مؤسس «دار الجمل» الشاعر العراقي خالد المعالي: شعوبنا فضولية إلا في القراءة

نحن نحترف تذكر الأشياء الجميلة، أما السيئة والمتعبة فنتناساها

 

القصيدة الجميلة هي القصيدة الحقيقية، تلك
التي أشعر بها وأنفعل معها والتي تعطيني درسا دون أن أعرف ما هو. درس جديد مثل رجفة صغيرة

عادة، نعرف
أن البؤس يدفع إلى الكتابة والمجازر تؤدي إلى بروز
أصوات حقيقية، ولكن عندنا في العراق، لم ينتج واقع الحال الأليم شيئا

 

ليس سهلا التعامل مع مثقف ومبدع معني بكل ما يحدث في العالم من حوله، مشغول بما مضى ومتربص للآتي، حاسم يحمل قضاياه الخاصة والعامة أينما حل، ولا سيما قضايا الإبداع والنشر، مثل الشاعر والناشر خالد المعالي.
بمناسبة صدور مجموعته الشعرية الجديدةـ «رعويات صنين وقصائد أخرى»، ومرور 40 عاما على انطلاق «منشورات الجمل» التي يديرها كان لـ»المجلة» معه هذا الحوار.

 

p الشاعر والمترجم والناشر، ثلاث شخصيات تتقاطع وتتباعد، أين تجد نفسك أكثر حرية؟

n في الشعر أولا وفي الترجمة ثانيا، فكتابة الشعر عمل حر وفردي وكذلك الترجمة (في مثل حالتي) هي عمل حر وانتقائي لأنني أترجم إلى العربية القصائد أو النصوص النثرية القليلة التي أحب، أما بالنسبة إلى النشر فهناك آليات أخرى وهموم كثيرة مرتبطة بالجدوى الاقتصادية تفرض شروطها على عملي كناشر. دار النشر لن تستمر دون أن نهتم بالحالة الاقتصادية، على الرغم من أنني أغامر، وفي أحيان كثيرة لا أبالي إنما أحاول أن أساير هذه وتلك.

الترجمة

p كيف تختار ترجماتك؟ وكيف تختار الكتب التي تنشرها؟

n لم ألبِّ طلبا لشخص أو مؤسسة بأن أترجم عملا معينا أو كتابا، ولم أستطع أن أترجم ما لا يعجبني، وطبعا لم أترجم كل ما يعجبني، فالوقت لا يتسع لذلك.
ولأني كاتب، وقد أجبرتني الظروف على أن أكون ناشرا، ولأني قارئ جيد في الأصل، أقرأ كل شيء… صارت حاستي مضاعفة إزاء الكتب والكتّاب من كل حدب وصوب، ليس في اللغة العربية فحسب وإنما في اللغات الأخرى أيضا. هذه المتابعة تجعل كل واحد منا يعرف كيف يختار كتبا حيّة حقيقية تفتح آفاقا للقراء، وتقدم فهما جديدا ولا تعيد ما صيغ سابقا.
في الدرجة الأولى، أحاول نشر الكتب التي تعجبني لأشارك القرّاء هذه المتعة، ولكن يبقى هناك كتب أنشرها وهي ليست سيئة بل جيدة نوعا ما، وقد تكون من الكتب التي تباع، ويطلبها المتلقي، فنحن نحتاج إلى عناوين تجعلنا نطفو على الماء ولا نغرق. هذه خطة يعتمدها الكثير من دور النشر في العالم، تلك التي لا تتبنى المعيار المادي بل النوعي. تعلمت هذه القاعدة في ألمانيا حيث أنشأت «الجمل»، من دور نشر كبيرة ومهمة ولا تعتمد المنطق التجاري البحت. تنشر مئات الكتب الأساسية والثقيلة التي لا تنشرها دور نشر غيرها، وفي الوقت ذاته تنشر لكتّاب رائجين فتجلب مؤلفاتهم بذلك للدار مدخولا يخوّلها تمويل بقية المنشورات الصعبة.

p ما المشاكل التي تعاني منها دور النشر في عالمنا العربي، و»دار الجمل» تحديدا؟

n أول ما نعاني منه هو التزوير، يصدر الكتاب لدينا في ألف نسخة ونجده بعد شهر واحد أو أقل قد زوّر وانتشر وصار في متناول الجميع، ومن المستحيل محاربة هذه الظاهرة ومنعها، وهذا ما يجعل دور النشر تتكبد خسائر كبيرة، بالإضافة إلى أن المؤسسات البحثية في بلادنا لا تقتني الكتب إلا في ما ندر، ونحن هنا نتحدث عن عالم عربي سكانه أكثر من 400 مليون عربي ولا نستطيع فيه بيع ألف نسخة. أما في ألمانيا فيحدث أن البحوث والتحقيقات التي يقوم بها أساتذة وفلاسفة وعلماء اجتماع تمولها منظمات مدنية حرّة أو بنوك أو مؤسسات تجارية دون شروط مسبقة. والكثير من المؤسسات والجامعات والمعاهد من جميع أنحاء العالم تقتني الكتب بحيث يبدو تصريف 5000 نسخة من هذه الإصدارات، أمرا مفروغا منه.

