لقاء الفلسفة والتصوف في رواية «العارفان» للروائي عبد العزيز أيت بنصالح

من زمن الشاهدة إلى زمن الكتابة

في اللقاء وما يعتريه من فيض في العرفان، من تناظر وانبهار؛ انبهار عارف بعارف، والزمن وقتها زمن صرامة في سياسة الموحدين. صروح تنهدُّ وأخرى تُشيد، والوقت حالها وقت انكسار وانعطاب، هجرة سرية عكسية من بحر الزقاق إلى «الفردوس المفقود». تقف رواية «العارفان» شاهدة على زمنين: زمن أول تشوفت إليه بصائر الرواة من المؤرخين كزمن مرجعي يحفل بالأسرار والأمجاد عن حاضرة الغرب الإسلامي؛ وزمن ثاني خابت فيه الظنون، وخارت في العزائم، ووهنت فيه الإرادة كزمن ارتدادي لم يعد يحمل أي معنى في ذاته.
قبل اللقاء، هناك أداة الكتابة، جنس الرواية. أن يُصر الأدباء على التوسل بجنس الرواية للكتابة عن التاريخ، فالأمر لا يغادر الموقف الذي يقول بأن الرواية هي الأداة الأنسب لاصطياد التفاصيل الغميسة في قعر التاريخ. وفي الموقف الثاني، القول بأن لعبة التلاقي بين السرد التاريخي والفن الروائي تنتهي في غاية واحدة: تمثيل الوقائع للإجابة عن الأسئلة التالية: ماذا حدث؟ وماذا كان؟ بالنهاية، الرواية، مهما بدا فيها من تماثل بين الذاتي والموضوعي تظل تاريخية بامتياز، وعملا سرديا يعمد إلى إعادة بناء وتشييد حقبة من الماضي تشييدا تخييليا. هنا بالذات، نستحضر مقولة الروائي صنع الله إبراهيم «…المؤرخ الجيد هو الروائي».
عودة إلى الزمن الأول، زمن الرواية بشخوصها وعُمرانها. توزع أهل مراكش بين فسطاطين: اتباع رأي الفقهاء أم رأي الصوفية، وكأنهم كانوا يرثون لحظات التحول الكبرى، ما يتبقى من السقوط، وما يأتي بعد الصعود. جاء في أثر الإمام مالك ما يستجلي هذا التذبذب: «…من تَفَقَّه ولم يتَصوَّف فقد تفسَّق؛ ومن تصوَّف ولم يتفقَّه فقد تَزندق، ومن تفقَّه وتَصَوَّف فقد تحَقَّق…».
يعود الزمن المرجعي للحكي إلى أرض الأندلس، وإلى زمن فيلسوفها ابن رشد، في قرطبة 1176م. رد ابن رشد على الصوفي الفارسي ابي حامد الغزالي مؤلف كتاب « تهافت الفلاسفة» وعكف على ترجمة كتاب أخلاق نيكوماخ، وتلخيص كتابي «جمهورية أفلاطون» و»الضروري في السياسة».
لقاء حادث أو مفترض الحدوث بين مُؤسس البرهان العقلي والشارح الأكبر أبا الوليد ابن رشد مع الصوفي المسافر لتجلي الملكوت، والكاشف لطريق العرفان محيي الدين ابن عربي في مراكش الحمراء. مذ ذاك الإبان، عَقِرت أرض الإسلام عن إنجاب نظير لهما في شرق بلاد الإسلام وفي غربه. والزمن حاضرها، زمن قد محا دولة الموحدين إلا من بعض عمرانها ومعاركها وأعلامها. لم يعد للموحدين ما يغتنون به غير عبقرية الفيلسوف ابن رشد، وعرفان الصوفي ابن عربي. وميض من هذا التجلي، أو رصيص من هذا اللقاء التخييلي المضمخ بالتاريخ يصادفه القارئ في رواية «العارفان» للروائي المراكشي عبد العزيز أيت بنصالح. والحقيقة، أن الرواية الصادرة عن المركز الثقافي للكتاب للنشر والتوزيع عام 2018، في حوالي 311 صفحة من الحجم المتوسط تتقاطع مع سلسلة التراكم الروائي الذي خصصه أيت بنصالح للاحتفاء بمدينة مراكش. وعلى دأب عادته، كما في رواية طيور السعد وبابل مازيغ يستعير بنصالح شخصيات الحيوانات والطيور شأن «الفرس الكميت» و»الخيل البرذون» والنورس «طائر السعد/ اللقلاق» من أجل تسريد الوقائع التاريخية وتخييلها.
