في مشروع برنامج العمل لمجلس مدينة الدارالبيضاء ، المعروض حاليا على أنظار المنتخبين لمناقشته وإبداء رأيهم فيه، تم تخصيص مبلغ 1871 مليون درهم من أجل النهوض بالمجال البيئي للمدينة، ويبقى هذا الرقم هو أكبر رقم مالي في البرنامج المطروح للمناقشة، بعد قطاع التنقل وقطاع الماء والكهرباء والتطهير السائل، وهي القطاعات التي خصص لها البرنامج مجتمعة مبلغ 6162 مليون درهم، نظرا لأهميتها القصوى بطبيعة الحال.
مجال البيئة هذا ستسهم الجماعة في ماليته بنسبة 37 في المئة في ما سيسهم متدخلون آخرون بنسبة 73 في المئة، ويظهر وكأن الجماعة تريد أن تبرز بأن قطاع البيئة سيكون من أولى اهتماماتها ومشاغلها خلال هذه الولاية.
في تفاصيل أجرأة هذا « الحلم « تخط مسودة البرنامج بأن الجماعة تريد أن تحقق مساحة 5 أمتار مربعة من المساحات الخضراء لكل قاطن بهذه المدينة بدل متر مربع واحد، التي كان قد حددها المجلس السابق دون أن يستطيع استكمال الحلم، وهو الأمر الذي يتطلب منها البحث عن ما لا يقل عن 4000 هكتار من الأراضي لتنزيل هذا المشروع، من الوهلة الأولى يبدو أن هذه المهمة صعبة وصعبة جدا، فنحن بصدد برنامج عمل وليس بصدد برنامج تنموي حيث هناك متسع للحلم والتوقع، أما برنامج العمل فمن الواجب أن يكون قابلا للتنفيذ والتنزيل بدون تردد، خاصة أن مساحته الزمنية ضيقة جدا، فمساحة 4000 هكتار من الصعب إيجادها في مدينة أنهكها الإسمنت ونهم جل عقاراتها الفارغة، كان من السهل جدا على هذا المجلس أن يلتفت جهة مساحات قابلة لأن تتحول إلى منتجعات إيكولوجية فقط، ووجب اتخاذ إجراءات إدارية، من هذه الفضاءات الروضة المنسية المتواجدة بعمالة مرس السلطان الفداء، التي تحولت إلى مرتع للمهاجرين الأفارقة واللصوص، ومستقر للنفايات الهامدة في الآونة الأخير، في هذه الورقة نسلط الضوء على هذه الروضة وعلى الحدائق التي تركها لنا المعمر دون إضافة ملفتة من المجالس المتعاقبة على تدبير شؤون العاصمة الاقتصادية …
موضوع الحدائق الكبرى التي تكون منتزها بمواصفات عالية توقف منذ القديم في الدارالبيضاء، فمعظم المجالس المتعاقبة لم يكن لها هذا الهم بل أجهزت عن سبق إصرار على ساحات كان من المفروض أن تفي بهذا الغرض، وفوتتها لمنهشين عقاريين حولوا العاصمة الاقتصادية إلى غابة من الإسمنت.
منذ الحماية ليست هناك بصمة في هذا الباب، لتبقى أهم حديقة شيدت هي حديقة الجامعة العربية، التي أحدثها» ليوطي» وسميت على اسمه في تلك الفترة، ليتغير اسمها خلال الاستقلال، وهي حديقة اختير لها موقع ممتاز يجاور كل الإدارات الأساسية في تلك الحقبة وأيضا كل المراكز المهمة تجاورها الكنيسة وتحيط بها المطاعم والمقاهي ودور السينما وغيرها، تتوزع أشجارها المختلفة وأغراسها على مساحة 30 هكتارا، حيث صممها المهندس الفرنسي «ألبير لابراد « في العشرية الثانية من القرن العشرين على طراز الحدائق الفرنسية، ظلت متنفسا ومنتزها للساكنة وزوارها ومازالت إلى حدود الآن نقطة جذب للسياح..
قبلها وبالضبط في سنة 1907 كان الفرنسيون قد أنشأوا حديقة» مردوخ»، وهو اسم يعود لأحد التجار الإيطاليين «مورضاك»، وشكلت منتزها لساكنة تراب مرس السلطان رغم أن مساحتها لا تتجاوز الهكتارين، أعيدت تسميتها في سنة 2006 حيث أطلق عليها اسم «الإيسيسكو»، عندما تمت إعادة هيكلتها بعد تدهور دام سنوات طويلة، أعقبه تنديد واسع من لدن المواطنين ومنظمات المجتمع المدني وحافظت عملية إعادة التأهيل على الهندسة التي تركها مصممها المهندس الفرنسي «ألبير تاغديف»..