تأسيس «الجمل»

p مرّ على تأسيسك لـ» دار الجمل» 40 عاما، ويتفق الكثيرون على أنها دار مميزة، ماذا تتذكر من سنواتها الأولى، وماذا تقول عن الأخيرة؟

n دخلت مجال النشر بلا رأس مال ولا معلومات عن المهنة ولا توقعات مسبقة وبجهل تام، كنت أملك الشغف وآلة كاتبة فقط. أتذكر جيدا كيف كنت أصفّ الكتب بيدي كلمة كلمة وبصبر ودقة، إلى أن اختُرع الكومبيوتر ودخلنا معه إلى التكنولوجيا. لقد تعلمت كيف تُصنع الكتب، وكيف يجب علينا من خلالها مخاطبة ذكاء القارئ وليس جهله. غالبية دور النشر العربية تعامل القارئ كغبي، وذلك عبر الامتناع عن نشر الكتب التي تطرح الأسئلة وتهز القناعات الثابتة. أما بالنسبة إلى التميّز فالأمر بسيط، أنشر الكتب التي أحب قراءتها فقط ، تلك الحيّة التي تتناول ظواهر الحياة، سواء القديمة منها أو التراث أو الحديثة أو المترجمة من لغة أخرى. غيّرنا نظرتنا التي ورثناها، تلك التي تعتمد عقلية الأسود والأبيض، وعملنا على رؤية العالم وتقديمه بألوان قوس قزح. لم تكن التجربة سهلة بل مزعجة أحيانا وصعبة كثيرا، ولكن نحن نحترف تذكر الأشياء الجميلة، أما السيئة والمتعبة فنتناساها.

p وراء الكاتب النجم الحائز جملة من الأوسمة وضيف المعارض والمهرجانات، ناشرون ومدققون وموزعون ومروجون، وأيضا قراء ومريدون، لماذا نرى الكاتب في الكثير من الأحيان غير راض عن أداء دور النشر، ولديه شعور بالغبن؟ كيف تصف علاقتك مع الكتّاب؟

n هناك أسباب تتعلق بالكاتب وأخرى بدار النشر. الكاتب العربي أناه متضخمة جدا، إلى درجة يخال أن كتابه سيدر عليه أموالا طائلة وستباع نسخ كتابه بسرعة، وقد حصلت معي حوادث كثيرة تدل على ما أقول، ولكن يبقى هناك كتّاب متواضعون يفرحون لأي خبر بسيط وإيجابي. أما بالنسبة إلى الناشر فقد يكون في أكثر الأحيان خدّاعا ودجالا يسرق حقوق الكاتب ولا يعطيه إلا القليل. فالثقة المتبادلة مفقودة بين المؤلف وناشره، وهذه المتاهة موجودة فقط هنا في بلادنا، أما في الغرب، ألمانيا مثلا، ففي إمكان الكاتب أن يعرف عدد المبيعات من خلال الكشف الضريبي والمالي لدار النشر. في «منشورات الجمل» علاقتنا إجمالا جيدة مع الكتاب ولكن هذا لا ينفي أن مشاكل كثيرة تحدث حول الحقوق.

القراءة ترفا

p هل نعيش في زمن صارت القراءة فيه ترفا أو عادة غريبة، أم أن هذا لا نجده إلا في البلاد العربية؟

n الفضول هنا ضعيف جدا ومتدنّ تجاه كتاب مغلق أو عنوان جديد أو موضوع صعب أو تجاه إصدار لم ينتشر ولم يتكلم عنه أحد، شعوبنا فضولية في الكثير من الأمور إلا في القراءة، ولا ننسى المشاكل الاقتصادية والاجتماعية المستفحلة في المجتمع.

p أي نوع من الكتب هي الأكثر مبيعا في «الجمل»، وما العناوين التي تجذب القارئ العربي؟

n تباع عناوين في الأدب والرواية وفي الفلسفة وعلم الاجتماع وبعض الكتب التراثية، أما الشعر فقليل الطلب عليه حتى المترجم منه، وهذا خلق مشكلة في عالم نشر الشعر تحت ذريعة أن الشعر لا يباع، تصبح أولوية النشر لكل شخص يملك مالا (ولا أعتقد أن الشاعر الحقيقي دوما يملك مالا) فتنتشر الكتب الرديئة، الكثير من القصائد التي تنشر اليوم تسيء إلى الشعر ولا ننسى أننا في زمن مواقع التواصل الاجتماعي التي أباحت نشر النصوص وصار لكل شخص منبر والجميع صار شاعرا، فضلا عن أن الشعراء لا يقرأ بعضهم بعضا.

