لغز الظواهر الخارقة: بين التصديق والتشكيك -19- مقبرة ريكوليتا :الأرجنتين

على مر العصور، أثارت الظواهر الخارقة للطبيعة اهتمام البشر، متجاوزة الحدود الثقافية والاجتماعية والزمنية. فمن الغموض الذي يحيط بالأشباح والأرواح إلى التجارب القريبة من الموت، تثير هذه الظواهر مزيجا من الخوف، الفضول، والانبهار. يعود انتشار هذه المعتقدات إلى عوامل متعددة، أبرزها الحاجة الإنسانية لفهم المجهول، تفسير الظواهر الغامضة، والبحث عن إجابات للأسئلة العميقة حول الحياة، الموت، وما بعدهما.
ساهمت الروايات الشفهية، الحكايات الشعبية، والتجارب الشخصية في تثبيت هذه المعتقدات عبر العصور، كما يظهر في وفرة القصص حول الأشباح، الساحرات، الوحوش، والقوى الخارقة التي تناقلتها الأجيال.
كان للظواهر الخارقة للطبيعة تأثير كبير على السينما والفنون، إذ وجد فيها الكتاب وصناع الأفلام كنزا لا ينضب، وساهمت أفلام الرعب، القصص المثيرة، والتعبيرات الفنية في تشكيل التصورات العامة حول ما هو خارق للطبيعة، حيث امتزج الخوف بالجاذبية، مما خلق فضاء أصبح فيه الخيال انعكاسا للمخاوف والعواطف البشرية.
نستعرض في هذه الحلقات عددا من الأماكن في العالم التي اشتهرت بقصص الرعب، وتداول الناس حكاياتها ما بين مصدق ومشكك، حيث شكلت، بشكل أو بآخر، المخيال الجماعي عبر عدة أجيال. فمن القصور المهجورة إلى المستشفيات المسكونة، ومن القرى الغامضة إلى الفنادق التي تحيط بها الأساطير، سنخوض رحلة عبر هذه المواقع التي ظلت
محورا للجدل والخوف والدهشة.

تقع مقبرة ريكوليتا في قلب العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، وهي واحدة من أشهر المقابر في العالم، حيث تجذب الزوار بسبب هندستها المعمارية الرائعة، وقيمتها التاريخية، والأساطير الغامضة التي تحيط بها.
افتُتحت المقبرة عام 1822، وتضم رفات بعض من أبرز الشخصيات الأرجنتينية، مثل إيفا بيرون، ودومينغو فاوستينو سارمينتو، وبارتولومي ميتر. تتميز أضرحتها بتصاميم معمارية فريدة تعكس الطراز القوطي الجديد والفن الحديث والكلاسيكي الجديد، مما يجعلها أشبه بمعرض فني مفتوح يضم منحوتات وتماثيل بديعة تحكي قصص حياة الشخصيات المدفونة فيها.
لا تقتصر شهرة المقبرة على معمارها المذهل فقط، بل ارتبطت أيضا بأساطير غامضة وادعاءات عن ظواهر خارقة للطبيعة. من بين أكثر القصص شهرة أسطورة روفينا كامباسيريس، الفتاة البالغة من العمر 19 عامًا التي يُقال إنها دفنت حية نتيجة خطأ طبي.
كان والد روفينا كاتبا شهيرا، وأُعلن عن وفاتها فجأة عام 1902، نتيجة نوبة جمود عضلي (حالة طبية تجعل الشخص يبدو ميتا رغم كونه على قيد الحياة). بعد دفنها، لاحظ العمال تحركات غريبة في التابوت، وعندما فُتح، وُجدت جثتها مع خدوش على وجهها وأظافرها مكسورة، مما يدل على أنها كانت تحاول الهرب قبل أن تموت مختنقة، ومنذ ذلك الحين، أفاد البعض برؤية طيف امرأة ترتدي الأبيض تتجول بين القبور، ويعتقد أنها روح روفينا التي لا تزال تبحث عن العدالة لمأساتها.
إلى جانب قصة روفينا، هناك العديد من الروايات الأخرى التي تثير فضول الزوار، مثل أسطورة الحارس الشبح، الذي يُقال إنه كان يعمل في المقبرة لعقود طويلة، وبعد وفاته لم يغادرها أبدا. شهد بعض الزوار رؤية رجل يحمل مصباحا يتجول بين الأضرحة ليلا، وكأنه لا يزال يؤدي عمله حتى بعد الموت.
إضافة إلى ذلك، تكررت شهادات الزوار والموظفين حول سماع همسات غامضة، وبكاء، وخطوات غير مفسرة في الساعات المتأخرة من الليل، حيث يُعتقد أن أرواح الموتى ما زالت تتجول بحثا عن الراحة.
من بين الظواهر الغريبة التي أثارت اهتمام الباحثين، هناك ضريح يُعرف ببابه الذي لا يُغلق أبدا. رغم محاولات إغلاقه المتكررة، يظهر مفتوحا كل صباح دون تفسير واضح، ما دفع البعض إلى الاعتقاد بأن روحا محاصرة تحاول الخروج. بالإضافة إلى ذلك، هناك قصة حفار القبور الذي وقع في حب امرأة تزور قبر زوجها بانتظام. بعد رفضها مشاعره، قام بنقل رفات زوجها إلى مكان آخر انتقاما، لكنه اختفى لاحقا دون أثر، ويُقال إن روحه لا تزال تتجول بين القبور، مسكونا بذنبه.
كما التقط العديد من السياح صورا تُظهر ظلالا غامضة، أو أشكالا شفافة، أو أضواء غريبة في أنحاء المقبرة، وادعى بعضهم تسجيل أصوات غير مفسرة في تسجيلاتهم الصوتية.
وفيما انتشرت هذه القصص على نطاق واسع، يرى بعض الباحثين أن التفسيرات العلمية قد تكون أكثر منطقية. فالأصوات الغامضة قد تكون ناجمة عن حركة الرياح بين الأضرحة القديمة، أو بسبب صدى الأصوات في الأزقة الضيقة للمقبرة. أما الأبواب التي تفتح من تلقاء نفسها، فقد تكون نتيجة عوامل بيئية، مثل الرطوبة التي تؤثر على المواد المستخدمة في بناء الأضرحة. ومع ذلك، لا تزال هذه التفسيرات غير كافية لإقناع كل من شهد تلك الظواهر شخصيا.
بالإضافة إلى القصص الخارقة، تلعب مقبرة ريكوليتا دورا ثقافيا وسياحيا بارزا. يقصدها الزوار ليس فقط لاكتشاف أسرارها، ولكن أيضا لاستكشاف تاريخ الأرجنتين من خلال شواهد قبور الشخصيات التي أثرت في مجالات السياسة والأدب والفن. إنها وجهة تجمع بين الجمال والغموض، حيث يمكن للزائر أن يعيش تجربة لا تُنسى بين القبور الفاخرة والمسارات الضيقة المليئة بالحكايات.
رغم كل هذه الأساطير والقصص الغامضة، تبقى مقبرة ريكوليتا رمزا تاريخيا وثقافيا مهما في الأرجنتين. يجمع هذا المكان بين العمارة المذهلة والقصص التي تتراوح بين الواقع والأسطورة، مما يجعله واحدا من أكثر المواقع غموضا وإثارة في العالم، وسواء كانت هذه الظواهر مجرد خيال شعبي أم حقائق غير مفسرة، فإن المقبرة تظل وجهة فريدة تجمع بين عظمة الماضي والأسرار التي لم تُحل بعد.


الكاتب : عزيز الساطوري

  

بتاريخ : 22/03/2025