ليوطي: ميدان سياسة الحماية

لا يستقيم الحديث عن ميدان سياسة الحماية في المغرب دون العودة إلى الماريشال ليوطي. تحدث البعض من المؤرخين عن الجانب الروحي منها. إليها تُنسب كل المنجزات التي وقرت عن مُنجز فترة الحماية. برع ليوطي بنباهة فائقة في أن يُنصت بعمق إلى روح المغاربة، واقترب من نبضاتهم وسكناتهم…مثلما استطاع أن يوفي لروح الالتزامات الدولية التي ساقها مسلسل التنافس الاستعماري حول المغرب. استطاع أن يزاوج بين التسلط العسكري والواقعية الإدارية في اللحظة التي كانت فيه الأرض المغربية منذورة للصراعات والتطاحنات بين القبائل والسلطة. قد يكون من المذهل أن نُقر بفرضية أن الأفكار التي نافح عنها في ميدان المغرب لم تلق تأييدا من طرف الرأي العام الفرنسي وقتها، وخاصة فكرة «الخصوصية المغربية» التي فتحت له أبواب النقد في الصحافة الفرنسية.

 

 

في مراسلاته الحكومية كانت عبارات اللباقة والإقناع المسند بالحجة القانونية شفيعا في تغليب رجاحة اقتراحاته. أحيانا، كان يظهر ليوطي وكأنه يستعدي القانون؛ القانون الذي يُؤسس قواعد الخضوع ويُولد التقاعس الفكري ويقتل الإبداع وروح المبادرة…لكونه كان يؤمن بأن ما يصلح في باريس قد ينظر إليه كخطأ في الرباط. كل الذين أتوا بعد ليوطي كانوا يُقرون بأنهم ينتمون إلى مدرسته السياسية. والحق أنه ترك وراءه إرثا ثقيلا، روحيا أكثر منه ماديا…وقد تأكدت صلاحية أفكاره في ما يخص التهدئة والتطور الاقتصادي والاجتماعي في متغيرات مغرب الثلاثينات من القرن الماضي. حينما زاغت الحماية عن مضمونها القانوني، وحولت البلاد إلى ضيعة للاستغلال الرأسمالي الجشع. كان ليوطي يرافع في شأن أن الحماية ستسير بالمغاربة نحو مرحلة النضج السياسي، وتحررهم من سلوكات الإدارة العتيقة، فكلما سار التقدم كان على الحماية أن تخفَّ من ضغطها على المغاربة.
إستوغرافيا، لا تتأتى لحظة العودة إلى شخصية ليوطي دون مؤانسة كتاب الجنرال كاترو «ليوطي المغربي». لماذا بالضبط هذا الكتاب؟
يتعلق الأمر في المقام الأول بعمل توثيقي لجوانب من تاريخ الاصطدام العسكري بين الجيش الفرنسي وقبائل المقاومة المغربية من وجهة نظر عسكري فرنسي، وفي المقام الثاني بتسجيلات لحوارات ثنائية دارت بين كاترو وليوطي سنتي 1933-1934 حينما كان كاترو يعتزم أن يخبر ليوطي بالتطورات السياسية في مغرب الثلاثينات التي جادت بمتغيرات جديدة. وعبر هذا التوثيق العسكري، تنهال عبارات الإشادة والتقدير بما أنجزه الماريشال هوبير ليوطي في ميدان المغرب.
يرسم الجنرال كاترو صورة وفية لقائده ليوطي، ويعيد تركيب تفاصيل مركبة رافقت حياته. في حقيقة الأمر، يلتقي القارئ مع نوع من التحليل النفسي لشخصية هوبير ليوطي في المغرب يقترب من تحليل الخلفيات السيكولوجية التي أنتجت المواقف السياسية الكبرى المعروفة عند المؤرخين. والحال، يبدو هذا التمرين على قدر عال من الأهمية في ما يخص إعادة كتابة تاريخ الحماية في لحظاتها الأولى، وخاصة خلال فترة ليوطي 1912-1925. فكيف يتأتى فهم ازدواجية شخص دون تنميطها؟ كيف نفهم الحنين إلى الماضي والتوق إلى التحديث؟ كيف نفهم الانتماء إلى دوائر النخبة في المجتمع الفرنسي والدفاع عن عادات الأهالي؟
