لقد غاصت المنطقة العربية – في الغالب من أقطارها – في مستنقع آسن من الأزمات السوسيو-سياسية، غير مسبوقة في تاريخها المعاصر…
ولئن شكلت حقبة «الربيع العربي»، بما طبعها من صراعات سياسية، مجتمعية محتدمة، وبما تمخض عنها من أوضاع اجتماعية هشة، وعواقب أمنية خطيرة – شكلت في مجموعها عامل تعميق وتسريع لدينامية مأزومية الوضع العربي – فإن جذور وبواعث هذه المأزومية كانت كامنة، زاحفة في حقبة ما قبل «الربيع العربي».
بيد أن المتغيرات السياسية التي نلاحظ تواترها على مسرح الأحداث السياسية والجيوسياسية في العالم العربي، في الشهور والأسابيع الأخيرة، توحي، بكثير من التفاؤل، لكن بغير قليل من اليقظة والحيطة، بانطلاق دينامية انفراجات واعدة في الوضع العربي المأزوم..
ومما لا شك فيه، أن الانسحاب «المفاجئ» للقوات الأمريكية من «شرق الفرات»، بسوريا، والاتفاق المبرم بالسويد بين الأطراف اليمنية المتحاربة، تحت إشراف أممي، وإن تعثرت مخرجاته، وكذا اتجاه الأطراف العربية نحو دعم إرساء حل سياسي نهائي للأزمة السورية، في إطار سيادة سوريا ووحدة ترابها، مشفوعاً بالتوجه نحو إعادة تفعيل دور جامعة الدول العربية – تمثل هذه المتغيرات الهامة، إرهاصات واعدة لتحول حثيث في الوضع العربي المأزوم…
وفي سياق هذه التطورات الإيجابية، يبدو من الأهمية بمكان إجراء تقدير نقدي، لكن بروح بناءة، لشروط الوضع العربي عبر جدلية مساره، في طرفها السلبي، وفي أفقها الإيجابي.
أولاً: «الربيع العربي» ومأزومية الوضع العربي:
ليس من المهم، في سياق تحليلنا لنتائج وعواقب «الربيع العربي»، بسطُ الحصيلة، الكمية والنوعية، السلبية لهذه الحقبة الحرجة من تاريخ العرب الراهن، بقدر ما يهمنا التوقف عند الإشكاليات الكبرى، الأمنية، والسوسيو-سياسية، والجيوسياسية التي باتت تحاصر الأقطار العربية…
I/ وتمثل إشكالية الإرهاب الذي انتعش وتناسل في أكثر من منطقة عربية، في شروط الفوضى السياسية التي نجمت عن غياب بديل ديمقراطي وطني قادر على سد «الفراغ» المؤسساتي الذي تلا انهيار الأنظمة السياسية الأوتوقراطية المنهارة.
ولئن وجد النشاط الإرهابي أرضاً خصبة في مناطق الأزمات السياسية بالعالم العربي، فإن انتشاره وتمركزه ظلا مرتبطين بـ «ميولات الهيمنة» لدى القوى العالمية الكبرى، التي لم تُحجم عن استثماره وتوظيفه للدفاع عن مصالحها الاستراتيجية.
ولم تُعدِمْ هذه القوى العالمية، إيجاد «تبرير» إيديولوجي لعملية توظيف الإرهاب كأداة فاعلة للدفاع عن المصالح الاستراتيجية، إذ وجدت في نظريتي «نهاية التاريخ» لـِـ فرانسيس فوكوياما، و»صدام الحضارات» لــِ سامويل هانتنكون، مرتكزاً فكرياً لشرعنة الطرح الهُواياتي في الصراعات العالمية. فقد وجد تيار «المحافظين الجدد» في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن والاهم من المريدين والأتباع الأوربيين، في هذا الطرح، سنداً فكرياً وسياسياً وإيديولوجياً للذهاب أبعد في الغزو المباشر وغير المباشر لعدد من أقطار الشرق الأوسط.
