«ماطا» في الذاكرة الشعبية

من تراث الفرجة الجماعية ببوادي منطقة جبالة

 

تتخذ مظاهر الفرجة الجماعية أشكالا تقليدية للتعبير عن الفرح كقيمة إنسانية كونية مرتبطة برصيد تراكم القيم والمواقف والتراث الرمزي اللامادي الذي تعرفه الجماعة في سياق تطوراتها التاريخية الطويلة المدى. ومنذ القديم، ظل الإنسان يصنع تميزه داخل محيطه العام بابتكار أشكال التعبير عن إنسانيته في مختلف المواقف الخاصة، بالفرح وبالحزن، بالسعادة وبالتعاسة، بالتعاضد وبالتنافر، بالفردانية وبالانتظام داخل نسق السلوك العام المؤطر لحياة الفرد والجماعة.
يمكن القول، إن هذا التراث الرمزي الإثنوغرافي والسوسيولوجي يقدم مادة خام لدراسة تاريخ التمثلات الجماعية تجاه قضايا محورية في وجود الفرد وفي أنماط تدبير استمرار بقائه ودوام إبداعه الحضاري، مثل علاقته بذاته وبالآخر وبمحيطه الطبيعية وبمصادر عيشه وبالقوى الخارقة وبالغيبيات… لذلك، تزخر جهات العالم بأشكال متباينة لهذه التعبيرات الجماعية عن حالة الانتماء الجماعي وعن المصير الجماعي، مما يمكن تلمس أوجه استمراريته في مجالات عدة من أنماط تدبير السلوك اليومي، ومن أنماط التفكير والمعتقدات الجماعية.
ولعل من عناصر قوة هذا التراث، صموده أمام الزمن وقدرته على التوثيق لما لا يمكن التوثيق له في الكتابات التاريخية الكلاسيكية والمدرسية، نظرا لانسيابية انتقاله عبر العصور والأزمنة، حاملا لقارات هائلة من التمثلات الجماعية التي تتيح إمكانيات هائلة لفهم أسباب التحول في المجال وفي الذهنيات وفي السلوك وفي الموقف. وإذا كانت الكتابات التاريخية الكلاسيكية قد سكتت عن رصد تمظهرات التراث الشعبي اللامادي، بالنظر لخروجه عن سياق التدوين العالم للوقائع وللأحداث المادية المباشرة، فإن تطور مناهج البحث التاريخي المعاصر انتهى بإعادة تصحيح هذه العلاقة المتنافرة مع هذا التراث الرمزي الموجه لسلوك الفرد والجماعة. فلا يمكن تفسير الكثير من المواقف الجماعية والممارسات الشعبية إلا بالعودة لتفكيك مضامين التمثلات والمعتقدات الشعبية الدالة على مختلف أوجه تفاعل الإنسان مع وسطه.
لا يتعلق الأمر بانبهار غرائبي مهووس بعناصر الإثارة، ولا بمرجعيات الأصل والعرق والسبق، بقدر ما أنه انفتاح علمي لتشريح نظيمة الرموز الصانعة للمخيال الجماعي المسؤول عن أشكال انتظام المجتمع داخل مرجعيات مشتركة في التعاطي مع الواقع، وفي فهمه، وفي استيعابه، ثم في توجيهه وفق ما يخدم مصلحة الجماعة، حيث تنصهر الذات الفردية داخل الذات الجماعية في إطار انتماء هوياتي مميز وفريد. ونتيجة لنضج هذه الرؤى العلمية، أضحت عودة المؤرخين مثيرة للاهتمام بدراسة مخلفات هذا التراث اللامادي كمدخل مؤسس لآليات فهم التعبيرات المادية والسلوكية التي تطبع أنماط تدبير المعيش اليومي المادي للمجتمع.
في سياق هذا الاهتمام المتجدد، يندرج صدور كتاب «ماطا في الذاكرة الشعبية بين الصمود والاندثار»، للأستاذ محمد أخريف، سنة 2022، وذلك ضمن منشورات جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير، في ما مجموعه 31 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. ويمكن القول عموما، إن الكتاب يقدم معطيات عامة حول احتفال ماطا الذي تتفرد به منطقة شمال غرب المغرب عن سواها من باقي جهات البلاد، كتعبير عن ضرورة مجتمعية تربط الإنسان بعناصر وجوده الأبدي، أي الأرض والفرس. فطقس ماطا تعبير عن ارتباط إنسان منطقة جبالة بالأرض وبالزراعة وبتربية الماشية، وما تبني «دمية ماطا» بدلالاتها الرمزية العميقة المرتبطة بالخصب وبعطاء الأرض، إلا إفراز لجهد جماعي لعقلنة الاستغلال الجماعي للأرض في إطار ما يعرف بظاهرة «توازة» أو «التويزة». يقول الأستاذ محمد أخريف محددا الأصول الميثولوجية والأسطورية لمفهوم ماطا: «هذا الطقس المرتبط بسباق «ماطا» ترجع أصوله إلى عهود موغلة في القدم، ونعتقد أن دمية ماطا لها أصل أمازيغي، وربما رمز لإلهة كانت تعبد قديما مثل إلهة الخصب، لأن الاحتفال يقع في فصل الربيع الذي يرمز للخصب أيضا. فالعادات والطقوس تبقى مختبئة عبر الزمن داخل ثنايا الذاكرة الفلكلورية للإنسان. وربما وقع تغيير لكثير من الطقوس بعد انتشار الإسلام في المغرب ومنها طقس ماطا نظرا لتغيير منظومة القيم…» (ص. 12).
يرتبط طقس ماطا بفصول جني المحصول الفلاحي في فصلي الربيع والصيف، ويتخذ طابعا احتفال جماعي في شكل سباق للخيول يتقاطع مع مظاهر الفرجة في مواسم «التبوريدة» المعروفة في جهات مختلفة من المغرب، لكن طقس ماطا يختلف عن «التبوريدة» بعدم استعماله للبارود وتركيز كل مظاهر الفرجة حول «الدمية» التي تحفل بالرموز وبالدلالات المتوارثة عن العهود السحيقة. وفي الاحتفال، تحضر المعتقدات الجماعية المحلية المؤطرة لمختلف مظاهر التعاضد المجتمعي، مثل تقاسم أعمال تنقية الحقول من الطفيليات، والتبرك بأولياء المنطقة، والتباري في توظيف أهازيج «عيوع» المعبرة عن صوت المرأة الملتحمة بالأرض وبالتراب وبالمصير المشترك، الأمر الذي انتبه له الأستاذ أخريف أثناء تجميعه للمحكيات الشعبية وللأزجال ذات الصلة، وكذلك أثناء انفتاحه على الكتابات المغربية والأجنبية التي اهتمت بالموضوع، مثلما هو الحال مع كتابات المريني العياشي وإدوارد ميشو بلير.
هي ماطا، أو احتفالية ماطا، حيث يحضر التاريخ قويا، ويحضر المقدس عميقا، وتنبعث عناصر الفرجة لتلتحم بالأرض وبالخيل وبإرادة الإنسان في تطويع الطبيعة والمحيط.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 12/09/2022