«ليس في مكان»: نَفَسٌ يعبرُ مجراهُ ويَختفي

عبورُ النَّفَس:

هل نَعرف متى تبدأ القصيدة ومتى تنتهي. هل لها مكان أو أمكنة محددة بإحداثيات محددة. هل لها بداية أو نهاية. ما البداية أو البدء، وما النهاية أو الختم؟
قد تكون القصيدة اقتصادا في اللغة، وفي الفكرة ذاتها، تلميحا إلى حالة ما، أو موقفا أو وصفا ما لمشهد حسي أو ذهني، أو مكان ما، في موقع، في جسد أو في فضاء.
ليس في مكان، حيث تحملك القصيدة نحو اللانهائي، وحيث تعبر في لا زمان من نفَسٍ إلى آخر..

مكانُ الشِّعر:

أي مكان للشعر، وأي زمن له وأي سَفر إليه. الشعر بجغرافياته الخاصة والاستثنائية، هو مكان الزمن العابر لساعة اليد وساعة الجدار وساعة الرمل المعلقة على حبال الريح. لذا فالسفر إلى الشعر، عادة ما يقتضي تذكرة إليه.
الشعر ليس رحما أو بئرا. لأنه ليس للتكاثر والانشطار، وليس حفرة للخنق وتوليد كائنات الظلام. والشاعر هو الضائع في المتاهة بين الإثنين.

سِراجُ الغُرباء:

الشاعر والمتلقي، المستمع، أين يوجدان؟ هل في النص وفي الفضاء، في اللامكان. أم في الاستمرارية والقطيعة. هناك البياض أولا، ثم الكلمة. من الليل إلى النجمة التي تقود الأعمى، إلى ما لا يراه الضوء. سراج الغرباء.
الشاعر يكتب وقد ينشد شعره في أمسية، أو في لقاء إلكتروني. والمستمعُ قد يسمع بأذن شاعرية، ويصله المعنى، أو يستمتع بالكلمة والصورة الشعرية. وقد نجد المستمع كائنا غريبا عن القصيدة ولا يقدر مخاضها وشروط خلقها وأدوات غسلها وتنظيفها. وتقديمها إلى النشر أو إلى المستمع. أما القارئ فهو الذي ينخرط في فضاء القصيدة وفي هوائها. يشم رائحتها ويفكك رموزها وأفكارها ورهانها الفني والجمالي.
هو الشعر الذي يَرى ولا يُرى. حين تبدأ الكتابة وحين تنتهي أو تموت. كأنها الحجارة التي تبقى هي والله. حين تعبر الحياة إلى موتها، إلى أزلها. حين يعبر النهر بعد فيضانه من النبع إلى المصب، من الأقصى إلى الأقسى. هناك قد ننضج معا شغف القراءة وبريقها. حيث العيون مرآة، والشفاه جسر إلى نبيذ الشِّفاء. هكذا قال شاعر جاهلي: الشعر سراج الغرباء.

لاوعي القصيدة:

هل يتحدث الشاعر بوعي العاقل، الذي يضع للمنطق درجة من الاعتبار، في اللقاء مع حالة الانفعال المفاجئ، أم في القبض على شرط الحدث وتحليله. العِلم أحيانا ليس عقلانيا. ولذلك تبتعد القصيدة عن خيالها. عن أسفار مرتبة في سجل النجوم.
اللاوعي الذي يشكل غالبا سلوك الكتابة في جيولوجيا اللغة، وفي تكثيف العبارة أو المفهوم الذي يشتغل في الإحساس، في سلسلة القصيدة وفي أدراجها. الكتابة تكون بالفرح وبالألم أيضا وغالبا. والدموع قد توجد في مكان ما لتسيل في شوق أو في ضياع أو في لقاء مفاجئ ومبرق في سماء بيضاء.
توجد الكتابة في الكلمة. وتوجد الكلمة في الحبر. في السواد. وفي أقصى السواد. في اللاحدود بين الكلمة والصمت، وفي بياض الصفحة.
في الحدود بين التفكير فيها. في الحدث وفي النطق به وبها. وفي رسمها. في الحروف، وفي الفواصل والنعوت والتوابع.
في الحذف وفي المحو الذي يخفي الكلام. وفي الخوف من هندسة الكلام والكلمات. في الصمت الذي يتحول إلى نص آخر، أو كلمة غير منطوقة. أو يتنفس هواء المكان في علاماته، في وجوده، وفي غياب الأثر والعابر واللامرئي..

