«ليليان» للمخرج أندرياس هورفاث .. أو الطريق امرأة !

وُلِدَ هذا النوع، من رحم السينما المستقلة في الولايات المتحدة الأمريكية، مع بداية سبعينيات القرن الماضي، و»ليليان» فيلم نمساوي، يعود به مخرجه أندرياس هورفاث إلى أراضيها، حيث تقطعها مشيا بطلته التي يحمل عنوان الفيلم اسمها، وتلعب دورها الممثلة البولندية باتريشيا بلانيك، لتتفاعل مع ما تحمله طريق البلاد من شخوص وبيئة وأحداث.
جدير بالذكر أن الفيلم، الذي يمكن إدراجه في صنف الدراما في بدايته والوثائقي عند نهايته «Docu-Drama»، والمُنتَج سنة 2019، مستوحى من القصة الحقيقية لـ»ليليان أليج»، التي حاولت العودة سيرا إلى موطنها روسيا، في عشرينيات القرن الماضي، من نيويورك حتى مضيق برينينغ.

الطريق.. مشاق وضياع

تتعرض ليليان في طريقها للعنف، ومن خلالها تم تصويب الكاميرا طيلة رحلتها الممتدة إلى 130 دقيقة، نحو قضايا النساء، وإبراز العنف الممارس تجاههن، في مشوارها لم تنبس ببنت شفة، إذ اتخذت من الصمت بديلا لحكي وجعها. فمن الاستغلال في الأفلام الإباحية، مثلما كاد يحصل معها لولا انتهاء صلاحية تأشيرتها، ورفض المنتج تشغيلها، إلى الاغتصاب في مشهد هروبها من متحرش طاردها إلى حقول الذرة، وكيف كانت تزيحها بعنف، لمَّا كانت تتلّمس أماكن متفرقة من جسدها وكأنها أعضاء ذكرية، في إحالة إلى جرائم الاغتصاب، التي تذهب ضحيتها ملايين النساء، من دون معرفة الجاني أو الاقتصاص منه.. إلى الاختطاف، ذاك الوجه البشع المخفي خلف شساعة البلاد، حيث يعمد سائقو شاحنات البضائع على الطريق السيار إلى اختطاف النساء، وما عبورها لذات الطريق، ورؤيتها للاَفِتاتٍ تحسيسية وضعتها الجمعيات الحقوقية، أو لملابس نسائية تحمل أسماء المختطفات، معلقة على الجذوع من طرف عائلاتهن، في جو مطير حجبت قطراته الرؤية عن الكاميرا، إلا إشارة إلى مصيرهن المبهم، وقضيتهن المسكوت عنها.
بيدَ أن استخدام اللقطات المتناهية الطول (Extreme Long Shot) في كل الفيلم، جاء ليس لتبيان شساعة البلاد وجغرافيتها الوعرة وبيئتها المتعبة، أوالتأكيد على أن المهاجرين غير الشرعيين، في بحثهم عن الأمان والاختباء من الأذى، هم من يعرف البلد التي يتواجدون بها، ويستمتعون بمناظرها وتفاصيلها، أكثر من مواطنيها، وإنما لتبيان حالتي الضياع والخطر، الذي تتعرض له المرأة المهاجرة على وجه التحديد، في مسار التغيير المنشود. بالمقابل؛ منحت ذات اللقطات كادرات طبيعية خلابة، وزيارة مجانية لاستكشاف أراضي العم سام، بعيدا عن سياج الإسمنت والحديد.
يعتمد بناء الفيلم على الرمزيات، تمهيدا لما سيحدث لليليان عبر أحداثه، ففستانها ذو اللون البنفسجي إشارة إلى عملية التحول والألم التي ستعرفها عبر دربها، فهاهي تلعب لعبة قيادة الدراجات النارية في الكازينو، لتتهيأ لمجابهة الأخطار. أو لقطة للنهر المندفع تحت الجسر، والمنبئة بما ينتظرها من مغامرات ستغير من شخصيتها. رميها للقبعة على الأرض، أي مواجهتها لما هي مقبلة عليه دون حماية. وأخذها لمواد التنظيف والأدوية، من المنازل المهجورة التي تمر بها، كدلالة على استعدادها للأسوأ، ناهيك عمّا توحي به تلك البيوت الخالية، من عزلة ووحشة تفرضان عليها الاعتماد على نفسها. قصها لشعر دمية وجدتها في إحدى الخرابات، الذي يؤذن بفقدان سذاجتها وتحولها إلى شرسة، بينما أخذته للرأس واستعملته كفزاعة تحرسها أثناء نومها ليلا في الأدغال. أو لما جلست أعلى كرسي الحديقة، وشلَّخت البطيخ الأحمر ووضعته بين فخذيها، والذي أعطته زاوية الكاميرا المنخفضة، شكل عضوها التناسلي، بينما هي تتلذذ بتناول قطعة من البطيخ، مما عُدّ استباقا لنزول الطمث منها، وبالتالي سيطرتها على المخاطر، التي يمكن أن تتعرض لها، ولو مؤقتا، على اعتبار أنها صارت نجسة، ولن يقرب منها الرجل أصل الشرور!
وقد رافق ليليان في رحلتها وخارج الإطار ،«Hors champ» صوت المذياع الونيس لكل مستعملي/ات الطرق، من خلال برنامج إذاعي متنوع الفقرات، تتغير وفق مجريات الأحداث، فإن كانت الطريق هادئة فستبث فقرة الأغاني. وإن كانت ليليان مستمتعة، مثل لقطتها في حقل لعباد الشمس وهي تستحم تحت رشاش الري، ففقرة الكوميديا هي الخلفية الصوتية. وإن سلكت سبيلا يشد الأنفاس، فأخبار الطقس والتحذير من ارتفاع درجات الحرارة، أو العواصف الثلجية هي ما سيسمعه المشاهد.
لكن أثناء سعيها إلى هدفها، ستصل ليليان إلى خلاصة مفادها، أنه كي تتفادى شراسة الطريق، لابد أن تتخلى عن تمظهرات الأنوثة فيها، وتتشبه بالرجل كي تحمي نفسها، لذلك قصت شعرها وارتدت السروال بدل الفستان القصير، مع سترة الشرطي الذي أعطاها لها شفقة، بعد أن ساعدها وأوصلها بسيارته، إلى حيث تنتهي حدود الولاية التي يعمل بها، كذلك ستتخلص من أظافرها قضما، بعدما كانت لا تنفك تتجمل بوضع أحمر الشفاه، تستحم وتنظف ملابسها وأسنانها، في حمام كل مقهى تمر به، مع تكرار لمشاهد عبورها الطريق الطويل، ودائما بحركة الكاميرا من الأعلى، حيث التأكيد على تسلط الطبيعة وجبروتها، مما يدفع بالمشاهد رغم كونه مأخوذا بجمالية الإطار، ليتساءل كيف ستجتازها، وهل ستنجح في مسعاها.

