مات إسماعيل كاداريه وفي نفسه شيء من نوبل!

غيّب الموت الروائي الألباني الشهير إسماعيل كاداريه (1936 ـ 2024) عن ثمانية وثمانين عاماً، ليخسر الأدب العالمي واحداً من أكبر الكتّاب في النصف الثاني من القرن العشرين.
منذ نشر نصه «جنرال الجيش الميت» عام 1963 أصبح واحداً من أهم الأصوات في الأدب الألباني، وحققت له شهرة دولية، وهي تحكي عن جنرال إيطالي في مهمة قاسية يحاول خلالها العثور على رفات جنوده الذين لقوا حتفهم في ألبانيا خلال الحرب العالمية الثانية، وصدرت في أكثر من طبعة عربية، كما تحوّلت إلى فيلم سينمائي في ثمانينات القرن الماضي.
من نواحٍ كثيرة تشبه سيرة كاداريه أو «قادري» تجربة الروائي سلمان رشدي. فكاداريه الذي درس في معهد غوركي الأدبي في موسكو، ينتمي إلى ثقافة كان للإسلام حضور لافت فيها، مثلما هي الحال مع رشدي. وكلا الرجلين اتخذ موقفاً نقدياً من الجذر الديني في ثقافتيهما. كما حرص الاثنان على الانتماء إلى الثقافة الأوروبية المنتصرة، أولهما أصبح فرنسي الجنسية والآخر صار إنكليزياً. ويملك الكاتبان مشروعاً ضخماً يستلهم الموروث والأساطير، جعلهما مرشحين دائمين لجائزة نوبل في الآداب منذ سنوات بعيدة.
تزيد تجربة كاداريه عن ستين عاماً تنقل فيها ما بين الشعر والمسرح والرواية، والتأثر بتيار ما بعد الحداثة، وترجم إلى أكثر من ثلاثين لغة لكنه معروف في ترجماته العربية كروائي بالدرجة الأولى حيث صدرت له روايات معروفة مثل «من أعاد دورونتين؟» عن أسطورة عودة الأخ الميت من أجل الوفاء بعهده لأخته، إضافة إلى «طبول المطر»، و»قصر الأحلام» حيث ترصد الإمبراطورية العثمانية أحلام رعايها وتحلّلها، و»نيسان المكسور» التي تعالج موضوع الثأر، و»الجسر» و»قصر مدينة الحجر» وهي رحلة في بحث الإنسان عن ذاته، و»العاشق والطاغية»، و»الحصار» التي تروي الأحداث التي أدت إلى انفصال ألبانيا عن الاتحاد السوفياتي.
ومع تربعه على عرش الأدب الألباني أصبح عضواً في العديد من الأكاديميات الأوروبية، أهمها أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية منذ عام 1996 خلفاً للفيلسوف كارل بوبر، كما نال جائزة مان بوكر الأدبية المرموقة عام 2005، وجائزة أمير أستورياس عام 2009، وجائزة «نويستات» الأميركية عام 2020.

نقد الدكتاتورية

في أحد الأيام لخّص كاداريه علاقته بالأدب بأنه «أضفى مغزىً لحياتي، منحني الشجاعة لأقاوم، والسعادة والأمل في التغلب على الصعاب». وهو هنا يشير ضمناً إلى نقده لدكتاتورية أنور خوجة (1908 ـ 1985)، الذي حكم ألبانيا لأربعة عقود بقبضة حديدية، إبان هيمنة الأحزاب الشيوعية على مجمل أوروبا الشرقية.
وهي المعاناة ذاتها التي يتردد صداها في تجربة التشيكي ميلان كونديرا الذي تجاوز ذلك بالانتماء كلياً إلى الثقافة الفرنسية، بينما احتفظ كاداريه بهويته الألبانية برغم تعرض أعماله للرقابة ووصف المخابرات الشيوعية له بـ»الخائن».
هذا لا يعني أن كاداريه كان مضطهداً من نظام أنور خوجة، بل اتّسمت علاقته بالتذبذب ما بين الولاء والمعارضة، وانتخابه عضواً في البرلمان في عقد السبعينات من القرن الماضي… ثم مغادرته إلى باريس عام 1990 كلاجئ سياسي. بينما عانى زملاء له السجن والتشريد مثل قاسم تربشينا وبلال الجعفري.
يبرر كاداريه تمجيد بعض أعماله للدكتاتور بأنه كان أمام ثلاثة خيارات: إما أن يتمسك بمبادئه وهو ما يعني الموت، أو يختار الصمت وهو نوع آخر من الموت، أو يقدم بعض الرشوة وهو ما فعله حين كتب «الشتاء العظيم»، معتبراً أنه سعى إلى تغيير الدكتاتور نفسه عبر الأدب. مع ذلك ثمة أصوات يسارية تنتقده وترى أنه كان نجماً من نجوم حزب الدكتاتور