إن خاصية الإشكالية الإرهابية في جغرافية منطقة المينا (MENA)، أنها إشكالية مزدوجة البواعث والمحددات، يتقاطع في تغذيتها الإشكال الوطني، المحلي، بالبعد الإقليمي والدولي؛ إذ ما كان للظاهرة الإرهابية أن تأخذ الأبعاد الإقليمية والدولية التي اتخذتها في أعقاب حرب أفغانستان، وفي غضون احتلال العراق، بصفة خاصة، لولا اندراجها في معمعان الصراع الدولي، كآلية فاعلة في إعادة هيكلة العلاقات الدولية والتوازنات الإقليمية…
ولم يتسبب انتعاش وانتشار شبكات الإرهاب، وتمدد أخطبوطه الإيديولوجي، التكفيري المتوحش في تأجيج مواجهة حادة بين العالم الإسلامي، والعالم غير الإسلامي وحسب، بل افتعلا عداوة مكينة بين الإسلام والحداثة، بين قيم الاعتدال والتسامح التي تشكل روح الإسلام وتطبع تعاليمه، وبين متطلبات التنوير والتطوير والتقدم التي تستدعيها الحداثة.
II/ ثانية الإشكاليات، تتجسد في الانهيار الاقتصادي الذي طال اقتصاديات الأقطار العربية التي اجتاحتها عاصفة «الربيع العربي». ففي دراسة من إنجاز «المنتدى الاستراتيجي العربي» (الاسكوا)، فإن حجم الضرر في البنية التحتية للأقطار التي عصفت بها أحداث «الربيع العربي» يناهز خمسمائة مليار دولار، وأن مجمل الخسارة المادية تتجاوز ستمئة مليار دولار، وأن حجم الخسائر التي خلفها «الربيع العربي» يعادل، عموما، نسبة 6% من الناتج الداخلي الإجمالي، في المنطقة العربية، ما بين سنة 2001 وسنة 2015. وفي ظل هذه المعطيات الاقتصادية الرقمية، فإن اقتصاديات أقطار «الربيع العربي « لا تزال تعاني من مضاعفات هذه الإشكالية، بأبعادها الاجتماعية والمعيشية، بل إن مضاعفاتها الاجتماعية أضحت مصدراً أساسياً للتوترات الاجتماعية والسياسية الماثلة…
III/ ثالثة الإشكاليات، وتتصل بتشظي الهوية الثقافية-الحضارية للمجموعة العربية التي يُشكل لحمتها التاريخ واللغة والثقافة ووحدة المصير من الخليج إلى المحيط. فـ»العروبة» التي شكلت، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، هُوية، قومية، جامعة، في سياق المشروع التحرري العربي، لمواجهة الاستعمار وإحباط مخططات هيمنة القوى الأجنبية، الإقليمية والدولية، لم تكن متعارضة، ولا متناقصة مع الهويات الوطنية القطرية، بل سعت لأن تكون مظلة ثقافية، حضارية، حداثية، وبوثقة للنضال المشترك، تنصهر في حمأته مختلف الهويات الثقافية، والدينية، والاثنيات العرقية المتعايشة في الفضاء العربي-الإسلامي.
بيد أن الذي حصل في سياق تداعيات «الربيع العربي» هو «انفجار هُوياتي»، انتعشت في شروطه الهويات الطائفية والعرقية، بل والعشائرية، مما عرض الوحدة الوطنية، على الصعيد القطري، إلى مخاطر التفكك والتبدد، فضلاً عما طال الهوية الجمعية القومية، من جحود وتراجع في الوعي المجتمعي، أفضيا بدورهما إلى إضعاف روح التفاعل والتضامن والتكافل التي شكلت وتشكل قوام «العروبة»، كما تكرس إطارها الجغرافي: «الوطن العربي».
لقد شكل انفجار الهوية القومية، العروبية، وتشظي الهوية الوطنية، القطرية، إلى هويات تجزيئية، طائفية أو عشائرية أو مناطقية الخ… انحرافاً لافتاً في مسار التطور الحداثي المنشود، الذي تتحول بمقتضاه الهويات الميكرو-ثقافية إلى هوية وطنية ماكرو-ثقافية، جامعة، تنصهر في بُوتقتها مختلف الهويات التجزيئية، على قاعدة مفهوم «المواطنة»، وعياً وممارسة.
IV/ رابعة الإشكاليات، تنصب على تصاعد دينامية الاستقطابات الدولية والإقليمية التي تفعل فعلها في تشتيت الموقف الجمعي العربي، وفي تهميش علاقات التضامن العربية-العربية، وإخضاع رؤية ومتطلبات «الأمن القومي» العربي إلى اعتبارات ومصالح الأمن القومي الأجنبي، الدولي والإقليمي…
وفي سياق هذا التقدير الموضوعي الذي لا يبتعد كثيراً عن حقيقة المسارات «الجيو-سياسية التي تخترق منطقة الشرق الأوسط، يمكن قراءة ما يُعقد من «تكتلات» و»محاور» ظرفية، تكرس انقساماً مقلقاً، سياسياً وميدانياً، في مؤسسات العمل والتضامن العربيين، وفي مقدمتها منظومة المؤسسات المشتركة، السياسية والاقتصادية والثقافية، المنضوية تحت لواء «جامعة الدول العربية».
