز وتفادي إطلاق مشاريع بناء مقرات جديدة للوزارات والمصالح الخارجية إلا في الحالات القصوى”، كما شدد على “الحد من اقتناء السيارات الإدارية إلا عند الضرورة القصوى” وربط ذلك بترخيص مسبق من رئاسة الحكومة، فضلاً عن “تقليص مصاريف السفر والتنقل داخل وخارج المملكة”. هذه التوجيهات عرضت آنذاك على أنها إجراءات تقشفية تستجيب لإكراهات الظرفية المالية وتوجه نحو عقلنة تدبير المال العام.
غير أن ما يثير الانتباه أن المذكرة الموجهة لإعداد مشروع قانون مالية 2026 أعادت نفس التوصيات تقريبا، بنفس اللغة ، مع بعض التعديلات الشكلية. فقد وردت مجددا عبارات من قبيل “التقليص إلى أقصى حد من نفقات التسيير” و”الحد من نفقات السفر داخل وخارج الوطن” و”ترشيد نفقات كراء وشراء السيارات”، بل وحتى التحذير من “الانخراط في عمليات بناء أو تهيئة مقرات إدارية جديدة إلا في الحالات القصوى وبعد موافقة مسبقة”. القارئ لهاتين المذكرتين يلمس بوضوح أن الأمر يتعلق بعملية نسخ ولصق شبه حرفية، حيث أعيد إنتاج نفس التعليمات التي وجهت في 2025 لتظهر مجددا في 2026 وكأن شيئاً لم يتغير.
وإذا كان هذا المثال الصارخ يعكس استنساخ التعليمات المرتبطة بالنفقات الإدارية، فإن مجالات أخرى تكشف عن التماثل نفسه. ففي قطاع الصحة، نجد أن المذكرة التوجيهية لسنة 2025 أكدت على “تعميم التأمين الإجباري عن المرض” و”تأهيل المراكز الاستشفائية”، وهي العبارات ذاتها التي أعيد إدراجها في مذكرة 2026 مرفوقة بلفظ “مواصلة”، من غير أن يرد أي عنصر إضافي يوضح مستوى التقدم المحرز أو طبيعة الإصلاحات الجديدة. هذا التكرار يشي بأن الحكومة تعيد عرض نفس الأوراش كل عام دون تقييم موضوعي أو تطوير للمضمون.
وفي قطاع التعليم، أعادت المذكرة لسنة 2026 استنساخ مضمون ما ورد في مذكرة 2025 مع فارق بسيط يتعلق بالتواريخ، إذ تحولت “خارطة الطريق 2022-2026” إلى “خارطة الطريق 2023-2027″، فيما بقيت نفس الأهداف والبرامج على حالها. هذا التحوير الشكلي يبرز بوضوح أن الحكومة تلجأ إلى استبدال التواريخ دون أن تقدم إشارات أو تحيينات على التقدم أو على إدخال إصلاحات نوعية على السياسات التعليمية.
أما في مجال البنية التحتية، فيتكرر الخطاب نفسه بخصوص “السدود الكبرى” و”محطات تحلية المياه”. ففي مذكرة العام الماضي تم التشديد على المضي في هذه الأوراش باعتبارها مشاريع استراتيجية، ليعاد في المذكرة الراهنة الحديث ذاته بنفس اللغة تقريبا، مع تغيير طفيف في أسماء بعض المشاريع أو مواقعها. مرة أخرى يغيب أي تقييم للحصيلة أو عرض لمستويات التقدم، في حين يظل التركيز على التكرار لإعطاء الانطباع بوجود استمرارية.
ولا يختلف الأمر في باب الأرقام. ففي مذكرة 2025، أعلنت الحكومة أن 3.8 مليون أسرة استفادت من الدعم الاجتماعي، بينما ارتفع الرقم في مذكرة 2026 إلى 4 ملايين أسرة. الزيادة تبدو طفيفة ومجرد تعديل رقمي، إذ لم ترفق بأي تفاصيل إضافية حول تحسين آليات الدعم أو توسيع نطاق الاستهداف، مما يجعلها أقرب إلى تعديل رقمي للنص أكثر من كونها سياسة اجتماعية جديدة. كذلك الحال بالنسبة لنسبة النمو، التي بقيت ثابتة عند 4.6% في السنتين المتتاليتين، وهو ما يثير تساؤلات حول مدى واقعية التقديرات الحكومية أو جدية مراجعتها.
وتكشف هذه الأمثلة ـ من النفقات الإدارية إلى الصحة والتعليم والبنية التحتية والدعم الاجتماعي ـ أن المذكرات التوجيهية للحكومة لم تعد سوى إعادة إنتاج مكررة لنفس الأهداف والبرامج. وبدل أن تكون مناسبة لتقييم الحصيلة وتجديد الأولويات، تحولت إلى وثائق يعاد تدويرها سنويا مع تغييرات طفيفة في التواريخ والأرقام والصياغات، ما يفقدها قيمتها كأداة حقيقية للتوجيه المالي والاستراتيجي، ويجعلها أشبه بتقليد بيروقراطي شكلي يتكرر ليس له أثر ملموس على أرض الواقع.