في مراكش وما إليها حدث اللقاء، لقاء علمين من أعلام تاريخ العرب المسلمين، الشيخ الأكبر ابن عربي شاغل الناس في ماضيهم وحاضرهم مصدر فتنتهم مع ابن رشد صاحب مذهب «الوجود ينفعل بالجود». وفي اللقاء، تحضر شخصية ثالثة، أبو العباس السبتي صاحب البركة في زمن الموحدين. كان ابن عربي في زيارة أولى إلى مراكش لنقل جثمان أبي الوليد ابن رشد إلى الأندلس، مذ تلك الزيارة لم تفارق المدينة روحه ووجدانه. وفي كل تجلي تظهر المدينة شامخة بجدرانها وأسوارها، بحوماتها ومساجدها، بأسواقها ومقابرها…كل فضاء في مراكش يعِنُّ لشيء جلل في عرفان الصوفي ابن عربي، كل فضاء فيها يملك سحرا لذوي «أبناء الشاشات» و»بنات الشيشات» الذين أحالوا كل شيء فيها إلى مسخ وابتدال.
أتكون مراكش هي التي أوحت لابن عربي بأن يغامر في كتابة «الفتوحات المكية»؟ في الرواية قد يرتقي الاحتمال إلى مرتبة التصديق، وقد يحق للراوي أن يمارس لعبة «الكذب الصادق». يظهر ابن عربي في فصوص الرواية في ثوب الفقيه المُحدث، والصوفي بعرفان، والفيلسوف ببرهان ﴿ص 83﴾. كشفت له مراكش طريقا ما كان لأحد غيره أن يكشف، طريق العرفان، ظاهر، وباطن، وحد، ومطلع…
لا تقترن الاستعادة إلا بإحالة على سياق، وقتها كانت امبراطورية الموحدين مترامية الأطراف، من شرق طرابلس إلى غرب المحيط، ومن عدوة الأندلس في الشمال إلى ثخوم الصحراء في الجنوب. وكان تدبير هذه الأقاصي مُكلف ومرهق جدا، ظهرت عليهم ثلاثة وثلاثون ثورة في المغرب، واثنا عشر في الأندلس وضروب من شتى أنواع الخيانات والمؤامرات. قدَّر أهل مراكش ابن عربي أكثر من خليفتهم المنصور العائد من انتصاره المبجل في معركة الأرك الشهيرة. وكأن حوادث السياسة سراب في سراب، مادام الانتصار فيها لم لحظي ومؤقت، وحوادث العرفان والعلم كشف في كشف، ما دام الخلود فيها للأثر. كُلُّ من قرأ لمحيي الدين إلا وأحبه حُبا لا حد له، حُبا لا يخيب قط ﴿ص 254﴾. يسأل ابن جبير القرطبي محيي الدين في رحلة السفر من مراكش إلى قرطبة:
ألا تخشى من أن تنعت بالزندقة إن أنت كتبت هذا الذي تقوله؟
أبدا، فقد بدأت أتحقق من بعض ما تجلى لي منذ أن زرت مراكش ﴿ص 101﴾.
