لا تشربوا البُنّ البرازيلي!!

 

أُعلِنُها أمام الملأ.. ندمت لأني انتحرت ووضعت حدّاً لحياتي في تلك الليلة الباردة. أصعب إحساس هو أن تشعر بأنّ موتك كان بالمجّان. في اعتقادي أنّ فكرة التخلّص من نفسي هي الحلّ من أجل سعادة الآخرين المحيطين بي.. زوجتي وأبنائي وصديقي الطبيب “أشرف” الذي كان أكثر من مجرد طبيب نساء، بل أرى فيه نفسي. علاقتنا متينة إلى درجة لا يمكن تخيّلها.. يزورني في بيتي حتى في غيابي، يتحدث مع زوجتي بأريحية، يضحكان بعفوية، يلامس كفّها، يحضنها بحرارة، يشاهد كل ثغور زوجتي وفتحاتها وفجواتها.
ألم أقل لكم هو أخي وطبيبها الذي تزوره في عيادته مرة في الشهر ويزورنا في منزلنا مرتين في الأسبوع، فلا داعي لأن تضع أمامه غطاء الرأس، ولا يوجد أساسا ما تحجبه عنه بالمرّة.
هذا الموضوع لا علاقة له بانتحاري وموتي الفجائي الذي كان موتا مهيبا وملغزا استدعى حضور المخبرين والمحققين وقنوات الشبكات الإخبارية، و”شو تي في” التي نشرت سبقا صحفيا وشهادة حصرية أدلت بها “جثة” انتحاري من فوق سريره بثلاجة الموتى، حتى أن الصحافية كانت منتشية ومتعرّقة وهي تتلصّص النظر إلى عضوي التناسلي المنتفخ.. انتفخ فجأة من تحت الإزار حتى أصبح منتصبا وبارزا يشبه عمود خيمة.
-هل أنا حيّ أم ميّت؟
-هل أنا معلّق بين الحياة والموت؟
-أَرى ولا أُرى!!
الصحافية بقناة “شو تي في” المنتشية بالحوار معي مازال لعابها يتساقط على الميكروفون ونحن على الهواء، طرحت عليّ سؤالا بوليسياَّ:
-من المستفيد من انتحارك؟
ارتخى عضوي التناسلي وعاد إلى حجمه الطبيعي من صدمة السؤال. طرحت على نفسي أسئلة أخرى:
-ماذا استفدتُ من انتحاري؟ هل سيتغيّر العالم بعد انتحاري؟ من قبض ثمن صفقة انتحاري؟
كما ترون انتهى بي المطاف إلى “جثة” بالمشرحة مزقتها سكاكين الطّبيب الشرعي ومساعدته الحسناء. كيف لممرضة بهذا الوجه الملائكي البريء القدرة على تمزيق أحشائي بوحشية. كنت أنظر نحوهما بعينين مفتوحتين وهما يمعنان في سلخ الجلد عن اللحم. أيّ لذّة كانت تبدو على وجهيهما من خلال ممارسة مهنة جزارة آدمية وبتر أعضائي ببرود قاتل؟! وقمة الوقاحة هي حين فتح سحابة سرواله فتسلل ثعبان أرقط إلى جُحْر الممرضة الحسناء. كانت جثتي هي سرير المضاجعة، ولوهلة انتفخ عضوي التناسلي للمرة الثانية، أحسّت به الممرضة، فتظاهرت باللامبالاة وهي تشعر بنشوة مزدوجة وباختراق لذيذ. لم تخبر طبعا الطبيب الشرعي العجوز. وهي تملأ البيانات بنصف عين رمتني بنظرة شيطانية وابتسامة خبيثة.
لم يغادر الملعونان المشرحة حتى رسما الخرائط والأوشام على جثتي، وأوصدا الثلاجة بإحكام. استغرقت التفكير وسط الظلام من داخل جثة تشبه فرانكنشتاين: هل أنا حيّ؟ هل الجثة تمارس الجنس وتقذف ذلك الرذاذ الأبيض اللزج؟ في يوم واحد ضاجعت صحافية وممرضة وأنا ميت؟ هل الموتى يتضاجعون وتنتفخ أعضاؤهم التناسلية؟ هل أنا ميت أم منتحر أم مقتول؟
الجثث يُنسج لها كفنٌ أبيض تلفّ به مثل قماط الرضيع وتُحشر في حفرة ضيقة، حتى تلك البطانية التي يغطون بها جثتك داخل سيارة نقل أموات المسلمين يبخلون بها عليك ويُلقونك في تلك الحفرة الباردة وسط نسيج أبيض مثل حشرة في بيت عنكبوت.