وفي كنف هذه المتغيرات الجيو-سياسية المؤسفة، تعرف القضية الفلسطينية تراجعاً مطرداً في ترتيبها كقضية قومية تحظى بالأسبقية في سلم الأولويات العربية، كما تعرف انقساماً حاداً في الصف الفلسطيني، تُغذيه حالة الفرقة السائدة في الصف العربي…
ثانياً: الوعي بمحددات الأزمة: مفتاح كسر طوقها:
يشي مسلسل المأزومية التي أفضت بالوضع العربي إلى ما هو عليه اليوم من تشرذم وتخبط، بفداحة الفشل الذي أصاب مشروعه المجتمعي، منذ تسعينيات القرن الماضي بصفة خاصة.
I/ فقد راهن المشروع المجتمعي العربي، في حقبة ما قبل «الربيع العربي»، على إنجاز قضايا وطموحات قومية، حيوية عامة، هي قضايا التحرير والتحديث، ولكنه تغافل عن القضايا الوطنية، القطرية الخاصة، التي تشكل الأرضية الصلبة لمعركة التحرير والتحديث، وفي مقدمتها قضية بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، دولة المؤسسات والحق والقانون، وقضية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتنموية الشاملة التي تستهدف تنمية الإنسان، وصيانة كرامته؛ وقضية الديمقراطية التشاركية التي تمكن الشعب من المشاركة الفعلية في اتخاذ القرار السياسي والتنموي وفي تفعيله…
ولئن ترجمت انتفاضات «الربيع العربي»، إرادة شعبية حازمة، حاسمة لتغيير الأوضاع الاجتماعية، وتقويم الاختيارات السياسية، وتحقيق المطامح الشعبية،فإن انعطاف مسار الانتفاضات الشعبية نحو مربع «اللا ثورة»، قد أصاب في مقتل ما تبقى من أوهام المشروع المجتمعي العربي السابق…
ويكمن المأزق العربي الراهن في ما يعيشه العرب اليوم من مفارقة بالغة الدلالة بين إفلاس مشروعهم المجتمعي، بشقيه القطري والإقليمي، من جانب، وانبعاث مشاريع إقليمية ناهضة، أبرزها المشروع الإيراني والمشروع التركي، من جانب آخر. وفي غياب مشروع إقليمي عربي وازن، فإن المصالح الإقليمية العربية، بما فيها «الأمن القومي» العربي، تظل عرضة للاحتواء والاستلاب…
ومن حسن حظ أقطار ودول عربية محدودة العدد، ولكنها نموذجية المثال، أنها ظلت ولا تزال خارج حدود مربع الأزمة، بفضل تبصرها السياسي، وفعلها الاستباقي في مجال الإصلاح الديمقراطي والتحديث المؤسساتي من جهة، وبفضل مزايا فرادتها التاريخية، وخصوصيتها الثقافية من جهة أخرى. ويَحتل المغرب طليعة هذه الأقطار «الناجية» من أعطاب «الربيع العربي».
II/ لكن مأزومية الوضع العربي ليست قدراً مكتوباً، ولا مصيراً محتوماً، بل هي حالة طارئة، وليدة مسببات، تنتهي بانتهائها.
وفي ظل ما أسفرت عنه الأوضاع الداخلية، والسياسات الإقليمية – وهما حلقتان مترابطتان – لعدد من الدول العربية الوازنة في منطقة «المينا» (الشرق الأوسط وشمال إفريقيا)، من مأزق سياسي وجيوسياسي، تاريخي، غير مسبوق – فإن استنهاض الوعي بأبعاد ومخاطر الأزمة، وعودة الروح إلى مشروع النهضة، ليشكل، في نظرنا، المدخل الضروري لتشكيل مقومات حقبة ما بعد «الربيع العربي»، واستعادة الدور الإقليمي والدولي لـ»القطب العربي».
