مأساة مثقف آخر سؤال لنصر أبو زيد..! 2/2

ليس من قبيل المبالغة إطلاق اسم “الشهيد الحي” على الكاتب المصري نصر حامد أبو زيد. دفع أبو زيد ثمنا غاليا لدراساته حول النص الديني من خلال اعتماد منطق ومنهج وتوجه مخالف للتقليد السائد. “أقيمت الدنيا عليه ولم تقعد” حتى الآن، وسخّر القضاء المصري نفسه في تلفيق التهم بالردّة والإلحاد ضدّه فأصدر قرارا تعسّفيا بتفريقه عن زوجته. وضع على لائحة المطلوب تصفيتهم جسدياً بعد أن أفتى رجال دين ينتمون إلى أزمان القرون الوسطى ومحاكم التفتيش بهدر دمه. صحيح أنّ “حكم الإعدام” الذي صدر بحقّه من خلال اتهامه بالهرطقة والزندقة لم يجد طريقه إلى إزاحة أبو زيد من هذه الحياة، لكنّ تطبيق هذا الحكم اتّخذ شكلا مؤلما لأبو زيد عندما أجبر على مغادرة بلده مصر والالتجاء إلى بلد أوروبي من أجل أن يدرأ الموت الذي كان محتّما فيما لو بقي مقيما في مصر، خصوصا أنّ مصير الكاتب فرج فوده وغيره من المتنوّرين كان لا يزال ماثلا وأنّ دمه لم يجفّ بعد.
هكذا اختار أبو زيد تنفيذ الحكم ضدّه بنفي نفسه من بلده وارتضاء العيش في العالم الغربي، وهو أمر أتاح له أن يستمرّ في عطائه وفي مقارعة التخلّف الثقافي والفكري الذي تقبع فيه المجتمعات العربية بشكل عامّ، وأن يستكمل مقارعته للأصولية الإسلامية وفكرها الظلامي.

 