لكنّ وضعي يختلف، وجثتي مازالت قيد التشريح، ورهن إشارة المحققين، وهناك تفكير جاد في الاستفادة من أنسجتها الحيوية وخلاياها الحية، خصوصا بعد واقعتي الانتصاب والرذاذ الأبيض الذي اكتشف المحققون أنني صاحبه بعد التحليلات المخبرية المعمّقة. والمثير في الموضوع أن ممرضة المشرحة الحسناء هي اليوم حامل في شهرها الثالث، وأنا الأب البيولوجي للجنين بعد أن نفذ الطبيب الشرعي بجلده واستخرج شهادة بأنه عاقر.
ما هذه التعاسة؟! حتّى الحمض النووي للجنين أثبتت التحاليل المجهرية مطابقته لحمضي النووي، وهذا له معنى واحد هو أنني الوالد الشرعي للجنين. لم يحدث في العالم حمل مثل هذا، ودخلت موسوعة “غينيس”، وتهافتت المنصات الإعلامية لتغطية الحدث الاستثنائي وإجراء سبق صحفي مع جثة حيّة.
زوجتي هي الحيّة الحقيقية، وسأسرد لكم الوقائع كما عشتها أياما بعد انتحاري: في الأيام الأولى بعد انتحاري كانت تصرفاتها غريبة، في ليلة العزاء أغمي عليها من شدة الحزن، تأثرت فعلا لحزنها ووفائها، ولم أندم لحظة عن قرار انتحاري وأنا أرى مشهدا نادرا من الحبّ. ذعرت وقد طالت فترة إغمائها.. صرختُ ولم يسمعني أحد: أين الدكتور أشرف؟ أخال أنّه سمع صراخي لمّا هبّ مسرعا، حملها على ذراعيه وطار بها إلى غرفة نومها وأمر الجميع بمغادرة الغرفة للكشف عليها.
وجود الدكتور أشرف في حياتنا شجّعني على الانتحار وسهّل عليّ المأمورية، كنت على يقين بأنه سيملأ وجودي في البيت ولن يترك عائلتي تحتاج شيئا من بعدي.
أشرف فعل ما يمليه عليه ضميره وأكثر وهو يحمل زوجتي على ذراعيه ويختلي بها في غرفة نومي. تعوّد أن يفحصها بعناية في عيادته، أحيانا حين أرافقها يحضّر لي بنفسه فنجان قهوة، بعد أن أشربه أسترخي وأشعر بخدر لذيذ وأغفو قليلا في غرفة الانتظار التي تكون خالية من المرضى حتى لا يزعجني أحد وأنا في غفوتي. يمازحني الدكتور أشرف وهو يقدم لي الفنجان بنفسه بعد أن يأذن لكاتبته بالانصراف:
– أنت ضيفي الخاص لهذا أخدمك بنفسي، والكرسي الوثير الذي تجلس فيه جلبته لك شخصيا
الدكتور أشرف عملة نادرة في هذا الزمان، ولا أجد ما أكافئه به.. فعلا لا أشعر بمرور الوقت في كل مرة أزور عيادته، بعد رشفتين أو ثلاث من فنجان القهوة تتثاقل عيناي ويدبّ فيهما النعاس، ولا أصحو إلا عندما توقظني زوجتي. أقوم بتكاسل وأمشي بترنّح، ويمسكني الدكتور أشرف من يدي حتى يوصلني إلى المصعد، وتتكلف زوجتي بالباقي وتنوب عنّي في قيادة السيارة.
– أيّ نوع من البنّ تحضّر به القهوة؟
سألتُ يوما الدكتور أشرف
أجاب مبتسما:
-بنٌّ مستوردٌ من البرازيل لكنّ سرّ نكهته في طريقة تحضيره
ضحكتُ:
-تَسْلَم يديك.. ماهر في الجراحة وماهر أيضا في تحضير القهوة
أشعر بقرابة دموية تربطني بالدكتور أشرف، أرى ذلك في عيني زوجتي الخجولة التي تطمئن له، تخلع حجابها أمامه مثل شقيقها الأكبر، قبل أن يغلق غرفة الفحص ويختفي لساعتين أو أكثر يضع أمامي فنجان القهوة:
-اشربْ قهوتك ونم مطمئنا أختي بين يدين أمينتين
أدمنت على شرب قهوة الدكتور أشرف العجيبة، لولا مفعولها المخدّر لاستبدّت بي الأوهام والوساوس حول استغراق فحص روتيني للرّحم أزيد من ساعتين. لا أتخيّل أن تفتح فخذيها لرجل غريب وتلامس أصابعه شفتيها حتى لو كان طبيبا، لكنّ الدكتور أشرف فوق كلّ الشّبهات، ولاشكّ أنه لا يستغرق كل هذه المدة في الفحص حتى لا يوقظني من نومي.. أحيانا أسمع قهقهات من داخل غرفة مكتبه وأنا بين النوم والصّحو. لكنّ نكهة القهوة رائعة ومذاقها عجيب.. البرازيليون سحرة في كرة القدم وسحرة أيضا في زراعة أجود نكهات البنّ. الدكتور أشرف يفاجئني باكتشافاته، وزوجتي يلهمها كثيرا ولا يمكن ألاّ تتحدث عنه بإعجاب مرتين أو ثلاث مرات في اليوم.
