لغز الظواهر الخارقة: بين التصديق والتشكيك -05- بيت النواح : المكسيك

على مر العصور، أثارت الظواهر الخارقة للطبيعة اهتمام البشر، متجاوزة الحدود الثقافية والاجتماعية والزمنية. فمن الغموض الذي يحيط بالأشباح والأرواح إلى التجارب القريبة من الموت، تثير هذه الظواهر مزيجا من الخوف، الفضول، والانبهار. يعود انتشار هذه المعتقدات إلى عوامل متعددة، أبرزها الحاجة الإنسانية لفهم المجهول، تفسير الظواهر الغامضة، والبحث عن إجابات للأسئلة العميقة حول الحياة، الموت، وما بعدهما.
ساهمت الروايات الشفهية، الحكايات الشعبية، والتجارب الشخصية في تثبيت هذه المعتقدات عبر العصور، كما يظهر في وفرة القصص حول الأشباح، الساحرات، الوحوش، والقوى الخارقة التي تناقلتها الأجيال.
كان للظواهر الخارقة للطبيعة تأثير كبير على السينما والفنون، إذ وجد فيها الكتاب وصناع الأفلام كنزا لا ينضب، وساهمت أفلام الرعب، القصص المثيرة، والتعبيرات الفنية في تشكيل التصورات العامة حول ما هو خارق للطبيعة، حيث امتزج الخوف بالجاذبية، مما خلق فضاء أصبح فيه الخيال انعكاسا للمخاوف والعواطف البشرية.
نستعرض في هذه الحلقات عددا من الأماكن في العالم التي اشتهرت بقصص الرعب، وتداول الناس حكاياتها ما بين مصدق ومشكك، حيث شكلت، بشكل أو بآخر، المخيال الجماعي عبر عدة أجيال. فمن القصور المهجورة إلى المستشفيات المسكونة، ومن القرى الغامضة إلى الفنادق التي تحيط بها الأساطير، سنخوض رحلة عبر هذه المواقع التي ظلت
محورا للجدل والخوف والدهشة.

يقع بيت النواح (La Casa de los Lamentos) في مدينة غواناخواتو، إحدى أقدم المدن في المكسيك، المشهورة بمناجمها ومبانيها الاستعمارية، ويعود تاريخ بناء البيت إلى القرن الـ 18، ويعد اليوم واحدا من أكثر الأماكن رعبا وغموضا في البلاد.
كان تاديو ميخيا مالكا للبيت، وعاش فيه أواخر القرن التاسع عشر، كان رجلا ثريا يعمل في التعدين، وعاش حياة سعيدة مع زوجته ماريا كونستانزا. إلا أن تلك السعادة تحولت إلى مأساة، عندما قُتلت زوجته في هجوم عنيف أثناء عملية سطو.
بعد مقتل زوجته، دخل تاديو في حالة اكتئاب وحزن شديد، وهكذا لجأ إلى «السحر الأسود» و»الطقوس الغامضة» في محاولة للتواصل مع روح زوجته أو لإعادة إحيائها. ويقال إنه بدأ في اختطاف أشخاص، خاصة النساء، وقتلهم في طقوس مروعة كقرابين لإرضاء الأرواح واستعادة زوجته.
تقول القصص المحلية إن العشرات من النساء قتلن في أقبية المنزل خلال تلك الطقوس، وأن جثثهن دفنت في الأنفاق المحيطة بالبيت، أو أُلقيت في آبار قديمة، وتضيف أن الصراخ والأنين كان يسمع في الليل من داخل المنزل، لكن الناس كانوا يخشون التدخل.
من هنا جاء اسم «بيت النواح»، إذ يسمع السكان والزوار أصوات نحيب وبكاء نسائي في ساعات متأخرة من الليل، وأحيانا، حسب نفس الروايات، تكون الأصوات مصحوبة بصرخات استغاثة، وكأن الضحايا لا تزال أرواحهن عالقة في المكان.
وقد أفاد العديد من الزوار أنهم رأوا سيدات بأثواب بيضاء يظهرن فجأة ثم يختفين، ووصف آخرون رؤية رجل بملامح غاضبة أو حزينة، يعتقد أنه روح تاديو ميخيا، يهيم في أنحاء البيت.
وقال آخرون إنهم شعروا بلمسات غير مرئية على أكتافهم أو أياديهم أثناء تجولهم في البيت، في روايات لا تخلوا من إثارة، حيث أفادوا بأنهم يشعرون بضيق في التنفس في بعض الغرف، وبـانخفاض حاد في درجات الحرارة في بعض أركان البيت، رغم حرارة الجو في الخارج، ويقال أيضا إن رائحة الدم أو رائحة حريق غامضة تفوح فجأة، وتختفي بعد لحظات.
من أكثر الأماكن رعبا داخل البيت، الطابق السفلي، مكان الطقوس، ويعتقد أن هذا هو المكان الذي أُجريت فيه الطقوس والقرابين البشرية، ويوصف الجو هناك بأنه ثقيل جدا، حيث يشعر الداخلون بضغط على صدورهم وكأن أنفاسهم تسحب.
كما توجد بئر قديمة في فناء البيت، يشاع أنها كانت تلقى فيها جثث الضحايا، وبعض الزوار أفادوا بسماع أصوات همهمات وصراخ ينبعث من البئر.
هناك أيضا الغرفة الملعونة، وهي غرفة يعتقد أن تاديو كان يمارس فيها السحر الأسود، وداخل هذه الغرفة، سجل الزوار صورا بها ظلال غريبة، وظهرت بقع ضبابية على عدسات الكاميرات دون تفسير.
زوار آخرون من داخل المكسيك وخارجها ذكروا، وفقا لرواياتهم، أنهم شعروا بقشعريرة وخوف شديد منذ اللحظة التي دخلوا فيها البيت، وبعض الفرق المتخصصة في الظواهر الخارقة قامت بتسجيل أصوات غامضة (EVP)، من بينها همسات وصرخات نسائية. كما أن بعض الصور التقطت أثناء الجولات الليلية، أظهرت وجوها مشوهة أو أعينا تحدق من خلف النوافذ، رغم أن البيت كان خاليا.
ويقال أيضا بأنه من بين الأسباب التي جعلت هذا البيت «ملعونا»، الأرض التي بني فوقها، فقبل بناء البيت، كان يعتقد أن تلك الأرض «مسكونة بأرواح السكان الأصليين» الذين قُتلوا خلال الغزوات الإسبانية. ويقال بهذا الخصوص إن الأرواح القديمة اتحدت مع أرواح الضحايا الجدد، مما جعل البيت ملاذا للأرواح الغاضبة والمعذبة.
ويرى البعض أن بيت النواح هو مجرد أسطورة مكسيكية تقليدية، استمدت قوتها من الخوف الجماعي وتداول القصص.لكن عدد الشهادات الكبير، وعمق الشعور بالخوف الذي يعاني منه الزوار، يجعل آخرين يؤمنون بأن البيت بالفعل مسكون.
وهكذا فقد أدت شهرة بيت النواح والأساطير العديدة حوله، لأن يصبح متحفا سياحيا مفتوحا أمام الزوار، حيث تنظم جولات ليلية لمحبي القصص المخيفة، لكن المرشدين يحذرون من عدم الاستفزاز أو الاستهزاء بالأرواح، ولا يزال البيت يعتبر أحد أكثر المنازل رعبا في المكسيك، ويحظى بشعبية كبيرة بين محبي قصص الأشباح وعشاق الغموض.


الكاتب : جلال كندالي

  

بتاريخ : 06/03/2025