الكتابة تفكيك:

هل الكتابة تحرر، وما وظيفتها وهويتها؟ تقول آني أرنو:” إذا كان ثمة تحرر عبر الكتابة، فهو ليس في الكتابة ذاتها، بل في هذه المشاركة مع أناس مجهولين في تجربة مشتركة. ولمن يعيش ممزقا بين ثقافتين”. ليست وظيفة الكتابة أو إنتاجها طمسَ جرحٍ أو علاجَه. وإنما إعطاءه معنى وقيمة، وجعله في النهاية لا ينسى..
الكتابة تكون في كلماتنا. تكون من خلال كلماتنا. تكون صرخة في كتاب. صرخة في نص. تكون دائما صرخة طفل في البحث عن وجه حميم. دفء ثدي الأم والحب. تحرر الكتابة يتحقق عبر نسج الكتابة ذاتها. هذا يذكرني، بل يعود إلى نسج الصوف وتحويلها إلى خيوط من طرف أمي. وأنا أراها تنسج بواسطة ناعورة النسج. تتحول المادة إلى خيوط وسطور لمواجهة الفراغ. لملء التجاويف. حيث تتابع اليد دورانها، في دورة الزمن واللغة والألوان. إعادة بناء وجود الذات، الأنا والآخر والعالم.
الكتابة كون لغوي، ينسجه الكاتب في النص بالكلمات، بالنفس المخفي في اللغة وعبر نبض القلب الذي يعكس الواقع مفككا ومقروءا، في النص وفي الحياة. الكتابة لوحة، ثمة من يرسمها في فضاء غير محدد، ينسجها كاتب غائب. اللوحة، النص مكان اللامكان، أكثر شساعة. حيث تنبجس الكلمة من صمت الكلمات ومن موسيقاها، التي لا نراها. وهذا الصمت ذاته صحراء.

مكان الشاعر:

ليس مكان الشاعر، ذلك المكان المحدد بعينه، في موقع أو موضع ما. مكان الولادة أو مكان النشأة أو الهجرة. قد يكون ذلك كله، ولكن مكان الكاتب محدود وربما مرتبط بكتابه، بالكلمات والنقط التي تشكل متنه وعلاماته ورائحة أنفاسه. مكان الكاتب فضاء الصفحة، مقبرة الأسئلة، حيث تحيا الكلمات حياة أخرى، في فراغ أو تحلق في عدم. هو ما يشكل غيابها وحضوره الوجودي، وماهيته الأنطولوجية. في بناء الجملة وفي تشكل سردها المتتالي والمتوالي، فزيائيا وهندسيا. ربما يسمع منها صوته، أصواته المخفية بين العبارة والفكرة، في جرسية الكلمات وصوتيها وفي الصمت الذي يختزل العالم في سم الإبرة وفي تركيب لغوي يختلق معنى غير مألوف ومختلف عن مربع البداهة التي تشكلها هندسة السكينة.

الكتابة وتجربة الحدود:

يبدو أن الشاعر، كما يقول كيليطو، يفارق أرضه المألوفة ويسير على غير هدى. كما أن قدر القصيدة أن تنفصل عن ذويها. ومن العبث ثنيها عن الضياع والتيه. ما حدود الكتابة الشعرية، وما أفقها كتجربة جمالية. ما علاقتها بالزمن والوجود بالواقع وباللغة، وبالكتابة ذاتها. هي -كما يقول محمد الشيكر-بخلاف ذلك تجربة حدودية محايدة ولا شخصية تضع الأنا على عتبة الغياب. تقود الذات إلى الانمحاء والتشظي والتيه والشتات. حيث يفقد الزمن منظوماته الإسنادية ويفقد الوجود وحدته الأنطولوجية ويتحلل الأنا من هويته ككوجيطو. إنها تجربة أنطولولوجية قصوى، أي تجربة للوجود في عريه وفراغه وانمحائه.
الكتابة لا حدود لها. الكتابة منفى. الشعر ضد الموت. الشعر ينحت مجراه ويختفي. ينافس الطفولة حضورها وغيابها. القصيدة حين تناديك، تنافس الصباح، وتترك النجوم لألمها، تقدسُ الليل. القصيدة تستمر بتواضع، تلاحقها نمور الثلج، وتترك آثارها سراجا للغرباء.

*نص الكلمة التي قدمت بها قراءتي الشعرية بالمعرض الجهوي للكتاب بساحة الكتبيين بمراكش بتاريخ 21 ماي 2025


الكاتب : جمال أمّاش

  

بتاريخ : 18/07/2025