ثالثاً: في مقدمات المشروع النهضوي العربي:
وفي هذا الاتجاه، فإن هناك أربع فواتح يمكن الأخذ بناصيتها لطي صفحة النزاعات والتشرذم، وفتح صفحة جديدة، واعدة، من التعاون والتآزر:
الفاتحة الأولى: المبادرة بتسوية النزاعات العربية-العربية، وفق منهجية الحوار، وعلى قاعدة عدم التدخل في الشأن الداخلي للغير، والتقيد بمقتضيات ميثاق «جامعة الدول العربية»؛ فالحوار الدبلوماسي يمثل أفضل الوسائل وأنجع المقاربات لاحتواء النزاعات، وتخفيض التوترات، ومعالجة المشاكل وحل الخلافات…
وفي هذا الاتجاه، فإن التعجيل بتفعيل الخيار الدبلوماسي، وتنزيل الحل السياسي للنزاعات العربية-العربية، باتا ضروريين، حيويين لإنهاء الأزمة السورية، ومعالجة الأزمتين اليمنية والليبية، وتعبئة الوسائل الضرورية إقليمياً، لتوفير المساعدات الإنسانية للملايين من النازحين واللاجئين، ضحايا الأزمة، وتسهيل عودتهم إلى أوطانهم ومناطقهم، وكذا دعم جهود إعمار ما خربته الحرب.
الفاتحة الثانية: الانخراط الجماعي في صياغة وتفعيل استراتيجية عربية مشتركة لمواجهة ظاهرة الإرهاب ومحاصرة أخطبوته، ميدانياً وفكرياً، وتعبئة الوسائل المادية والمعنوية الضرورية لاستئصال شأقته؛
الفاتحة الثالثة: إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية باعتبارها أولوية الأولويات في انشغالات وترقبات الشعوب العربية من جانب، ولكونها تمثل محور النزاع العربي-الإسرائيلي من جانب آخر.
ولا ريب، فإن استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية المحتلة في فلسطين، والجولان السوري، وجنوب لبنان، وسعي إسرائيل الحثيث إلى تقويض «حل الدولتين»، كما أقرته الشرعية الدولية، و»المبادرة العربية»، شكلا ويشكلان مخاطر محدقة بالاستقرار والسلام في منطقة الشرق الأوسط؛
الفاتحة الرابعة: العمل على تسوية النزاعات، وتخفيض التوترات مع دول الجوار الإقليمي، التركي والإيراني تحديداً، على طريق إرساء نظام إقليمي، شرق أوسطي، قوامه التعايش والتعاون والتشارك بين الأقطاب الإقليمية الثلاثة: العربي والإيراني والتركي، على قاعدة الالتزام بمبادئ سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وغايته تعزيز «الأمن القومي»، واحترام المصالح المشروعة لكل طرف من الأطراف الإقليمية الثلاثة، وكذا إرساء شراكات تنموية إقليمية، شرق أوسطية، من شأنها تعزيز المشاريع الوطنية للتنمية، ومنحها بعداً إقليمياً واعداً.
ولا غرو، فإن الأطراف الثلاثة، العربية والتركية والإيرانية، لها مصلحة إقليمية مشتركة من جوانب ثلاثة: أولها: أن حماية «الأمن الإقليمي» في الشرق الأوسط تعود بالأساس إلى دول الإقليم، ولا يمكن التفريط بها أو التنازل عنها لفائدة قوى خارج تراب الإقليم؛ ثانيها: أن من شروط الاستقرار والسلام في الإقليم، كفالة حرية الملاحة وسيولة التجارة في البحار والمضايق الإقليمية، الشرق الأوسطية، وهي المجالات التي تعبرها نحو 40% من المبادلات الدولية، ثالثها: التزام الأطراف الإقليمية الشرق أوسطية بالسهر على جعل منطقة الشرق الأوسط خالية من السلاح النووي، إنتاجاً أو تخزيناً، حفاظاً على أمن وسلامة شعوب المنطقة، ودعماً لجهود المجتمع الأممي والدولي في حظر انتشار أسلحة الدمار الشامل.
ويبدو لنا أن هذه الفواتح الأربع قد تشكل مدخلاً لمشروع عربي، إقليمي نهضوي، من شأنه توفير المناخ السياسي والجيوسياسي الضروري لإطلاق مشاريع إصلاحية قطرية، في مجالات الإصلاح الديمقراطي، والتحديث المؤسساتي، وبناء وتعزيز دولة القانون والمؤسسات في الأقطار العربية.