لا وداع يليق بالموتى

 

إلى سلمى؛ لا وداع يليقُ بك!

الجسد المسجى فقد القدرة على التفاعل مع مكونات العالم وعلى التجسد على الهيأة التي يختارها في هذا الكون. لقد فقد حتى القدرة على الاختيار. هكذا: يسجى ويغسل ويدفن وفق ما شاء له الآخرون. لا ذراعين ستمتدان من خلف الموت ليعانقا الحزن الذي وسّع دائرته بداخلك. وعليك أن تعترفي الآن (وكل مرة توجدين فيها أمام الموت) أن بعض عجز هذا الجسد الهامد قد انتقل إليك، فلا تستطيعين شيئا في مواجهة ما يعتريك من فراغ وعدم قدرة على الفعل. اخفضي رأسك ونفسك واستسلمي للعاصفة الهوجاء وهي تزمجر بداخل روحك. اسمعي صخب حزن الفقد اللارجعة منه أو عنه. وداعا، إذن. وداعا، دونما فرصة لحديث أخير، وليظل الكلام الذي لم ينطق عالقا في مسام جلدك؛ كلما استيقظت الحياة حكّكِ وتحول إلى شعور مشوه بالألم وبالحب. الجسد المسجى في مكان ما من هذا العالم (الأجساد المسجاة)، الثقب الأسود بداخلك الذي يمتلئ بالحياة التي تنتقل إلى حيث لا رجعة. الفقد أسوأ إذ لا يوجد إله يسعفك في اختيار غد لما بعد الموت. لا إله يقنعك بجدوى التوقع والانتظار. النهايات الحتمية، الحادة، القطعية، التي تفصل بين الوجود والعدم، نهايات لا تتيح لك مجالا لتستريحي على أكف إيمان بلقاء ممكن أو بجزاء ما. عليك أن تقبلي النهاية. احمليها حتى تئن عظامك بالتهاب المفاصل، واحمليها حتى تري لمعة الفرح الغريب في مستهل الربيع وهو يعانق حزنك ويصفيه من شوائب الغضب. تنهزمين إذن وتقفين وتنهزمين… ثم يتملكك الانهيار فتصيرين مثل هلام، تَجْرين مثل نهر إلى حتفك حيث يختفي كل شيء، ولا تتوقعين أي شيء. حتى ما يمكن أن تحققيه في هذا العالم يصبح مجرد احتمال بالتواجد حيث لن تكوني. فهل يجب أن تحققي أي شيء؟ وهل يجب أن تكتبي وأن تسعي وأن تكسري أغلالك واحدا تلو الآخر؟ «الموت الأخير هو أول موت»، «الفقد الأخير هو أول فقد». تجمعين رفات موتاك في كل مرة. تعدينها. تنصبين لها التذكارات. تهددينها. تلعنينها. تعانقينها. تقتلينها. تحاولين تجاوزها ولا تقدرين. في المرة المقبلة التي يموت فيها أحد، سوف لن تبكي أطلالا كانت، فأنت اللاحقة. أنت التابعة. ولكن عندما يصل الموت بغتة إلى ديارك وقد تجاوزك مرة أخرى، تستعجلين الصراخ ولا تصرخين، ويظل عالقا بداخلك الكلام الذي توقف في منتصفه، والعناق الأخير الذي «هل كان مؤذنا بالنهاية»! وهل يصل الموت إلا بغتة لكي يضع حدا لمعجزة صغيرة؟ لا تحسبين أيامك بعد موتاك. تلمين ثقبك الأسود وتحاولين أن تخففي من جوعه. ألا يلتهمكِ إذن، إن لم يشبع الموت مما أخذه إلى الآن؟ في حديث عابر، كان عليك أن تذكري أسماء الموتى واحدا واحدا، فنطقتها على عجل والسكين ينغرز في الجرح والألم يتمدد وينقبض مثل موج يلاعب الحصى. أي اسم أجمل وأي اسم أحن وأي اسم أكثر تواطؤا وأي اسم احتل حديقة الصيف فيك؟ وهل لجسد مسجى في مكان ما أن يحمل ما له وما عليه. ومثل أوراق «الطارو»، تضعين أسماءك أمامك على الطاولة. بكل ألوان هذا الربيع الأحمق الذي يعاند الجفاف والسياسة والحرب والهجرة والخوف والتضخم وجميع الآفات، تتراص الأسماء مضمخة بميزاتها وبعيوبها. تعرفين أنها لم تكن كاملة ومثالية، ولكنك فقدت إلى الأبد، إمكانية مواجهتها حتى تدافع عن نفسها. ما عليك سوى أن تطاوعي رغبتك في الانقضاض على ورق الأسماء لتنهشيه. احتكمي إلى الصمت. الموتى لا يضحكون ولا يبكون ولا يعترفون ولا يبررون ولا يشرحون ولا يعتذرون. يصمتون فقط. يصمتون، فاصمتي. وإن غلب الحب، فالحب لا يقوى إلا بالمجادلة. فكيف تجادلين الصمت المبرح الذي يأتي من المقابر؟ واذكري، أنت اللاهية عن الذكر، موتاك بالخير. ولكنك لا تحبين التماثيل التي تصنع للغائبين. التماثيل المثالية التي تغطي ألم الحياة الذي تسلل إلى موتاك مثلما تسلل إليك ومثلما يتسلل إلى كل شخص. لا أحد ينجو من جراح الحياة. الجراح التي تصنع الإنسان وتبنيه. تحبين عيوبهم وجبنهم وعجزهم وهم يغادرون مسالمين وهادئين. أو لم يكن ممكنا أن يستفيض الصراخ بداخلهم ليتحول إلى انتفاضة ضد النهاية الحتمية؟ أولم يكن ممكنا أن يختاروا نهاية أخرى حيث يمكن أن تُكتب رسالة وداع أو أن يُجرى حديث أخير طويل، طويل؟ وهكذا، وبينما الصيف يوشك أن يغادر، وضع الموت حدا لحديث آخر. وفي ذلك الصباح، صمت شيء آخر بداخلك. وصمت البكاء والعويل والصراخ. وكان عليك فقط أن تتدبري أمر غياب آخر في حين اعتقدت لوهلة أنك لن تتمكني من التنفس بعد الآن. ولكن، في مواجهة الجسد المسجى في مكان ما، ظلت خلايا جسدك تدب في الطرقات والأماكن الغريبة. وفي حين ترين الجسد المسجى عاجزا عن أي اختيار، تكتشفين ألا حرية لديك: الحزن الذي يخترق أحشاءك مثل سكين ثم يستقر هادئا، وفقط إذا ما ذكرته أو تذكرته، يتيقظ ألما، والحياة التي تستمر فيك، تحيك حبالها حول سكين الحزن، تراوغه، تحتويه، تزينه، تعانده، تخفيه أو تظهره كما عنَّ لها، وأنت مثل السهم الذي لم يختر قوسه ولا مستقره، عالقة بين اللحظتين. لا حق لك في الاختيار. أنت المسجاة في جسد غير آمن، هاربة منكِ، هاربة إلى ثقبك الأسود، تبحثين فيه عن موتاك، عنك. ولا شيء يخرج من هناك سوى الصمت. تريدين حديثا أخيرا مع من رحلوا. وهل رحلوا أم أنك من بقيت ملتصقة بالفيزياء. حركة واحدة، ثم أخرى، ثم أخرى… لتمتد الحياة من حيث لا تدرين إلى حيث لا تدرين. ثُقب صغير أسود ينتشر بداخلك في صمت، يؤرق ليلك ونهارك. حديث آخر، غير ممكن. مستحيل. لا يتحقق. الآن وأبدا لقد فقدت القدرة على اختيار الطريقة الأنسب لوداع الآخرين.


الكاتب : فاطمة الزهراء الرغيوي

  

بتاريخ : 12/05/2023