مأساة مثقف القراءة النقدية للتراث وعائق التكفير 1-

يظهر استخدام مفهوم العائق الإستمولوج ي في حقل العلوم التجريبية والرياضية مألوفذا، فقد بيّن باشلار في دراسته لتطور المعرفة العلمية، وخاصة الثورة العلمية المعاصرة في مجال الميكروفيزياء والرياضيات اللاإقليدية، أن ذلك ما كان يمكن ليحصل دون تجاوز العوائق الإبستمولوجية، هذه العوائق التي عملت المعرفة اللاعلمية على غرسها في بنية الوعي، بما في ذلك الحس المشترك، الملاحظة المباشرة، البداهة، اليقين، التطبيق العملي (…) في حين أن المعرفة العلمية المعاصرة تقوم على مبادئ وأسس جديدة مناقضة تماما لما سبقها.لقد أصبحت المعرفة تقوم على منهج البناء العقلي للحوادث بالإنطلاق من الفرضي إلى التجريبي.

في مجال العلوم الإنسانية وفيما يخص الموضوع المدروس، أي التراث العربي الإسلامي، فإنه يمكن اعتبار التكفير عائقا يحول دون تطور القراءة النقدية، لأن الخطاب الديني وضع مجموعة من الطابوهات أو المحرمات بمثابة مقدسات لا يحق للدراسة العلمية أن تتطرق إليها. وفي حالة اختراق الباحث لهذه الحدود الحمراء، تشتغل آلية التكفير كرد فعل دفاعي، لتضع حدا لهذه الاختراقات بإقصاء الباحث من دائرة الإسلام ووضعه في دائرة أخرى رغما عنه و هي دائرة الكفر، مما يجعل القارئ المسلم لا يثق في أفكار الباحث ونظرياته، لسبب واحد كونه ليس مسلما، وبالتالي لا يمكن لنظرياته أن تخدم الإسلام. العلاقة التي أقامها الخطاب الديني المنغلق مع غير المسلم، هي علاقة عداوة وصراع، فوجود الآخر وجود آثم ليس له من مبرر إلا هدم الإسلام.
في العلوم الإنسانية، المسألة ليست بهذه البساطة، لأنه لا يمكن إصدار حكم نهائي حول قيمة عائق التكفير، أو قيمة التكفير باختصار، لأن كثيرا من المفكرين لا يتاح لهم التفكير الجدي والعميق إلا في الظروف التي يشعرون فيها بالخطر. إذا ما حقيقة التكفير، وكيف يمارس تأثيره على الخطاب التنويري عموما وخطاب أبو زيد خصوصا؟