سفر محي الدين أسفار ثلاثة، في الزمان والمكان والروح؛ سفر جسم ناسك متعطش إلى الشرق؛ وسفر روح اعتادت على المناجاة منذ أن جرَّبت لذة الجذب في جامع اشبيلية؛ وسفر وجدان في الأرض والسماوات. ﴿ص 226﴾. لم تبرح مشاهد مراكش عينه في قيامه وقعوده، في حركاته وسكونه…منحته تأملا أعمق. لكل حواضر الأندلس سموق، لكن لمراكش تفرد بالسموق ﴿ص 125﴾ ولأولياء مدينتها شيم لا تخطئها الأنام ولا الطير ولا الدواب. أغوت مراكش في أيام الموحدين كل من زارها مهما كان قدره وعلومه، وجبلت كل من تشوف إليها على الوسطية في تعالمها اللطيف مع الأشياء والظواهر والأحداث. أمدينة أنت حقا أم أنك لغز؟ أم صليل اشراق مذ حومت الأسرار حول جوامعك فانبتت ألفة وألغازا؟ أتكون مراكش شبيهة لطروادة. لكن، لا الشعر، ولا الرواية، ولا التاريخ، ولا الأسطورة استطاعت أن تفي بالحاجة إلى كتابة هذه المدينة الحمراء مثلما كتبت طروادة ﴿ص 205﴾. فمراكش هي حمى المعبود في غابر الأزمان، ولا معبود إلا الله ﴿ص 256﴾.
يبدأ السرد التاريخي بمشهد ابن عربي أمام سور مراكش، في سن الخامسة والثلاثين، مع آذان عشاء من شهر مارس من عام 1199م، كان العهد عهد الموحدين بها، شاعت أخبارها في كل الأرجاء، وبزَّت خصيماتها من حواضر العالم الإسلامي في التأنق والتميز الفكري. والناس حينها في ترديد حكاية اللصوص الأربعة عشر الذين بثوا الرعب بين أهل مراكش، وفي تهامس خفيف حول سر الأسرار وراء فتح الأبواب الثلاثة عشر سوى باب الشريعة. لصوص يتدثرون بألثمة، يتعدون على دور فخمة خاصة بأعيان الموحدين. كان الناس يرددون قصة الخليفة المنصور الموحدي مع أخويه أبا حفص عمر الرشيد والي مرسية، وأبا يحيى والي قرطبة مذبوحين في باحة قصر مراكش لطمعهما في العرش، وإلى جانبهما عمه أبو الربيع.
كان استقدم المنصور الموحدي أبا الوليد ابن رشد من منفاه إلى مراكش. وكان أهل مراكش قد بالغوا في حسد تقريب الخليفة للطلبة والصالحين. فأجاب المنصور: «…يا معشر الموحدين، أنتم قبائل فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيلته، وهؤلاء الطلبة لا قبيل لهم إلا أنا، فمهما نالهم أمر فأنا ملجاهم، وإليَّ مفزعهم، وإليَّ ينتسبون…»﴿ص 29- 30﴾.
آنس المنصور في ابن رشد الدواء لتبديد كابوسه المزعج. قيل إن دخول أبا الوليد إلى حاضرة مراكش دخلت الطمأنينة. يكفي أن يذكر الجور في مراكش ليستدل أهلها بأحكام القاضي أبا الوليد. كان ابن رشد ضليعا في الفكر والنظر العقلي، وشيخا أكبر في التجلي والعرفان. لا أحد أتى ببديل لما أفلح فيه ابن عربي، وما من أحد كتب مثل الذي كتبه، فبدا على مدى ثمانمائة عام أو يزيد باذخا حتى في الفتنة. ﴿ص 182﴾. دفن ابن رشد في جبانة باب تاغزوت مع زمرة الصالحين، قدر لابن رشد مدة أن يوارى في مراكش التي سيوارى فيها جثمان الخليفة المنصور الموحدي. هناك انفلق التاريخ لدى الرواة كانفلاق أهل المدينة لما حنَّ بعضهم لمذهب مالك في أيام المرابطين، وغاص الباقي في بواطن ابن تومرت الموحدي. كان الوافد الجديد على المدينة يشتم رائحة توتر شديد في المدينة. شده ابن عربي من جمال الكتبية، آية الموحدين في زمانهم، محاطة بدكاكين الكتبيين، وتتزين بنفائس الكتب والأراجيز والدواوين والمخطوطات والخرائط…معلمة تفردت في إبانها بالعظمة والفخامة، البهاء والبساطة…
قبل أن يَفد ابن عربي، كان قد شاع في المناطق التي جابها، كمُحدث حصيف لا يبارى في علوم الشريعة، وصوفي عارف يبُزُّ أقرانه في الحكمة والمعرفة. «…أعطى الله محيي الدين برزخين، برزخا قبل ولادته، وآخر بعد مماته، في البرزخ الأول رأى أمه وهي تلده، وفي الثاني، رأى ابنه وهو يدفنه…» فارق برزخه الأول الذي كله كشف في كشف، ودخل الثاني الذي كله جهل في جهل. آنس العزاء في فراق برزخه في وجه قابلته فاطمة بنت المثنى، رافقته في رحلة حياته، وكانت زاده في ابتداء رحلته. كانت الرحلة رحلة البحث عن الأربعة الذين يحفظون الأرض من السوء، اثنان منهم في أرض الموحدين، واثنان آخران خارج حدودهم. الأول يستدعيك إليه ببرهانه فتناظره في عدوة الأندلس، والثاني تفاوضه في الحاضرة الحمراء فتجده شياعي الميزان، والثالث والرابع فخبرهما في علم الغيب ﴿ص 16﴾. اجتمع في ابن عربي دراية الفقيه وبرهان الفيلسوف وعرفان الصوفي.
في رحلة نقل الجثمان تنتصب هذه الجملة البليغة: «…ألا تنظر إلى من يعادل الإمام ابن رشد في مركوبه؟ هذا الإمام، وهذه تآليفه…». ما كان المنصور الموحدي يتحمل سقمه النفسي إلا بمؤانسة ابن رشد. شاعت صورة المنصور عند المراكشيين، خليفة مهاب وصارم. بموت ابن رشد تسلل القنوط إلى قصر القصبة، مات الشارح الأكبر، بمزته بدا المنصور وكأنه هوى إلى منابع الفراغ ﴿ص 34﴾. منذ موته والمنصور يحفر قبره بيده ليذرف دموع فراق الفيلسوف. ما إن وصل خبر موته، حتى ألح ذويه على نقل جثمانه. في مقابل ذلك، كان أبو العباس السبتي في خلوة خارج سور مراكش لمدة أربعين سنة خلت، فاختار أن يدخل إلى المدينة الحمراء، دخل ودخلت معه البركة، فك العزلة عنه في جبل كليز، ودخل من باب دكالة، والناس وقوف، وأغلبهم فقراء ﴿ص 132﴾.
يتحول زمن الحكي إلى محاكمة، محاكمة على أخطاء بدت في الماضي. لم يكن المنصور الموحدي لحظتئذ يُدرك عاقبة العفو عن القشتاليين الفرنجة بعد أن حسم موقعة الأرك لصالحه، عادوا إلى المناوشة من جديد، وتحالفوا مع جحافل المقاتلين العائدين من الشرق حاملين معهم عار الهزائم أمام جيوش صلاح الدين الأيوبي:
«…فبالك تايقولوا السلطان المنصور مات أو فوت عليه فرصة كبيرة باش يمشي للجنة، كون لبى طلب صلاح الدين الأيوبي أورسل ليه الجيش والسفن، كون راه قضاو المسلمين على دوك الرهوط ديال الصليبيين، وكون راه هو دابا فدار الحق تابنعم بالجنة، الحاصل الله يهدي ما خلق…» ﴿ص 193﴾.
في المحصلة، يتصل هذا العمل الروائي اتصالا قويا بالماضي، ويضيف إليه عمقا مرجعيا من خلال المادة المصدرية التي استند إليها في تمثيل/ تخييل الواقعة التاريخية. تشكل الفصوص العشرة المشيدة مثل حلقة دائرية لإنتاج المعنى التاريخي الذي يحول شخوص الرواية إلى ميتا-تاريخ في بعض المقاطع. يتوسل أيت بنصالح من أجل تجسير لعبة الزمن الحكائي إلى عملية التنسيب الزمني. وعبر التنسيب تظهر للقارئ الفوارق الزمنية، الثقافية وحتى الإيديولوجية…باختصار، بين زمان الشاهدة وزمن الكتابة. والحال يغطي هذا العمل الإبداعي مساحة تاريخية مهمة في تاريخ المغرب الوسيط، ذلك أنه يختص بأربع خصائص في التحليل، تتصل أولاها بالكثافة على مستوى مساحات التخييل، وثانيها بأسلوب المباغتة في السرد، وثالثها بعمق الالتباس، ورابعها بثراء الحيرة والدهشة التي تثير فضول القارئ.


الكاتب : عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 05/05/2023