ضخامة المنجز

ولد إسماعيل في جيروكاسترا في جنوب ألبانيا، وهي مدينة دكتاتور ألبانيا نفسها، وكان قارئاً نهماً للكتب الأدبية منذ أن كان طفلاً في بيت جدته، كما امتلك شجاعة التعبير عن نفسه مبكراً جداً حين أصدر ديوانه الأول في السابعة عشرة من عمره. ومن وحي مدينته كتب روايته الشهيرة «قصة مدينة الحجر». كما ابتعد عن ألبانيا وتاريخها في بعض رواياته مثل «الدمية» التي تتناول علاقته بأمه.
برغم دراسته في روسيا إلا أنه تمرد مبكراً على الأدب الاشتراكي مع بداية عمله في الصحافة، وتأثر بالأدب الغربي الكلاسيكي، خصوصاً أعمال شكسبير وغوته وسرفانتيس ودانتي والمسرح اليوناني، أي ما يُسمى «الأدب المنحط» بحسب تعبيرات الاشتراكيين آنذاك. وهو ما جعل الناقد الأميركي ديفيد بيلوس يصف أدبه بأنه ذو «نكهة كلاسيكية شكسبيرية» لأنه روائي ملحمي يبجل التاريخ، وسعى عبر منجزه الضخم الذي يناهز مئة عمل إلى تشريح تاريخ بلاده، كما تميز بمزج الأساطير بالقضايا المعاصرة مع لمسة عاطفية مليئة بالأسى. كما لا تخلو أعماله من فكاهة ماكرة وسخرية دفينة.
لا تعني مركزية ألبانيا في أدبه أن نصوصه لا تذهب إلى أماكن وعصور مختلفة مثل مصر القديمة والصين وموسكو والنمسا، نظراً لأنها تتمتع بروح فانتازية أو واقعية سحرية تشابه أعمال ماركيز.
ولا شك في أن منجزه الروائي طغى على الأجناس الأدبية الأخرى التي كتبها مثل الشعر والقصة القصيرة التي لا تزيد عن خمس صفحات وحتى القصة الومضة.
موقف من الإسلام
برغم أن الإسلام يُعد جذراً مهماً في الثقافة الألبانية منذ خمسة قرون، إلا أن كاداريه كان ينظر إليه باسترابة ويرى أنه دخل البلاد حديثاً مع الاحتلال العثماني، داعياً إلى التخلص منه بوصفه عقبة في سبيل انتماء ألبانيا إلى أوروبا مثلما فعلت إسبانيا، ومحاولة إظهار التعاطف المتكرر مع ما جرى لليهود، وتركيزه على الهوية المسيحية لألبانيا، وإن حاول تعديل تصريحاته التي أغضبت الألبان المسلمين.

جائزة من إسرائيل

من يراجع محطات كاداريه، من دون الطعن في قيمة منجزه الأدبي، يكتشف أن موقفه من الدكتاتورية الشيوعية، وإن لم يكن من كبار ضحاياها، ومن الإسلام، وقبوله جائزة «القدس الدولية» من إسرائيل هو ما دعا بعض الكتاب العرب إلى التنديد به واعتبارها جسراً إلى نوبل، إضافة إلى زياراته المتكررة وترجمة أعماله إلى العبرية. وكلها مسوّغات تمهد لنيل جائزة نوبل، وهو يستحقها أدبياً، خصوصاً أنه نال كل جوائز الأدب الكبرى، وظل يُرشّح لنوبل منذ أكثر من ثلاثين عاماً، مع ذلك ظلت الجائزة عصية عليه، لينضم إلى المرشحين الأبديين الذين تخطتهم الجائزة، ومات وفي نفسه شيء منها. وذلك برغم أن منجزه لا يقل أهمية عن كاتب آخر ولد في البوسنة والهرسك ـ غير بعيد عنه ـ هو إيفو أندريتش الذي حاز الجائزة.


الكاتب : شريف صالح

  

بتاريخ : 07/08/2024