الاشتراكية.. هي الحل

لم يفت المخرج انتقاد الرأسمالية في مهدها، فعلاوة على تجريدها للمرأة من طبيعتها، جراء دفعها لتتحمل الأعباء الخارجية، فقد أظهر الناس كلما اتجهت ليليان صوب ألاسكا، أكثر طيبة وكرما ومساعدة لغيرهم، يشاركون أغراضهم ويحسون بمعاناة الآخرين، إذ تتواجد متاجر تمنح الملابس والأكل للمحتاجين. عكس اللقطة التي بدأت منها ليليان مسارها، حيث ركزعلى ناطحات السحاب والجسور الحديدية، وتأثيرهما على تصلب مشاعر الناس وأنانيتهم، مما أفرز ضياع بطلته بينهما. وهو بذلك يؤكد بمعنى آخر، على كون الاشتراكية تشجع على تعاون الأفراد والجماعات فيما بينهم، والتضامن لدعم الفئات الضعيفة، ولا تستغل المرأة، وإنما تحميها وتساويها في الحقوق، مع رفيقها الرجل وهي ملاذها، مقارنة مع الرأسمالية التي تسلعها، والنتيجة اختيار البطلة العودة لبلدها روسيا، حيث الأمان والحرية.
وقد بلغ انتقاد المذهب الرأسمالي ذروته في الفيلم، مع مشهد توثيقي لمسيرة احتجاجية، نظمها السكان الأصليون ضد مشروع بناء خط لأنابيب النفط، وما يعنيه ذلك من تشويه لأرضهم وخطر على سلامتهم، ومن ثمة القضاء على هويتهم، التي يعمل المذهب ما بوسعه لإذابتها، وجعلها متشابهة وغير أصلية.
وحينما تصل ليليان إلى نهر يونكا المتجمد، وتجرب عبوره، ستحيد الكاميرا عن متابعة سيرها، وسيتحول الفيلم إلى توثيقي عن حياة شعب آلاسكا، فيظهر تميزهم في نطق حرف القاف، وغلبته على كل الأصوات في كلامهم، قيمة المرأة ومكانتها المحترمة لديهم. وطريقة كسبهم للقوت عبر صيد الحيتان من طرف الشباب، إذ ترافقهم الكاميرا في قواربهم، وتنزل معهم البحر لترصد الحيتان، وتَتْبَعَ النِّبال وهي متجهة إلى ظهورها، وتجرها معهم إلى الشط، حيث الشيوخ والنساء والأطفال والحيوانات، ينتنظرون ليأخذوا حصتهم بالتساوي، ودون طمع في حصة الأضعف منهم، فيما يتركون للطيور البواقي، في تجسيد بالغ لمبادئ الاشتراكية.
أما عن مصير ليليان التي قطعت الطريق، من نيويورك إلى روسيا فظل غامضا، لم يفلح رأس الدمية المرمي على الشط، والأمواج تداعب ما تبقى من خصلاته في كشفه.
وبالمحصلة هو فيلم، يستحق أن نضبط إيقاع تنفسنا مع إيقاعه البطيء، ونتتبع ممثلته في رحلتها، والتي أجادت نقل انفعالاتها باحترافية، رغم طول مدته التي لم تكن اختيارا موفقا، إذ كانت تكفيه 80 دقيقة، لنستشعر من خلالها، أن مسار تمكن النساء من حقوقهن، طويل وشاق واستنزافي.


الكاتب : جلوى بركاس

  

بتاريخ : 02/03/2024