رنّ الهاتف في عيادة الدكتور أشرف، لم تتمالك زوجتي نفسها وهي تخبره بنبأ انتحاري. ألغى جميع مواعيده وهبّ مسرعا لإلقاء النظرة الأخيرة. من حسن الحظ أنّ تلك لم تكن نظرتنا الأخيرة.
أنا شخصيّاً لم أصدّق بنفسي أنّي انتحرت. إلّا أن الرواية التي قدمتها زوجتي للمحققين جعلتني أصدّق قصة انتحاري، لم يكن انتحارا بالمعنى الحرفي للكلمة، بل تضحية. كانت تحكي زوجتي للمحققين وهي تجهش بالبكاء عن بطولتي وانتحاري الدرامي بعد تسرّب الغاز إلى غرفة النوم. شعرتُ أولاً بالاختناق، فأيقظتها لكنها كانت فاقدة الوعي. زحفتُ على أطرافي وأنا أسحبها من قدميها حتى اقتربت من باب غرفة النوم.. بلغت بصعوبة المقبض لفتح الباب كأنّني أفتح بابا فولاذيا، فتحته وأنا خائر القوى، دفعتها إلى الخارج وفي حركة لا إرادية وأثناء سحبها إلى الخارج أغلقت على نفسي الباب.
لم تستطع أن تُكملَ باقي الرواية، ونابَ عنها الدكتور أشرف في سرد أحداث عملي البطولي.
لا أتذكّر من هذه الأحداث إلاّ أنني في تلك الليلة المشؤومة عدت من العمل مرهقا، ونمت باكرا، فصحوت وأنا جثة. قبل أن أغمض عينيَّ لمحتُ خيالا يتّجه نحو نافذة شرفة غرفة النوم. للأسف لو كنتُ حياًّ لأخبرتُ المحقّقين بهذه المعلومة.
الدكتور أشرف مع زوجتي لوحدهما في غرفة النوم، أسمع تراتيل قرآنية بصوت الشّيخ عبد الباسط عبد الصمد من خيمة العزاء المنصوبة أمام باب البيت. فتحت زوجتي عينيها وفجأة انفجرت بالضحك وهي ترتمي على عنق الدكتور أشرف. بادلها العناق والقبل، عضّ شفتيها.. دفعته وأسرعت لإغلاق الباب بإحكام، ثم جذبته من حزام سرواله إلى السّرير.
لم ينتظر الدكتور أشرف ذهاب المعزّين، بل لم ينتظر حتّى أن يُخرجوا جثتي من بيتي ليحوّل غرفة نومي إلى عيادة خاصة.. يفتح فخذي زوجتي ويدغدغ شفتيها.
كلّ ذلك العمل البطولي الذي قمت به لأنتحر كي تعيش زوجتي كان مجرد سيناريو محبك اقتنعتُ به أنا قبل المحققين.
أقمتُ بين المشرحة وغرفة نومي، أتفرج على مغامرات الدكتور أشرف الجنسية على سريري بمناماتي وقمصاني وجواربي، إلى أن نفخَ بطن زوجتي كالبالونة.. تدريجيا تكوّر بطنها.. شهور من الحمل كانت بالنسبة لها جحيما.. لم تعد تطيق رؤية الدكتور أشرف.. تبصق قي وجهه.. تخدشه بأظافرها.
في يوم المخاض هيّأت نفسي لهذه اللحظة لأغادر الجثّة.. نصف يوم من الألم والانتظار بعيادة الدكتور أشرف. أخيرا استقبل العالم مولودا يُشْبِهُني، لم يكن يُشْبِهُني فقط بل هو أنا!!


الكاتب : توفيق مصباح

  

بتاريخ : 23/04/2021

أخبار مرتبطة

صدر حديثًا عن دار أكورا للنشر والتوزيع، طنجة، المغرب، بدعم من وزارة الشباب والثقافة والتواصل ـ قطاع الثقافة كتاب «الأفق

عن دار «أكورا للنشر والتوزيع»، صدرت للكاتب محمد صوف رواية بعنوان» أولاد الكاريان». يتقمص المكان في هذه الرواية دور الشخصية

عنوان مثير لرواية تكشف في تفاصيل سردها عن أقسى اللحظات، أفظع ما قد يصادف إنسانا في بداية حياته، حيث يمارس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *