لغة الجسد في أعمال الفنانة التشكيلية المغربية حنان معكوز

 

لوحة جذابة بمعالمها الجسدية ولمسة فنانة عصامية ترسم بقوة وإصرار ، وتتحمل ضغوطات الأهواء و الأجواء ، كمن يبقى يحلق أطول مدة في السماء في تحد كبير للجاذبية دون أن يهوي إلى الأرض ، لتنجز أعمالا فنية شيئا ما جريئة ، حبلى بالرسائل الصادقة والعميقة ، والتي تستمد جماليتها من بساطتها ، ووضوحها الذي ينآى عن الإبهام الملتصق بالتجريد.
فالفنانة التشكيلية المغربية حنان عكوز اعتمدت على ثنائية الشكل واللون في بناء هذه اللوحة لتخلق الانسجام ، وتضفي شيئا من الصبغة الواقعية على جسد ، يبدو للعيان من الزواية الجانبية اليسرى ، و من خلال تموقعه في هندسة مكان ، شبيه بجدار يمثل ركنا من أركان فضاء ، دون تحديد مكانه و لا القسمات المحددة لملامحه ، وكأنها ترسم المجهول ، وتنزع عن الجسد هويته وروحه ، دون أن تفرغه من قيمته.
لذلك تجدها تُبقي على ثوبه ، تفاديا وتجنبا للإثارة التي قد تذهب بعمقه ، وتفرغه من قيمته المترجمة لرؤية فنانة تتحايل على الواقع بالخيال ، وتمزج بين ما هو أصيل وعصري ، مما يبعث على التوهج والانفتاح ، ويمنح المتعة الساحرة اعتمادا على جسد امرأة يختلف عن تلك الأجساد التي تعايش معها في رسوماته المغربي عزيز السيد و لا يشبهها في شيء ، إذ هي تراه أداة تعبير عن رؤى الإنسان لأفكاره الأكثر عمقاً ، واكتشاف دقيق للجمال ، وانسجامه مع الروح دون السقوط في المحاكاة الحرفية التي تصنع صورة محضة بواقعيتها المفرطة التي قد تستغني عن إمعان يبعث على التفكير ،ترجوه فنانتنا وهي تقدم عملا جاء بلمسة تباغت المتلقي وتفاجؤه ، فيه شيء من الجرأة ، تكسر الطابوهات لتقتل تلك النظرة للجسد الأنثوي التي ٌينظر إليه وكانه فقط عورة او وسيلة للمتعة .
لذلك تغيب في هذه اللوحة بعض مفاتن المرأة الحساسة ، ويحضر انكسارها ، يترجمه انحناء رأسها تاركا وراءه شعرا يخفي جزءا من كتفها العاري ، يكسو بعض خصلاته شيب مصطنع ، تفرضه الموضة ، لا يأخذ من رونقه شيئا.
شعر يستمد لونه من الحناء ، يوحي بالهوية ، و يظهر بتسريحة تعبر عن الحرية التي يتوق إليها جسد يعج باللمسات المشاغبة ، والمستفزة ، قابع في مكانه كالتمثال ، و في وضعية مستوحاة ربما من حركة فنانة من راقصات البالي ، خاصة وأن المبدعة تهوى الرقص الراقي ، مما يعطي الانطباع بأنه يحاور المتلقي .
هذا الأمر يتكرر في أعمالها الأخرى التي تم عرضها سابقا ولكن بطريقة مختلفة ، حيث غالبا ما تقذفه داخل فضاء تغلب عليه العتمة ، وكأنها بذلك تشير إلى أن الجسد الجميل ذاك، لازال قابعا في الظلام ، عكس الصورة أمامنا ، فهي تبدو بلون منفرج نسبيا ، يزيح رويدا رويدا ذلك الظل الذي يحيط بالعنصر الأساس ، وفي ذلك إشارة لنضال المرأة المغربية المعاصرة من أجل التحرر ، مما يجعل من تجربتها امتدادا لتساؤلات مجهولة حول جسد أنثوي يتكرر في وضعيات مختلفة في جل لوحاتها ، حيث ترصده بطريقة تشكيلية و تعبيرية.
صورة الجسد بالنسبة لها هي أكثر صورة مناسبة للتعبير عما يحمله الفنان بداخله لتجعله قريبا من ذاته كما صرحت بذلك ، ولذلك تحاول إخراجه من صورته النمطية المرتبطة بالإغواء إلى رمز آخر ينبثق من فكر سام ، يمتح من العصر دون التخلي عن الأعراف والمٌثل ، والهوية المغربية الأصيلة ، و مفعم برسائل عديدة يبعثها إلى المتلقي جسد في وضع غير مريح ، و هيأة تجعله يبدو و كأنه يحاول فك رباط حبل لا مرئي يمنعه من الحركة ، ويلزمه البقاء داخل مكان مظلم ، ويمنعه من التحرك في اتجاه فضاء جاء أكثر شساعة بفعل لون بني يشمله بالكامل ، يمثل الأمان والحماية ، و ملجأ من فوضى العالم الخارجي ، و يبعد تلك الصبغة الدرامية على عمل يعكس سمة امرأة مغربية عصرية ، و منفتحة على أفكار متجددة ، تنبذ القيود ، تتقمص شخصية المرأة المرسومة بلطف و بعناية فائقة وبضربات فرشاة غير عنيفة ، وبلمسات قد تجنبت بلا شك ، خدش أنوثتها التي تتجسد في نعومة فستانها العصري الأنيق بلونه الأخضر الذي يمنح النضارة لجسد تم بناؤه على شكل مثلث ، وتقديمه بطريقة عمودية لمنحه الثبات و السمو ، وللصورة بعدا أسطوريا مرتبطا بالخصوبة ، يوحي برمزية قديمة
هذه الرمزية، تبدو جلية في شكل المثلث الخاص بتانيت التي كانت معبودة شعبية مرتبطه بالإنجاب في قرطاج منذ القرن الرابع أو الخامس قبل الميلاد ، كما يعتقد البعض ، وكأن بالفنانة تقتفي آثار العديد من الفنانين الكبار الذين تعاقبوا على مر السنين والذين عمدوا إلى رسم هذا الشكل المقدس عند العديد من الحضارات القديمة ليرمزوا به إلى المرأة التي طالما حضيت بمكانة رفيعة منذ القدم. فالعمل الفني يصبح بقيمته إذا كان يوحي بأسطورة أو حكاية ، وهذا ما عملت عليه فنانة مغربية أصيلة تقطن بالقنيطرة ، تعمل على التوفيق بين الرسم ووظيفتها في العمالة ، دون إغفال أسرتها.لقد عشقت هذا الفن ومارسته منذ الطفولة ، وهي تشاهد عمها الذي كان رساما .رغم أنها لم تٌتح لها الفرصة للولوج إلى أي معهد متخصص للفن التشكيلي ، فأنها صقلت موهبتها بالممارسة والاطلاع على اعمال من سبقها في هذا المضمار ، و من خلال احتكاكها بتشكيليين أثناء مشاركاتها في عدة معارض ومهرجانات بالمغرب بأعمال متفردة ، وهبت لها إسما وحضورا ، تتميز بندرة الألوان الفاتحة والصاخبة ، نظير هذه القماشة التي يحضر فيها لون غير متوهج ، وكأنه يستمد ضياءه من نور شمعة في مرحلتها الأخيرة ، وعتمة دون غيرهما ليخلقا بعنصرين مختلفين ، ازدواجية تمثل صراعا بين التنوير والتعتيم ، لا ينتهي إلا مع آخر الإمعان ، يتجسد بفعل تدرجات اللون الغامق .هذا البني يمنح لوحده تلك الحميمية المستوحاة من صورة المرأة النائمة التي رسمها الفنان الأنجليزي فريدريك ليتون.
وتبقى هذه الصورة تعكس أسلوب هذه الفنانة وطريقتها في تناول جسد المرأة كتيمة ، تعتمد أساسا على تجاوز صور ما تراه العين ، إلى منطقة أكثر اتساعا ، تتعلق بالتصورات التي تضع الأشياء في سياقات مختلفة كليا عن سياقاتها المنطقية ، وتخلق منه عوالم متعددة تتوحد كلها في معنى الحياة اليومية داخل مجتمع بكل تجلياته ، مفعم بما ينطوي عليه في الظاهر ، والخفاء من مفارقات ، وبفعل هذه الساحرة تحول من صورة خرساء إلى فاعل و منفعل ، وقد تخلى عن صفته كمجرد جسد أنثوي رشيق، بتقديمه كمفردة تعبيرية ترمز إلى كل شيء جميل ، فهو تلك الأرض التي تحتضننا ، هو الأم ، هو مصدر الحياة ، هو الجسد الأبدي الذي ينبثق من رماده كطائر الفنيق ، هو ملهم النحاتين والرسامين منذ العصور القديمة ، وهو الجسد ذاك الذي يظهر صارخا وثائرا حاليا في أعمال الفنانة المغربية العالمية ، المدافعة عن المرأة خديجة طنانة.كل هذه الأجساد تختزلها صورة جاءت مغايرة عن سابقاتها ، و بدلالات عميقة يحضر فيها جسم بلاخلل ، في وقوفه ثبات واستقامة وهو يتكئ على ذراعين ، تتوسطهما ضربات فرشاة بلون أصفر يبعث على الأمل .
هذا الأمل هو الذي يمكنهما من تلك الطاقة الإيجابية التي تجعلهما يتحملان ثقل جسد ثابت و محافظ على توازنه على الدوام ، فهما يمثلان تلك الركيزتين اللتين من خلالهما تفرض المرأة وجودها ، وهذه التفاصيل الدقيقة هي التي تمنح الإثارة لقماشة جاءت بطبقات لونية مسطحة و خالية من النتوءات ، تستمد نعومتها وبريقها من مادة الأكريليك ، يطبع الصورة بخصوصية فيها شيئ من الإيهام ، يدعو إلى الفحص و التأمل للوقوف عند الخيط الرفيع الذي يربط المرأة بجسدها ، يتمثل في لوحة لم تخرج للعلن إلا بعد مدة معتبرة ، حيث خصصت لها الفنانة من وقتها الكثير ، وحرصت وهي تنجزها على أن تستعمل يدها إلى جانب الفرشاة وكأنها أرادت بذلك أن تشعر بنبضات جسد مرن ، تم تقديمه في الوضعية تلك .
إذا نظرنا إليها من زاوية أخرى ستحيلنا حتما إلى” V”، وهي علامة الانتصار ، تلك الإشارة التي تختزل نضالات امرأة موجودة بيننا بالقوة والفعل ، أرادتها المبدعة أن تكون نصف عارية للتعبير عن الحقيقة ، تبدو وكأنها لاتبالي بما حولها ، تعاتبنا ، وترفض أن تنظر إلينا كحنظلة ، طفل الرسام الكاريكاتوري الراحل ناجي العلي الذي لم نر وجهه.


الكاتب : عبدالسلام صديقي

  

بتاريخ : 20/03/2024