بيروت

p تقيم حاليا في بيروت، ومبدعون عراقيون كثر مرّوا من هنا، البعض منهم كان لديه همّ التحرر من الثقافة العربية والأيديولوجيا، والآخر همّ الإفصاح والبوح، وربما تكون آخر من تبقى من الكتاب العراقيين في المدينة، ما الذي يبقيك؟ هل لديك صداقات في الوسط الثقافي اللبناني والعراقي؟

n علاقاتي مقطوعة مع غالبية الكتّاب هنا، وأشعر أنه ليست لديّ أسباب ومشاعر تدفعني إلى أن أصادق أحدا، إلا نادرا، فأنا أبحث عن مثقفين يكون النقاش معهم ثريا ومجديا. أصدقائي هنا لا يبلغ عددهم الخمسة وعلاقتي محدودة مع الكتّاب العراقيين. أهتم فقط بمن أنشر لهم في «دار الجمل».
الأدباء العراقيون المقيمون في العراق اليوم، على الرغم من كل الحرية الزائفة أو الحقيقية (لا أحكم) أرى أن أصواتهم تُقتل وتبعّد لأسباب غير أدبية. لا يوجد عمل أدبي حقيقي وهذا مردّه عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، عادة نعرف أن البؤس يدفع إلى الكتابة والمجازر تؤدي إلى بروز أصوات حقيقية، ولكن عندنا لم ينتج واقع الحال الأليم شيئا، لم أجد مؤلفا اقتحم الأجواء الأدبية، أو كاتبا الّف رواية عظيمة. أحكي طبعا عن النصوص التي قرأتها فقط.

جبل صنين والشعر

p بدوتَ عاشقا لجبل صنين، سفحه، منحدراته، سكونه، وسكانه. اخترت فيه عزلتك وكتبت ما يقارب المئة قصيدة ونشرتها تحت عنوان «رعويات صنين وقصائد أخرى». هل هو عمر الحكمة أم أنه هروب من الواقع المرير؟

n هي قصائد فيها تأملات في النفس والحياة ولا يوجد فيها عشق. فرضتها الحكمة نعم أو الأحكام التي دفعتني إلى البحث عن مكان بسيط أنعزل فيه وأتأمّل وأكتب. لا أعرف أيّهما دفعني إلى الكتابة، ومن الذي يجبرني على التفكير بطريقة مختلفة، لم أجد الهدوء والسكينة في بيروت، الأصوات تصل غرف النوم، صنين هو نوع من الهرب من كل شيء والركون إلى النفس، هناك أسمع موسيقى وأطبخ وأمشي وأقرأ وأكتب.

p ما القصيدة التي تجعلك تتمنى لو كنت كاتبها؟ ومَن من الشعراء يكتبها في رأيك؟

n القصيدة الجميلة هي القصيدة الحقيقية، تلك التي أشعر بها وأنفعل معها والتي تعطيني درسا دون أن أعرف ما هو. درس جديد مثل رجفة صغيرة. أحب الكثير من الشعراء وهناك أصوات جميلة منتشرة في كل مكان، بعضها صدمني لأنه بقي في البداية يكرر ولا يعبر العتبة.

p عشتَ الشعر والنشر والتيه والتشرد بكامل حلله، من مبدأ «ما من طريق سوى الطريق»، إلى أين أوصلتك الطريق، أم أنها تلك التي لا تصل؟

n سؤالك ذكرني بقصيدة «إيثاكا» لكفافيس التي يتكلم فيها عن الرحلة بذاتها ،وعن كم تصبح غنيا في ما جنيته في الطريق «لقد منحتك إيثاكا الرحلة الرائعة، فبدونها ما كان لك أن تبدأ الطريق». بالنسبة إليّ، ماذا رأيت وماذا تعلمت وكيف تغيرت خلال الرحلة وأنا أعبر الطريق، هذا هو الهدف.

عن «المجلة «البيروتية


الكاتب : حاورته: لوركا سبيتي

  

بتاريخ : 19/01/2024