وجد ليوطي أمامه بلدا في وضع متحول، من سيادة كانت بيد السلطان صوب سيادة أقرت مضامينها معاهدة فاس 1912. كُلف وقتها بالتصريف الإجرائي لمقتضيات وثيقة الحماية. يعترف كاترو على لسان ليوطي بأن البلد قبل احتلاله العسكري كامل السيادة «…لقد وجدنا أنفسنا في المغرب أمام امبراطورية عريقة تاريخيا ومستقلة، متمسكة إلى أقصى حد باستقلالها، وشرسة في مواجهة لأي محاولة لإخضاعها، وهي تظهر في هذه السنوات الأخيرة كدولة قائمة الذات بترتيبها الإداري والوظيفي وتمثيلاتها في الخارج…». بلد تشوفت إليه بصائر القوى الأوربية منذ احتلال الجزائر 1830م لوفرة خيراته وثرواته البحرية والمعدنية، وباحتمالية أن يكون سوقا رائجة لتصدير واستيراد المنتوجات الصناعية الأوربية، وبكونه خزانا بشريا يصلح للاستغلال الاقتصادي…وقبل ذلك، وكان المغرب أن واجه هذا الوضع بتنبي سياسة الموازنة في سياسته الخارجية، يقترب من هذا، ويبتعد عن ذاك، ويجيد باستمرار لعبة خلط الأوراق. حاصل ذلك، تحقيق نجاح مؤقت فوّت فرصة الانفراد رغم فقدان بعض الأجزاء الترابية…
مع توالي مسلسل التسويات الدولية حول المغرب، بدأ هامش المناورة يضيق أكثر على المغرب، وخاصة مع «اتفاقية مدريد 1880- اتفاقية الجزيرة الخضراء 1906»…انهار الاقتصاد، وتراكمت ديونه، وانقلب الوضع الأمني، وانتشرت الفوضى أرجاء البلاد. لاحت بعد توقيع وِفق الحماية في الأفق ثورة أحمد الهيبة ضد الحماية الفرنسية، بعد رجع الصدى، طرح السؤال التالي: أكانت ثورة للمطالبة بالعرش؟ أم ثورة ضد الوجود الفرنسي؟ أدرك ليوطي مبكرا الزخم الذي كانت تحمله هذه الثورة الآتية من الجنوب، وجدَّ في مسعاه إلى أن يمنع التقاء قوات الهيبة مع قبائل تادلة وزيان والشاوية الثائرة ضد الوجود الفرنسي.
عودة إلى الكتاب، من حيث جنس التأليف، يمكن إدراج كتاب الجنرال كاترو «ليوطي المغربي» ضمن حلقات التآليف العسكرية الفرنسية. مصدر عسكري يؤرخ لبداية تطبيق الحماية الفرنسية على المغرب، ويعرض لعملية الضغط التي أجبرت السلطان التنازل عن العرش، والدهاء العسكري الذي تميز به هوبير ليوطي في استمالة شبكة الأعيان والنخب وسياسة الاحترام والمحافظة على هرمية السلطة. من خلال الكتاب يقف القارئ على وصف مجهري لأهم الاصطدامات العسكرية التي جرت أطوارها بين الجيش الفرنسي وقبائل الجبال والسهول والصحراء…وفي جانب منه، يقف عند ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي، لقد خلط انتصار محمد بن عبد الكريم الخطابي أ وراق الحماية وجعلها تشعر بقرب رحيلها عن المغرب ونهاية حلمها التي ناضلت من أجله لاستكمال مظلة الشمال الافريقي. كيف نفهم مطالبة الو طنيين المغاربة مباشرة بعد نهاية فترة إقامة ليوطي بتطبيق معاهدة الحماية؟
صدر الكتاب Lyautey le Marocain قبل رحيل الحماية عن البلاد بقليل. في حقيقة الأمر، يُعين الكتاب قارئ التاريخ في تتبع حملات «التهدئة العسكرية» التي جابت المغرب فترة حكم المارشال هوبير ليوطي. وهو بحق شهادة فرنسية حول ما اعتمل مغرب الحماية من احتكاكات مسلحة. من حيث المضامين ينصرف الكتاب إلى تتبع مسلسل تطويع القبائل، ويعرض إلى رؤية ليوطي في تدبير أحوال المغرب، وتفعيل بنود عقد الحماية الفرنسية. وقبل ذلك، حول جدل التوصيف. فهل يتعلق الأمر في البدء بحماية؟ أم باحتلال؟ أم باستعمار؟
تظهر صفحات الكتاب كما لو أن الأمر يتعلق بإعجاب، إعجاب جنرال عسكري بقائده في الميدان. في كل مناسبة يُثني كاترو على سياسة ليوطي في المغرب القائمة على مبدأ الاحترام والتوقير…يغطي الكتاب مساحة زمنية مهمة من تاريخ مغرب الحماية، ويتناول المراحل الأولى لفرض الاحتلال العسكري، ويعرض للضغط الفرنسي الذي أجبر السلطان عبد الحفيظ على التنازل عن العرش. في حقيقة الأمر، قام ليوطي بتفعيل بنود اتفاقية الحماية، وصنع مغربا قائما على المصالح من خلال سياسة الاستمالة. أحاط نفسه بفريق من الخبراء والاستراتيجيين، ومزج بين عمق فهمه للظرفية، وموهبته السياسية وساعده في ذلك حسن الطالع…
هل كان لأحد كان أن ينجح في تدبير المسألة المغربية غير ليوطي؟ ليوطي كان رجل حظ وسياق ونباهة. كانت لتجربة عين الصفراء سنة 1903 وتجربة وهران 1907 أن هيأته من أجل الاستعداد لتجربة الرباط 1912. فهناك في الشريط الحدودي الجزائري تعرَّف ليوطي على الشأن المغربي حينما كان قائدا للفيلق الذي كان يشرف على عمليات تأمين الشريط الحدودي. والحق، إن تجربتي عين الصفراء ووهران لحظة اختبار وتجربة لتطبيق نظريته حول موضوع الحماية والتهدئة. ليوطي تحكم في مقود سفينة كانت على وشك الغرق، بحنكة ربان ماهر وحازم، وكان للحظ أن لعب فعله في التدبير، اشتعلت نيران الحرب العالمية الأولى وفتحت له أبواب النجاح من خلال التحرر من كل الوصايات والقيود وحالات سوء الفهم والمعاكسات. الحرب هي التي نقلت ليوطي من وضعية الماريشال المقيد بترتيبات شكلية إلى وضعية الماريشال المتمتع بحرية التصرف، وبصلاحيات مطلقة وبموارد مالية، متحرر من كل المعيقات الدولية ومن ثقل المساومات الألمانية.
ليوطي كان يهدف إلى بناء مغرب عصري على حساب مغرب تقليدي، وأن ينتزع الأرض العجوز من سباتها عن طريق سياسة الأوراش الكبرى بواسطة نظام إداري عصري مسنود بآلة اقتصادية تنهض بالإنتاج وتعمد إلى تنشيط دورات التبادل مع احترام الحياة الإسلامية. باختصار، أن يضع البلاد على سكة التنظيم والعصرنة، دون إزعاج التقاليد أو تغيير العادات…نظر ليوطي إلى المتمردين شركاء في التدبير وليس كخصوم، وعمد إلى استدراج المغاربة نحو تقبل وضعية الحماية وأن يجنبهم المهانة…أراد أن يلج بالمغاربة نحو مرحلة النضج السياسي، وأن يتجنب الصدام مع الحساسيات الوطنية…بعد الحرب بدأت معالم التغيير تظهر على مسرح المغرب، وبدأ ليوطي يثبت فهمه العميق للمسألة المغربية، ويفرض وجهة نظره على