بين محمد أبو زيد ونصر أبو زيد

منذ قرابة القرن، قدم كاتب أزهري أسمه محمد أبو زيد مجموعة من الكتب، بينها كتاب في التفسير بعنوان “الهداية والعرفان”، تمت مصادرته وقت صدوره وقدم صاحبه إلى المحاكمة سنة 1917 لأنه ذكر فيه أن آدم ليس نبيا ولا رسولا بنص قطعي وإنما نبوته ورسالته ظنية، فكان هذا مبررا ليرفع البعض شأنه للقضاء، طالبين التفرقة بينه وبين زوجته بتهمة الردة. واستجابت المحكمة الابتدائية للأحوال الشخصية بمدينة دمنهور، وحكمت بالتفريق بين المدعي عليه وزوجته، ولكن محكمة الاستئناف بالإسكندرية حكمت برفض الدعوى ونقض الحكم ضد محمد أبو زيد يوم أول كانون أول – ديسمبر1918، وهكذا استطاع أن يواصل عمله، فأصدر تفسيره الذي اشرنا إليه بعنوان «الهداية والعرفان في تفسير القرآن» في سنة 1930 ما أثار عليه غضب القصر الملكي واعتراض المفكر المعروف محمد رشيد رضا، الذي اتهمه بالكفر والمروق عن الدين، فتشكلت لجنة من الأزهر قررت مصادرة الكتاب. لكن اللافت للانتباه أن رشيد رضا في اتهامه لصاحب الكتاب بالكفر زعم أنه سرق أفكاره المتضمنة في الكتاب من محمد عبده..!
وبين محمد أبو زيد القرن الماضي، ونصر أبو زيد القرن الحالي، ظلت خارطة المشهد الثقافي العربي المعاصر في المجمل، ممهورة بالاسباغ المقنن لطبائع الاستبداد ودعوى السلفية الظلامية .. من أجل هذا كله، تظل الحاجة موصولة إلى إعادة تأمل المتن الحي الذي خلفه نصر حامد أبو زيد، ووضعه على محك كشف علاماته وإيحاءاته.
وفي القلب من الحركة الفكرية العربية المعاصرة، مثلث أعمال نصر حامد أبو زيد أحد الأعمال النظرية الفاعلة التي تتميز بقوة التأسيس وتجاوز القيود، في محاولتها إحداث وعي علمي بالتراث الديني وتأكيد تاريخية النص المقدس من خلال نقده لتراث علوم القرآن، وتقديمه التأويل كوسيلة مثلى للمحافظة على انفتاح النص من جهة، ودرء تعارضه مع البرهان من جهة أخرى، وكلها طروحات ساهمت في بناء كفاءة التعقل والتنظير في مجال الفكر العربي الإسلامي المعاصر.
وأثار خطاب أبو زيد في تأوليه سجالا حادا وصل إلي إدانة صاحبه واتهامه بالمروق والردة، ربما لأن التأويل كفعل لم يكتسب شرعيته إلى الآن في فكرنا المعاصر،حيث يوصف عادة من قبل خصومه علي أنه جنوح عن المقاصد والدلالات الموضوعية، ودخول في إثبات عقائد وضلالات، أو علي الأقل حينما يزاول بين المقبول والمذموم في التأويل، واشترطوا عدم الخروج عن أصول الشرعية والعقيدة،عبر ضوابط ومعايير أوردها علماء أصول الفقه، ولدي أبو زيد، يعني التأويل تمثل الدلالات الكاشفة والمشتركة بين أسئلة الحاضر ومعطيات النص، عن طريق تجاوز منطوقه الظاهري، والالتفات إلى كثافة معناه، والمفاضلة بين وجوه احتمالاته.
وتأسيسا علي هذا المنهج في تأويل القرآن، ينتقل أبو زيد إلى تحليل نصوص الفكر الديني القديم والحديث، مستنتجا ان الشافعي أسس الوسطية في مجال الفقه والشريعة، وأسس الأشعري الوسطية في مجال العقيدة، أما الغزالي فهو أسسها في مجال الفكر والفلسفة، استنادا إلى تأسيس كل من الشافعي والأشعري، فيما حركة الفكر الحديث تدور حول التوثيق بين الإسلام والحضارة الغربية، وهو ما يتضح لديه عند الطهطاوي أو جمال الدين الأفغاني أو محمد عبده أو طه حسين أو زكي نجيب محمود أو خالد محمد خالد أو حسن حنفي، على فروق بينهم في الدرجة.
وبهذا التوجه، رفض أبو زيد الخطاب الوصلي المعاصر، لتوقفه عند الملفوظ المنطوق للنص، وعجزه عن فهم سياقه الاجتماعي الثقافي، وكذلك رفض القرارات الأيديولوجية، مصطفي محمود، محمد عيتاني، أحمد شحرور، وتلك التي تحوله إلى إطار فكري جامد، أو منظومة عقائدية تكتفي غالبا بالقراءات المباشرة، دون التوسط بتحليل مركز يتبع التفاصيل.
عوامل مشتركة
قلنا إن بين محمد عبده والأفغاني والكواكبي وطه حسين وقاسم أمين ونصر أبو زيد وشائج صلة، على رغم اختلافهم في تفاصيل طروحاتهم الفكرية، وعلى رغم اختلاف وسائلهم في التعاطي مع الحال الاجتماعية التي صاحبت هذه الطروحات. ومنذ «رفاعة الطهطاوي» رائد التنوير المصري في القرن التاسع عشر ومفتتح المفهوم الثقافي المعاصر في مصر، وصولا إلى أبو زيد، انتصر المنهج التراكمي على الصدامي، وفي كل الحالات كان الدفاع عن الحرية كقيمة سياسية ودينية هو لب النزاع بين هؤلاء المثقفين ومجتمعهم، حرية سياسية كما عند الكواكبي والأفغاني اللذين دفعا الثمن غاليا من حريتهم وحياتهم، وحرية دينية كما عند محمد عبده وقاسم أمين وطه حسين وأبو زيد، وفي كل الحالات كان الصدام غير مقصود.. طه حسين لم يقصد التعرض المباشر لما وقع له في منتصف العشرينيات على يد القضاء، ومصادرة كتابه الشعر الجاهلي، ولم يكن ليود أن ينقح كتابه ويعيد تسميته بالأدب الجاهلي ويعيد إصداره، كما اضطر إلى أن يفعل بعد ذلك.. تعاطى طه حسين ببراغماتية، ومر من الموقف وتعلم الكثير في طرح أفكاره بعد ذلك، ومن قبله سار الإمام محمد عبده على نفس الدرب، فيما تعرض قاسم أمين للاضطهاد والتشهير المنحط ردا على أفكاره باتجاه تحرير المرأة، وهي الأفكار التي اصطدمت بشدة مع الوضع الثقافي المصري في مطلع القرن العشرين..!
الذين اصطدموا دفعوا ثمنا باهظا والذين راكموا الوعي أيضا لم يحصلوا على ثمرة لمشروعاتهم الفكرية، وتبدو مهمة تنوير المجتمع ونقله إلى حال الحراك الفكري وحرية التعبير و«المدنية» في مقابل الدولة الدينية، كسؤال لا يجد من يجيب عليه منذ رفاعة الطهطاوي وصولا إلى نصر أبو زيد، ويبدو أسلوب الإجابة حتى اليوم غامضا، ويحتاج إلى جهد جديد من المثقف المصري والعربي..!


الكاتب : حمدي رزق

  

بتاريخ : 08/06/2020