لا يموت

الآخرون هم الذين يموتون…
أبي لا يموت.. مات عمي الذي في البادية. مات عندما ركلته البقرة المرقعة؛ ركلته بين فخذيه فارتمى دودة دون حراك. ماتت البقرة بعده بشهور. قالوا إنها حزنت كثيرا لأنها كانت تعرف أنها قتلته. قبل أن تموت امتنعت عن الأكل وصارت تركل عجلها كلما اقترب منها ليرضع.. بكت أمي. قالت إنه لا يزال صغيرا؛ حرام. أبي لم يبكِ. كنت أراه كبيرا فلم أبكِ. أمي قالت إنه لم يتجاوز الثلاثين… لم يعد دجاجه يزور بيتنا وبيضه اختفى. اختفت ضحكاته ورائحة الدخان في ثيابه.
عمي الآخر مات في الأربعين. أبي قال إنه مات لأن أمه سخطت عليه ذات ليلة دخل فيها سكرانا. مات عندما أصيب بمرض في يده. كان يحمل يده المثقوبة المتقيحة ويصيح: «مّييمْتي.. ميييتمي كنموت». “مّيمته” ماتت منذ زمن بعيد. أبي قال إن يده ثقبت لأنه كان سارقا. حكى لنا كيف كان يسرق البيض والنقود من أمه. لم يحْكِ لي؛ فقط سمعته يقول وأنا أجلب له غُرّافَ ماء. عمتي قالت لو كان يصيح “ربييييي” لما مات، الله غضب عليه فأماته! قالت وحركت حبة أخرى في السبحة وأغمضت عينيها ومسحت أنفها بطرف منديلها الذي تغطي به رأسها.
حتى هذه العمتي ماتت وكانت تنادي عندما مرضت: «ربّيييييييي ربّيييييي». أمي قالت إنها سمعتها ذات ليلة تنادي وهي تعض على شفتها السفلى: «ميييييييمتي كنموووت». أبي قال إنها مرضت لأن قلبها فقص فمرضت حتى ماتت؛ لم تتزوج وكانت تقول دائما إنها تتمنى لو تلد فتاة. قبل أن تموت جاءت عندنا وبقيت ثلاثة شهور تذهب إلى المستشفى.
جارنا الأقرع مات عندما سقط عن دراجته في بركة غيس سوداء. قالوا إنه اصطدم بحجرة كبيرة وعندما سقط على الأرض التوى عنقه وتكركب حتى سقط في البركة. يستحق ذلك، كان قلبه أسود؛ قالوا.
جارنا العساس مات لأنه بال في قادوس ليلا. قالوا ضربه جني فوجدوه في الصباح ممددا على كرشه، فمه محلول واللعاب يغطي الأرض تحته. مسخوط الوالدين كان لا يصلي ولا يذكر الله. مات كلبه قبله بأسبوعين؛ مات عندما ابتلع عظما كبيرا وقف في حلقه. ضربه العساس على قفاه بكل قواه لكنه لم يفلح في إخراج العظم العالق.
ماتت “حنّة” أم أمي. مات ابن عمي. ماتت جارتنا العمياء، زوجة عمي الآخر، جارنا الذي كان يأكل عندنا الكسكس، ابنة عمتي المتزوجة في البادية. أنا كدت أموت ذات صباح عندما ابتلعت قطعة نقود صفراء أعطتها لي أمي لأجلب بها النعناع. وضعتها في فمي لكن الملعونة تسربت إلى حلقي ووقفت فيه. أمي قالت لجارتنا الصحراوية ذات صباح وهي تنقي السردين عند عتبة البيت: «البارحة كدت أموت بالفقصة، أويلي يا صحيبتي، دايما يعطيني بالظهر وينام!» ضحكتا. وشوشت لها جارتنا فضربتها على فخذها وقالت لها: «الله يمسخك»… ضحكتا.
أبي لا يموت. منذ زمن بعيد وهو كائن. أنا الآن في السنة الثالثة في المدرسة القريبة من زقاقنا والمتربعة جنب المزبلة الكبيرة. أيام كثيرة جدا لم أستطع حسابها وشهور وهو كائن. أبي كبير جدا وعندما يكون واقفا لا تصل إليه عيناي. أمي تقول إن أباها مات عندما صار كبيرا. حتى “حنة” ماتت عندما صارت كذلك. كل الذين ماتوا كانوا كبارا حتى إنهم كانوا ينحنون عندما يريدون تقبيل طفل أو حمل شيء على الأرض. أبي كان لا ينحني ليقبلني. كان ينحني ليقبل خدي ابنة خالة أمي التي كانت تزورنا، تلبس سروال جينز ضيق وشعرها قصير وصدرها كبير وشفتاها تبرقان بالأحمر.
قال مرة إن الموت يخطف فقط الطيبين؛ الأشرار لا يموتون. قال وتنهد. قال وكان الفقيه في بيتنا يشفط الشاي الساخن، ويفترس الحلوى قبل أن تضع أمي قصعة الكسكس أمامهما. قال وكان عمي طيبا رغم أنه كان سارقا. يرحمه لله.


الكاتب : عبد الهادي الفحيلي

  

بتاريخ : 08/10/2021