الرأي العام الفرنسي ويكسب معركة الإقناع. ليوطي رجل دولة تملَّك المعرفة والدراية وكفاية التبليغ. خاض معركة مزدوجة: كسب الرأي العام الفرنسي في الخارج، وكسب معركة فرنسيي المغرب وتوحيد صفوفهم. ومن خلالهما، يجب وضع الجميع على سكة المبادئ المشتركة لفئات عريضة من المغتربين الذين لا رابط ولا طبقة اجتماعية لهم. «…يتحتم على فرنسيي المغرب أن ينبذوا روح الاستعمار ويتشبعوا بروج الحماية».
استعدي ليوطي في بداية فترة الحماية من طرف رجال الإدارة والجيش واتهم بممارسة سياسة استبداد العقول ووضع سياسة متحجرة في المغرب. وزاد استبعاد الجنرال شارل مانجان Charles Mangin سنة 1913 بحجة التمرد الروحي الذي يقف عائقا أمام تنزيل فلسفته في المغرب من تحريك مشاعر السخط على الدوائر المتربصة عليه. صحيح أن نتائج معركة سيدي بوعثمان 1912 قد صعدت بأسهم القائد مانجان، وأظهرت تفوق أسلوب القوة على أسلوب التهدئة. بدأت لحظتها الصحافة الفرنسية تشيد بالعمل العسكري الذي أنجزه مانجان، وبضرورة حسم قضية التمردات العسكرية. مانجان نموذج للعسكري الذي يخفي وراءه حلم القوة لتحقيق التهدئة، ويتوق إلى التوشح بالترقيات والمجد والأوسمة، بينما ليوطي نموذج للعسكري الذي يضع البندقية مشدودة إلى الحزام، حيث الانتصارات الحقيقية هي التي تأتي بالسلم. وحتى هزيمة الهري 1914 أظهر ت مرة أخرى نباهة ليوطي، حينما حاد الكولونيل لافيردور Laverdure عن تعليمات ليوطي، وتوغل بالجيش في جبال الأطلس المتوسط، وألقى بحتف ثلث الجيش الفرنسي. يقول ليوطي: «…يجب البحث عن السبب الحقيقي لقضية الهري في المذاهب التي أدخلت إلى المغرب بواسطة بعض المدارس الاستعمارية…».
أترث معركة سيدي بوعثمان على أعصاب ليوطي، وأعادت الشك في قدرته على تأمين سلامة المغرب «…منذ 17 أبريل وبداية عهد الحماية، أصبح هناك مغربان؛ واحد نحتله وهو بدون أهالي مؤهلين للحرب وبمخزن ضعيف وغير مهاب؛ وآخر أكثر أهمية، يتكون من تكتل بربري، مهتز في عمقه، متعصب، يزخر بالمؤهلات الحربية، باستطاعته أن ينتفض بجميع مكوناته ضدنا، بحوافز من المؤثرات التي لا يمكن أن نتحكم فيها. لا يمكن أن يتجاوز تشخيصي للوضع مع ما يقع في الوقت الراهن. ومع ذلك، يمكن على الأقل أن أضمن أنه، باستخدامنا المشترك لجميع الوسائل، وبتوظيف المخزن بعد إعادة تشكيله، وبتحفيز الجيش على بذل أقصى جهد ممكن باستمرار وبدون حساب، سأسعى جاهدا إلى إيجاد حل للصعوبات بقليل من الوسائل وبترتيب القضايا حسب أهميتها ما أمكن ذلك…». يُلح ليوطي على ضرورة تجنب استفزاز سكان الجبال والسهول، وتقوية الأراضي التي تحكم فيها الجيش الفرنسي، كان يريد أن يخلق الانسجام بين المغرب التقليدي ومغرب الحماية. بعد مغادرته تم التخلي عن نظرياته في الحكم، وطغى التدبير التقني على التدبير الروحي…زاد الاستياء العام واستفاقت النخب الجديدة مطالبة بضرورة مراجعة نظام الحماية.

 

 


الكاتب : عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 27/01/2023