حضور عائق التكفير
في نصوص أبو زيد

«يا أهل مصر المعمورة، لا تصدقوا كلام القاضي أنني مرتد، ولو كان في النقض، لأن المرتد والعياذ بالله لا يتقدم بردته لينال لقب «الأستاذية» في جامعة في بلد مسلم إلا لو كان مجنونا… ولم تظهر علي أعراض جنون من أي نوع». نصر حامد أبو زيد / مجلة الطريق / نداء إلى الشعب المصري / مجلة الطريق /العدد4، السنة 55، 1996.
منذ أن تعرض أبو زيد لحكم التكفير بطريقة غير مباشرة من طرف اللجنة العلمية للجامعة، والتي قامت بقراءة منتجاته العلمية سنة 1992م، وبطريقة مباشرة من طرف محكمة استئناف القاهرة يوم 14يونيو1995م، وأيدته محكمة النقض في 05 أغسطس 1996م. ومن حينها وعائق التكفير حاضر في نصوص أبو زيد بثلاثة أشكال مختلفة:
من خلال التكلم عنه في مقدمات مؤلفاته التي تلت الحكم، والتطرق إليه على أنه مشكلة خاصة، حالت مثلا دون حصوله على الترقية المهنية التي كان يرغب فيها وهي درجة الأستاذية، بالإضافة إلى ما ترتب عن حكم التكفير من فصل بينه وبين زوجته، وأخيرا حالة الغربة التي يعيشها في المهجر…
من خلال ممارسة العائق لتأثير سلبي على فكر المؤلف، غير طريقة تفكيره عن وعي أو عن غير وعي، مما جعله يتراجع إلى حد ما عن مشروعه التنويري، فقد تسلل الخطاب النقيض إلى تفكيره، وقد شعر أبو زيد بذلك. حيث صرح في كتابه «الخطاب والتأويل» قائلا: «لكن هذا شيء وتسلل «الخطابية» إلى كتاباتي شيء أخر. لذلك توقفت عن الكتابة لبعض الوقت. حين تأملت الأمر أدركت أن الخطاب النقيض يحاول أن يغزوني من داخلي بالتأثير السلبي على بنية خطابي، وهو خطاب يمكن أن يتمدد تمددا سرطانيا ليصيبه بالشلل1. والمقصود بالخطابية علو نبرة الصوت والتنغيم كما يفعل خصومه أمثال محمد عمارة عندما يخاطبون الجمهور، في حين أن طريقة كلام أبو زيد عكس ذلك.
وعى أبو زيد بآلية التكفير بعد تعرضه للمحاكمة، مما جعله يطرح هذه الآلية كعائق مهم، وخاصة في كتابه «التفكير زمن التكفير». ومن بين المسلمات التي يؤكد عليها أن سيطرة اتجاه فكري لفترة طويلة من الزمن لا يعني أن الإتجاهات الأخرى «ضالة» أو«كافرة». بالإضافة إلى وعيه الذي إزداد بتأثير الخطاب النقيض (الخطاب الديني السلفي) المستخدم لآلية التكفير على الخطاب التنويري في مختلف أطوار التاريخ.
قضية أبو زيد تبدأ إذا عندما عرض أعماله العلمية على اللجنة العلمية بغية الحصول على درجة الأستاذية. وكانت اللجنة تتألف من ثلاثة أعضاء دكاترة هم: علي مكي، عوني عبد الرؤوف ، عبد الصبور شاهين. وبعد قراءتها أبدى هذا الأخير ملاحظة فحواها أنه لمس في أعمال المرتشح «أبو زيد» ما يوحي بالكفر والإلحاد. لقد تأثر العضوان الآخران بهذا الحكم، فأقروا جميعهم حرمان أبو زيد من الترقية. وقد أيد مجلس الجامعة قرار اللجنة العلمية، رغم أن كلية الآداب عينت لجنة علمية خاصة شملت مجموعة من الدكاترة هم: حسن حنفي، جابر عصفور وآخرون. وكانت نتائج قراءتهم للأعمال إيجابية، حيث جاء في تقريرها ما يلي: «قضية أبو زيد» أصبح هذا العنوان يدل دلالة مباشرة على مشكلة حرمان أستاذ بجامعة القاهرة من حقه في الحصول على لقب الأستاذية الكاملة (لا المساعد) وذلك استنادا إلى تقرير ينتهي بتكفير الإنتاج العلمي الذي تقدم به الأستاذ المذكور2. وقد استند تكفير اللجنة العلمية لإنتاج نصر حامد أبو زيد على المبررات الآتية:
العداوة الشديدة لنصوص القرآن والسنة، وتفضيل أهل الرأي على أهل الحديث، ونقد الشافعي الذي أعطى الأولوية للنص وجعل القياس مقيدا به، فيما يعرف بالقياس بالنص
نعت الصحابة والأئمة بما لا يليق بهم.
إنكار المصدر الإلهي للقرآن والقول بتاريخيته.
نفي كون لله خالق كل شيء.
الدفاع عن الماركسية والعلمانية
الدفاع عن سلمان رشدي وروايته «آيات شيطانية».


الكاتب : محمد حيرش

  

بتاريخ : 10/06/2020