حديقة أخرى بنيت في عهد الحماية وتعد متنفسا لساكنة درب السلطان وبوشنتوف والأحياء المجاورة هي حديقة»لارميطاج»، التي توزعت على مساحة 17 هكتارا ووضع تصميمها في سنة 1917 المهندس هنري برويست، وإذا ما قمنا بقراءة في تواريخ الإحداث سنجد أن الإدارة الفرنسية كانت لها رؤية متكاملة لأن فترات إحداثها متقاربة، بل كانت هذه الحدائق هي المدخل لتصاميم باقي المنشآت التجارية والخدماتية وغيرها…
شامة بنت امسيك ربما تأثرت بالنظرية المعمارية لليوطي وبما أن عائلتها كانت من أعيان العاصمة الاقتصادية في فترة من فترات تاريخ المغرب، أهدت المدينة هكتارات شاسعة بغية تشييد مقبرة للمسلمين وبالقرب منها إنشاء حديقة ومنتزها ينفس على الساكنة، بالفعل أحدثت المقبرة وهي المعروفة لدى أبناء الدارالبيضاء باسم «الروضة المنسية»، المجاورة لطريق أولاد زيان، لكن المسؤولين كانت لديهم نظرية أخرى بخصوص الهكتارات التي ستشيد فيها الحديقة حيث ستبني فوقها محطة أولاد زيان بالإضافة إلى مشروع سكني أودى بمن أودى إلى السجن بعد اختلالات عرفها المشروع، وأغنى من أغنى، ولمكر الصدف ارتأى المسؤولون إحداث محطة طرقية لن تكون إلا ملوثة للبيئة، عكس ما سعت إليه من وهبت الأرض لمشروع صديق للبيئة، مفارقة غريبة خاصة أن المقررين يعلمون أكثر من غيرهم أن العقارات التي تدخل في نطاق الهبة يجب أن تحترم بنود ما وثق فيها، وإلا من حق الواهب استرجاع ملكه الذي وهبه لغرض ذي نفع عمومي، وبناء على هذا فإن مشروع المحطة الطرقية تعد مداخيله المالية على الجماعة الحضرية للدارالبيضاء باطلة لأنها لا تمتلك العقار، وبالتالي لا يحق لها إصدار أي مقرر بشأنه وتلك حكاية أخرى، حكاية رسمت معالم خريطة انتخابية على مر سنين.
بالعودة إلى الروضة المنسية فإن أجل الدفن فيها انتهى منذ أكثر من 40 سنة، أي من حق وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية أن تتخذ الإجراءات الشرعية وتفتي بتحويلها إلى أرض عادية قابلة لأي مشروع خدمة للعموم، وقد سهل تصميم التهيئة هذا الأمر في سنة 2014 حينما جعل في مخططه الروضة المنسية قابلة لأن تتحول إلى متنزه كبير خاصة وأنها تنتشر على مساحة 10 هكتارات، المثير في الأمر أن مجلس المدينة لم يفعل أي إجراء لتحقيق هذا المبتغى، لتظل الروضة المنسية مرتعا للمشردين والفارين من العدالة وملاذا للمجرمين ومرتعا خصبا لسويعات هوى بعيدة عن الأعين المتلصصة، وقبلة للمهاجرين الأفارقة، وشاهدة على تفاصيل حياة أخرى لا يعلم بها إلا من فتح شرفته من ساكنة المباني المطلة عليها، ومؤخرا تحولت إلى مطرح للنفايات الهامدة، أمام كل هذا نجد المجلس غارقا في أمور أخرى، بدل الانكباب على مشروع حقيقي بخصوص هذا العقار الفسيح،الذي قد تتنفع به الساكنة خاصة أن موقعه استراتيجي يجمع بين مناطق عديدة كالحي المحمدي والصخور السوداء ومرس السلطان والفداء وسيدي عثمان، وسيكون مدرا للربح بالنسبة لخزينة المدينة التي تعيش حالة إفلاس غير معلنة، فعلا كانت هناك محاولة لم تجد السند من طرف مقاطعة الصخور السوداء قبل ولايتين، حين خص تصميم التهيئة القديم المقبرة كمساحات خضراء، وفعلا انطلقت الإجراءات الإدارية من أجل إقامة منتزه عمومي، لكن تدخلت الوكالة الحضرية من جديد وألغت التصميم وأعادت العقار إلى وضعه الأول والأزلي أي إلى مقبرة !
ما الضير أن تنكب الجماعة على هذا الموضوع من جديد بدل التيهان في عملية بحث عن عقارات لن تجدها وبمبالغ مالية لاقبل لها بها، اليوم تتوفر كل الشروط فالدولة تعطي الأولوية للقطاع البيئي بشكل كبير، والمكتب المسير لمجلس المدينة يتكون من الأحزاب المشكلة للحكومة، أي أن كل الحلول بين يديه قبل أن يضع المنهشون أياديهم على هذه الهبة؟!